لعل المغترب الذي عاش مثلي في بلد غير ناطق بالعربية أقدر من العربي الذي يعيش في وطنه على ملاحظة معنى "اللغة الأم" ومعنى تعلم لغة ما.
حين تصديت لتعليم بعض الأجانب اللغة العربية اصطدمت بصورة واضحة بمشكلة عدم إعراب اللغة العربية المحكية، إذ حين كنت أعلم هؤلاء القوم اللغة العربية الفصحى كانوا يصطدمون حين "يجربونها" في بلاد العرب أنها ليست هي تماماً اللغة المحكية، وأنهم لو أرادوا فهم ما يحكيه العرب فإنهم بحاجة إلى تعلم كثير من المواضعات العامية.
فرأيت أن لغتنا الأم التي نتعلمها في البيت هي لغة شقيقة للفصحى ولكنها ليست هي هي، وكان السؤال هو: كيف نبني على أساس هذه اللغة المحكية عملنا التعليمي الذي يقود إلى إتقان الفصحى؟
قابلت في الغربة حالات من العرب الذين عزلوا عن الفصحى وتعلموا المحكية فقط، ومن هؤلاء مثلاً بعض سكان "لواء إسكندرون" في سوريا، والواحد من هؤلاء يكلمك بلهجة أهله في مسائل الحياة اليومية لكنه يقف حائراً إن أراد أن يتكلم بأي موضوع له علاقة بالسياسة أو الاقتصاد أو ما شابه، عندها كان سيتكلم التركية لولا أنك لا تفهمها فيلجأ إلى اللغة الأوروبية المشتركة بينكما.
وقد علمت طالبة عربية العروض العربي(لأنه جزء مما تفيد منه في الجامعة) وكانت النتيجة ظاهرياً جيدة جداً، فالطالبة تعلمت التقطيع ومعرفة الأبحر، لكنها في المقابل لم تكن تعرف من العربية إلا تلك المحكية، ومن الطريف حقاًً أن تسمعها وهي تحاول شرح أبيات مشهورة من الشعر العربي كقول أبي الطيب:
عش عزيزاً أو مت وأنت كريم...بين طعن القنا وخفق البنود
حيث تكتشف في الشرح أنها لا تعرف من معاني "عزيز" إلا ما تعرفه الدارجة من معنى "العزيز على القلب" وأن "كريم" تعني صرف النقود بلا بخل، أما "طعن القنا وخفق البنود" فهو مما لا يدخل ضمن معارفها اللغوية طبعاً!