(عند تصفح هذا البحث الذي يتكلم عن الأدب الشعبي وإظهار خصائصه وموضوعاته،جذبني لأن أنقله هنا للمناقشة والتتبع في دقة معانيه)

الأدب الشعبي مفهومه وخصائصه
كامل مصطفى الشيبي
الأدب الشعبي:
وجه من وجوه التراث الشعبي الذي يستغرق مظاهر الحياة الشعبية قديمها وحديثها ومستقبلها وهو أبقاها على الزمن لأن اللباس يتلف
والآلة الموسيقية تتحلل والصناعات الخشبية والفخارية وما إليهما تزول
والكلام يبقى طرياً ندياً لا يزيده الزمن إلا حياة وقيمة وأهمية ، إذ هو ثابت لا يحول ، تتناقله الألسنة وتحفظه الصدور وتتسلمه الأسماع والأفهام ، بوصفه أمانة عزيزة ، وإرثاً تسري فيه أرواح الأجداد .
وحيث أننا نعلم أن العرب كانوا أميين ، ينتشرون في هذه البقاع الفسيحة من الأرض بصحراواتها ووديانها ، بهضابها وسهولها ، بجبالها وجروفها بماشيتها ومصطافاتها ، بمدنا وقراها ، بخيلها ومضاربها ، فإن تعبيرهم عن أنفسهم وأوضاعهم وأحاسيسهم لابد أنه كان معاصراً لوجودهم . من هنا فإن المنطق يقضي بسبق الأدب الشعبي على هذا الأدب التقليدي المعروف ، إذ الأدب الشعبي ، الذي يقوله سواد الناس من رعاة وسقاة ، وزراع ، وصناع وغزاة وصعاليك وصبيان وشيوخ ورجال ونساء ، هو الذي يصور الحياة بتفصيلاتها ووقائعها لا الأدب التقليدي الخاص الذي تحكمه التقاليد والرسوم والآداب الاجتماعية ومجالس الشيوخ والملوك .
ولا عبرة هنا باللغة ، إذ كانت واحدة في كل الطبقات ولم يتخلخل بناؤها إلا بعد أن تسرب اللحن إليها في أواسط العهد الأموي وأوائل العهد العباسي بفعل الظروف المعروفة ، وأهمها الاختلاط الذي حدث بين شعوب الأرض تحت راية الإسلام العظيم ، مما أدى إلى اختلاط اللغات وبلبلة الألسن ، وحاجة المجتمع إلى التحكم في هذه الظاهرة وحفظ اللغة العربية من الضياع ، فجاءت قوانين النحو الصرف ، وجاءت ضوابط التعبير ، وجاءت أمور كونت حاجزاً بين عهد وعهد وسداً بين بيئة وبيئة ، فانكشف الأدب الشعبي في شكليه البدوي والحضري ، وارتفع الأدب التقليدي ، لوصفه الآخذ بالضوابط الجديدة ، فغطى بظله على ما عداه ، وعني به الناس ، وتسلمته المجتمعات وعنيت به الطبقات وسجله الرواة والمصنفون ، وظل الأدب الشعبي ، في حالة هذه ، منقطعاً مستوحشاً ، بالقياس بالتقليدي ، ينتظر العناية والرعاية ، والتسجيل ، وذلك ما فعل غيرنا في الماضي – وإن تأخروا – ونفعله اليوم في سرور وفخر وسعادة .
وعلى هذا ، فالرأي عندنا أن الأدب الشعبي أقدم من أخيه التقليدي الذي صار يعرف ، بالفصيح . وغداً الشعبي بفعل التقصير في التعلم والطبقية المستجدة ، وسكنى المدن والخضوع لقوانينها ، والتحضر الذي طرأ على البيئة العربية بفعل ارتفاع مستوى المعيشة وزيادة الثروة القومية ، كما يقال الآن ، هو الأدب العامي الملحون – وإن كان البدوي منه أقرب ، من الحضري ، إلى صفاء التعبير وقلة الشوائب والحفاظ على التقاليد والسنن السابقة .
وفي محاولة منا لقص أثار البدايات الأدبية في اللغة العربية ، يبدو أن السجع كان الصورة الأولى من التعبير الفني ، ومن الطبيعي أن يظهر على أيدي الكهان في المعابد الكثيرة التي انتشرت هنا وهناك إرواءً لعطش الإنسان العربي إلى الاتصال بالسماء ونيل الأمان من القوة الرهيبة التي تغير الفصول وتحيي وتميت ، وتضر وتنفع .
من هنا تقرب الكهان إلى عالم الجبروت والملكوت بجمل نمقوها إجلالاً له وهيبة وخوفاً وطمعاً كما يلبس الإنسان أحسن ما عنده عند لقاء السلطان أو عند زيارة الأخذان ليعبر عن الاحترام والتقدير والمحبة أو المهابة وما إلى ذلك ..
وهكذا سمعنا واحداً من كهان العرب يسجع ويقول :
( إذا طلع السرطان استوى الزمان وحضرت الأوطان وتهات الجيران ) (1)
وقال آخر : إذا طلع الدبران توقدت الحزان وكرهت النيران يبست الغدران
ورمت بأنفسها ، حيث شاءت ، الصبيان ) (2)
ثم تطور هذا السجع ، ذو الجمل القصيرة ، التي لا تعنى بالوزن ولا الإيقاع ، إلى جمل متساوية ذات أوزان متماثلة أطلق على وحداتها كلمة ( شطر ) ، نسبة إلى ضرع الناقة – فيما يبدو – وتشبهاً به ، وعلى مجموعها مصطلح ( رجز ) .
وقد استمد العربي رجزه هذا من ناقته أيضاً تشبهاً بها – بحالها ( إذا أصابها داء في أعجازها فتضطرب رجل البعير أو فخذاه ، إذا أراد القيام ) (3)
ولهذا فالناقة الرجزاء هي : المريضة بداء الرجز عندهم ، وقد وصفت بأنها ( إذا نهضت من مبركها لم تستقل إلى بعد نهضين أو ثلاث ) كما في لسان العرب لابن منظور ( مادة رجز ) . وهكذا فالجهد الذي تبذله الناقة المريضة في النهوض مرتين وثلاثاً ، حتى تقوم ، هو الإيقاع الذي نسج على منواله أول شكل من أشكال الشعر العربي الذي قام على أساس من الشطر الواحد لا البيت ذي الشطرين كما تطور الأمر فيما بعد .
وقد بقى الرجز على ما كان عليه ، كما فعل سجع الكهان ، وسمي الشعر الجديد ذو الشطرين بالقريض ، استمداداً من فصله نصفين كما يفعل المقراض بالأشياء . وتعبيراً من هذه الظاهرة سمعنا ربيعة بن ثابت بن لجأ الأسدي الأنصاري الرقي ( ت بين 198 و303هـ / 813-818م ) يقول ( رجزاً ) :
أرجزاً تريد أم قريضاً
أم هكذا بينهما تعريضاً
كليهما أجيد مستريضاً (4)
ومن نماذج الرجز الأولى التي تصلح مثلاً له ، وتستغرق شروطه وقول الراجز :
دع المطايا تنسم الجنوبا
إن لها لنبأً عجيباً
حنينها ، وما اشتكت لغوبا
يشهد أن قد فارقت حبيبا (5)
وللاحتجاج على أن الرجز شعر شعبي ذكر ابن وهب الكاتب ( أبو الحسن إسحق بن إبراهيم ، ت بعد 335هـ/ 947م ) أن ( الراجز الساقي الذي يسقي الماء ) (6) ,
وأن الأصل في الراجيز – وهي القطعة الشعرية من الرجز – ( أن يرتجز بها الساقي على دلوه ، إذا مدها . ثم أخذت الشعرا فيه ، فلحق بالقصيد ) (7) ،
أو لحق به القصيد كما ينبغي أن يقال .
وبهذا يتبين أن الرجز شعر شعبي يقترن ترديده أو إنشاده ، أو الغناء به على الصحيح ، شغلاً للنفس عن مشقة العمل وتسلية لها من الهموم وشحناً لها بمزيد من الطاقة للاستمرار في ما هو فيه من جهد .
ولأن هذا الحكم صحيح ، رفض واضعو العروض العربي ، فيما بعد ، أن يعدوا الرجز شعراً وقرنوه بالسجع من جديد (8) لكن ، إذا كان العرب ( يترنمون به في عملهم وسوقهم ويحدون به ) (9) لابد من عده شعراً شعبياً ، وقد دخل الشر من أوسع أبوابه ، فيما بعد ، واعترف به ، ورد إليه اعتباره فكان منه – وإن كان بدائياً تلقائياً جملياً .
ومن تحصيل الحاصل الإشارة إلى أن الرجز كان ، فوق مصاحبته للإنسان العربي في خصوصيات حياته ، في بيته وعمله وسفره ، إطاراً للحماسة الحربية والفخر بالنفس أثناء القتال بخاصة – والأمثلة على هذه الظاهرة مما لا داعي إلى إنفاق الوقت والحيز فيه .
وإذا استقر بنا هذا الوضع ، ساغ لنا أن نجعل الرجز منطلقاً للقول :
إن للأدب الشعبي فنوناً تختص به وتتضمن معانيه التي تتدفق بها شجون الحياة ، وينبض بها نبضها الذي يعد الدقائق والثواني والأيام ، ثم عد السنين والأجيال والقرون .
ومن هذه الفنون ما يصور الصلة الإنسانية بين الأم والطفل ، وهي صلة ، قد لا تعد من المواقف المهيبة الرهيبة ولا يوصف موضوعها بالجلالة والسمو ، لكنها ، بإنسانيتها وطبيعتها ، تعد بالمقياس الحاضر نفسه تجارب شعرية حقيقة لصدروها عن التجربة والإحساس لا عن الثقافة والتعلم والإنشاء .
من هنا فإن ترقيص الأطفال ، الذي يعبر عن هذه الصلة ويصورها شعراً ، إنما هو أدب شعبي أصيل يصدر من شغاف الأم وهي ترى ثمرة أحشائها بين يديها تخاطبها وتتمنى لها الأمنيات وتفخر بها وتدللها وترقصها حتى تطيب نومتها ولا عجب أن يكون الرجز هو الإيقاع الذي انصبت فيه هذه الأشعار ، أو فلنسمها الأغاني المرقصة ، فهو الوزن الأقدم للتعبير الشعري الذي يصلح للصلة القدمى بين الأم ووليدها ، وهو إيقاع أو وزن يحفل بالحركة والنشاط والسرعة والحماسة .
فمن هذه الأشعار ما يرقص بها الذكر ومنها ما ترقص بها الأنثى .
فمن نماذج الأولى قول أمنا التراثية :
يا حبذا ريح الولد
ريح الخزامي في البلد
أهكذا كل ولد
أم لوم يلد مثلي أحد (10)
وقالت أم أخرى ترقص بنتها :
ماذا علي أن تكون جارية
تمشط رأسي وتكون الفالية
وترفع الساقط من خماريه (11)
وما أجل هذا الرجز الصريح البسيط الصافي من الأكدار ومن الأغراض التي تناولها الأدب الشعبي القديم ، ما رأينا من النصوص التي يرددها الكهان ، وكذا قصص الأبطال ووقائع الحروب وأحاديث السمار التي يراد بها ( الخرافات الموضوعة من حديث الليل ، أجروه على كل ما يكذبون من الأحاديث وعلى ما يستملح ويتعجب منه ) (12) ، وأطلقوا عليها اسم أحاديث خرافة (13) .