النتائج 1 إلى 12 من 12

الموضوع: نحن ولغتنا - صرخة غيرة

العرض المتطور

المشاركة السابقة المشاركة السابقة   المشاركة التالية المشاركة التالية
  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Nov 2005
    المشاركات
    15,971
    الأخت الكريمة الأستاذة يسرى

    كل عام وأنت بخير

    الدكتور عبد الله الفيفي مسلم عربي بار بعروبته وإسلامه ولا أظنهما ينفصمان، وأنى ذلك والقرآن عربي وبه تنزهت العروبة عن دعاوى الجنس والعنصر وصارت وعاء للإسلام، فما أخلص مخلص لدين الإسلام إلا وحلت العربية في قلبه، ولا أحب العرب محب إلا وأجل الإسلام مسلما كان أو إسلاميا ككثير من بني أمتنا من المسيحيين.
    تحية بالمناسبة للدكتور الكريم. وها أنا أتشرف بنشر ما يصلني من مقالاته فور وصولها.


    مساقات

    د. عبدالله بن أحمد الفيفي


    http://www.al-jazirah.com.sa/culture...7/fadaat19.htm


    http://www.al-jazirah.com.sa/culture...092007/T08.pdf

    والذين يرون أن الكتابة حول قضايا اللغة والفكر ضربٌ من الترف، وأن الأجدى أن نكتب عن قضايا أكثر حيويَّة، تمسُّ حياة الناس، كارتفاع أسعار الرُّزّ مثلاً، بدل انشغالنا بالكتابة حول العاميَّة والفصحى، أولئك الذين يردِّدون بحقّ أو بباطل شعار: أين هموم المواطن العربي اليوميّة مما تكتبون؟ قد لا يدركون أن الحديث في اللغة ليس ترفًا، بل فيه أُمُّ معاركنا المعاصرة؛ فكل إشكاليَّاتنا الحضاريَّة ومشكلاتنا التنمويَّة منظومة واحدة، تنبثق من الحرف واللغة وتصبُّ فيهما، بشكلٍ أو بآخر، فالإنسان هو لغته، فكراً وتربية وإنتاجاً وتنمية، ومواجهة مع الذات والآخر.

    لا هويَّة، ولا وحدة، ولا تقدَّم، ولا حتى فهماً قوميّاً أو تفاهماً أُمميّاً، في ظلّ بلابل لغويّة تُفسد العقول فيفسُد الواقع والمجتمع، ليس على مستوى اللغة في ذاتها فحسب، ولكن على مستوى ما تحمله اللغة من معطيات قيميّة وفكريّة كذلك.

    ولقد كتبتُ منذ قرابة عشر سنوات أو تزيد، في صحيفة (المسائية) أوّلاً- عبر زاوية (شفق)، بملحق (إبداع)- ثم في صحيفة (الجزيرة)، في ملحقها ومجلّتها الثقافيّة، سلسلة من المقالات حول هموم العربيّة ومصادر ضعفها وهوانها، تحت عناوين مختلفة تعالج شتّى قضايا اللغة، مثل:

    (دعوة إلى تجديد الخطّ العربي)، (مصادر الضعف اللغوي: هوان العربيّة على العرب)، (مصادر الضعف اللغوي: عصور الانحطاط)، (تاريخ الجزيرة العربيّة مع العاميّة)، (العاميّات ومصاحف صِفّين)، (جَدِّي الشاعر العاميّ.. وأنا)، (عاميّة البيت والمدرسة)، (تعليم أولادنا بالعاميّات)، (النُّفرة من الفصحى)، (عُقدة مدرِّس اللغة العربيّة)، (مصادر الضعف اللغوي: وسائل الإعلام)، (مصادر الضعف اللغوي: الازدواج اللغوي)، (حالات الازدواج في اللغة)، (تعليمنا.. والحَول الإملائي)، (وحدة الوطن= وحدة اللغة)، (مجمع اللغة العربية السعودي)، (العاميّ والفصيح)، (التفصيح.. والتعميم)، (لغة الفنّ والإعلام)، (الغناء واللغة)، (في الثقافة غير الرسميّة)، (الأطفال يفضّلونها فصحى، أيّها الكبار)، (الحميّة اللَّهجيّة)، (نحو معجم تاريخيّ للغة)، (الأنباط والشعر الشعوبيّ)، ممّا لعلّي أجمعه مستقبلاً في كتاب، إن وُجد الناشر.

    وبعد عِقد من السنوات والكتابة يحقُّ لي أن أحتفل بالخيبة المؤزَّرة، فإذا صحَّ أن (لا يأس مع حياة)، فالأصح أن (لا حياة لمن تنادي)، الحال هي الحال، والعرب ما يزالون هم العرب، بل إن الواقع إلى تردّ مطّرد.

    ولقد باتت الإشكالية الآن، كما أوضحتها في مساقات سابقة، غير قاصرة على الجانب اللغويّ، على خطورته، وما ينبغي لها أن تبقى كذلك، بل هي اليوم ثقافيّة، لما تنطوي عليه من ترسيخ قِيَم البداوة، واستحياء مظاهر التخلّف وتنميتها، وتمجيدها، في مقابل ازدراء قِيَم الحضارة، أو تهميشها وتسفيهها، مع التشكيك فيها، ورميها بكل الموبقات، حيث لا شِيَم هناك، ولا عادات كريمة، ولا تقاليد اجتماعيّة سامية؛ لا كَرَم، ولا شجاعة، ولا نُبل، ولا أصالة مَحتد، فهذه كلها - كما يحلو لنظرتنا السائدة - حكرٌ على بيئة البوادي أو المجتمعات المنغلقة.

    فيما الحواضر- القريبة فضلاً عن البعيدة- وحسب مخيالنا البالي، مرتعٌ للفساد والإفساد! ويأتي ترسيخ تلك القِيَم العمياء والمفاهيم المضلّلة من خلال اللغة والآداب الشعبيّة، وباسم المحافظة، والأصالة، والعراقة، وشِيَم العرب، وتراثهم الشعبي أو الوطني.

    حيث باتت مفاهيم (التراث)، و(الشعب)، و(الوطن)، تُختزل في تلك البقايا الباهتة من موروثات قَبَليَّة وإقليميَّة، تعود إلى عصور التخلُّف من تاريخ الأُمّة العربيَّة والإسلاميَّة.

    هذا ناهيك عمَّا لا تخلو الحمولة منه من بعث نعراتٍ اجتماعيَّة، لها رصيدها الوافر من ذاكرة التنافر وثارات الأمس غير المأسوف عليه.

    وما أنا حول هذه القضايا إلا واحد ممّن تضيع صرخاتهم في وادي العروبة.

    لعلي أذكر من جملتهم على سبيل الشاهد ما كتبه الأستاذ الدكتور عبدالسلام المسدي قبل سنين قائلاً، ربما في صحيفة (الرياض):

    إن هناك تمويلات ضخمة لتشجيع اللهجات المختلفة، وإحياء المندثر منها، واللعب على وتر الخصوصيَّات، كتكتيكٍ مرحليّ للقضاء على اللغة الأمّ أولاً، ثم تعميم اللغة الكونيّة الأقوى ثانياً. لقد مثّلت اللغات الأجنبية في السابق عدوَّاً أيديولوجيًاً، أمَّا اليوم فقد أصبحت اللهجاتُ المحليَّة هي العدوُّ الموضوعيُّ.

    وأزعم أن اللغة العربيّة، كحامل للهويّة وضامنة لها، ما يتهدّدها هو صمت المثقّف على زحف اللهجات الذي يغزو الإبداع الثقافي.

    المثقف العربي اليوم بكل أسف ومرارة يتحوَّل إلى متواطئ على اللغة، بقصدٍ وبدون قصد؛ وهو بالتالي متواطئ على الثقافة والهويَّة الثقافيَّة ومتواطئ على ذاته، ويبدأ بنفسه أوَّل مشهدٍ على تراجيديّةٍ انتحاريّة! لقد سكتنا كمثقَّفين على تلهيج الإعلام، فإيَّانا أن نسكت على تلهيج الثقافة، كي لا نرى في ذلك نهايتنا المحتومة. وتحت ستار الحداثة أصبحنا نقرأ قصّة عن النوبة بلهجتها، ومقالاً باللهجة العاميّة المبتذلة الخالية من الجمال.

    زَحْف اللهجات هذا يهدِّد اللغة الأمَّ في مقتل. وبدلاً من معالجة الأُمّيّة استسلمنا إلى ما يُرضي العامَّة. ولا أكتمكم أن المثقّف العربي قد يعرف لغة أجنبيَّة ويُتقنها كأهلها، ولا يعرف لغته العربيَّة بالقدر نفسه. وهذا هو المطلوب تماماً في ظلِّ الكونيَّة الثقافيّة المزعومة: أن نتحدث لغة واحدة، وننتمي إلى ثقافة واحدة، هي ثقافة الأقوى بالتأكيد.

    ومع حلكة الليل يظل بصيص الفجر أقوى. ها هي مثلاً رسالة قارئ لا أعرفه، بعث إليَّ فيها تحية، يقول:

    (تحية مودة ومحبة لك... لقد تابعتُ ما كتبته بين الشعر العامي والفصيح، وكان آخرها يوم الاثنين الماضي في الملحق الثقافي للجزيرة - الاثنين 7 شعبان الماضي.. أحييك كثيراً على شجاعتك وقراءتك العلمية الرصينة لما يحدث في هذا المجال.. وأفيدك بأن أثر برامج (العاميّة) وما تبعها من سلوك اجتماعي خليجي والكتابات المتوالية في هذا المجال منك ومن غيرك كان لها أثر (هام) في عقول الكثيرين وبعضهم قريبون منّي بحكم مجال عملي وعلى الأخص كتاب وشعراء النبط الذين بدؤوا يدركون في الأساس ضعف اللهجة العامّة وقصر أدواتها في التعبير الشعري أو الأدبي الكبير كما هو حال الفصحى..... أعتقد يا أستاذي العزيز أن تفاؤلك مبرر بحضور حتمي للفصحى في المشهد الاجتماعي للجيل القادم على الأقل.. حتى وإن كانت المسألة معقدة بعض الشيء كونها مبنية على تأثير الكثير من العناصر الأخرى غير الشعر حيث تكون مصلحة في استمرار الجهل وإعادة إنتاجه عبر تشجيع ثقافة الصحراء والقبيلة والطائفة... إلخ. ولو ألقيت نظرة على تلفزيون (...) مثلاً لوجدت حتى لوحات المتابعة للبرامج تكتب بالعاميَّة، ومن قبل ترجم التلفزيونُ ذاتُه أفلامَ الكرتون بالعاميَّة (الخليجية) وتم عرضها.. ولا أدري ما هو الجميل في تلك اللهجة حتى تربي الأطفال عليها..؟!

    تحياتي يا دكتور لك مرة أخرى.. وأؤكد لك أن هناك الكثيرين من المهتمين والمهتمات والمتابعين بحرص.

    عبد العزيز).

    هذا صوت نموذج من نماذج على أن الرؤية واضحة لولا العواطف الغلاَّبة. فمن الصعب تجرُّد صاحب الهوى، ومن العسير على المتورِّط في مجال العاميَّة إلاَّ الدفاع عنها بكل ما أوتي من حيلة؛ لأن في ذلك دفاعاً عن نفسه، وإن رأى الحقَّ أبلج. أمَّا صاحب الفِكر والأيديولوجيا فقضيَّته واضحة، ولا يجدي معه حوارٌ أو جدال أو حِجاج.

    وحقّاً ما ذَكَره القارئ عبدالعزيز، فقد اتسع الخرق على الراقع، ومنذ حرب الخليج الثانية، والمرء يلحظ انحداراً متوالياً، وتداعيات شتّى في الوطن العربي، لا على المستوى السياسي فحسب وإنما أيضاً، وتبعاً لذلك، على صعيد الثقافة والإعلام والتربية والتعليم.

    وفي المساق الآتي تفصيل.

    لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتب«5151» ثم أرسلها إلى الكود 82244

    - الرياض aalfaify@hotmail.com

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Nov 2005
    المشاركات
    15,971

    جرش اللغة

    http://www.al-jazirah.com.sa/culture/24092007/fadaat15.htm

    مساقات
    جَرْشُ اللغة!
    د.عبدالله بن أحمد الفَيفي


    عرضتُ في المساق السابق ما أشار إليه القارئ عبد العزيز في رسالته إليّ من تردّي حالنا اللغويّة والثقافيّة، وتفشّي العاميّة والدفاع عنها عبر التقنيات الحديثة بشكلٍ لم يسبق له مثيل. وليس بخافٍ - في هذا الإطار - أن كثيراً من إعلاميينا، ومعلّمي مدارسنا، بل بعض أساتذة جامعاتنا، وفي مجال اللغة العربية نفسها، هم شعراء شعبيّون أو شعراء نبط بالأصالة، منغمسون في الحركة العاميّة، منافحون عنها، منظّرون لأدبها، مساهمون في مشروعها التاريخيّ الواسع، بولاء راسخ غالباً، فطرةً، واكتساباً، أو مداهنة، وتسليماً للضغوط الاجتماعية، التي يصعب أن تُنتزع من النفوس أو تُنازَع!

    وكما أشار القارئ الكريم فقد استبدل إعلامنا في السنوات الأخيرة ببرامج الأطفال التي كانت تستعمل اللغة الفصحى، كبرنامج «افتح يا سمسم»، مثلاً، برامج سمجة المحتوى واللغة، تُقدّم للأطفال باللهجات العاميّة، المصريّة، أو الكويتيّة، أو السعوديّة، أو اللبنانيّة. هذا فضلاً عن شبكة من (اللهوجة) اللغويّة عبر الفضاء و(الإنترنت)، حتى إن المتابع لبعض المواقع الخليجيّة على (الإنترنت) ليشعر اليوم بالقطيعة اللغويّة مع بعض ما يُكتب فيها، فهو وإن بدا بحروف عربيّة إلا أنه في خليط لغويّ عجيب، لا تدري أهو هنديّ أم فارسيّ أم بلهجة خليجيّة مختلطة عربيّتها بعُجمتها؟!

    كما أن الأذهان العربيّة - في مثال آخر - قد تفتّقت مؤخراً عن ترجمة بعض الأفلام والمسلسلات الأجنبيّة و(دبلجتها) بالعاميّات أيضاً، بعد أن كان ذلك يتمّ بالعربيّة الفصحى في القرن الماضي! ذلك وهذا.. كأنما لكي يُغلق على الذاكرة العربيّة أي منفذٍ يمكن أن تتنفّس فيه الفصحى، بكلّ ما تعنيه الفصحى من عروبة وحضارة وإسلام! بل لقد أشرنا في مساق سابق إلى أن أمواج الإعصار قد شملت كذلك بهِباتها الدّعاةَ الدينيّين، الذين بات بعضهم يتبنّى العاميّة في خُطَبه ومواعظه عبر التلفزة أو شبكات الاتصال الحديثة، ولم يبق إذن من خطوةٍ رياديّة أمامهم إلا أن يُترجموا آيات القرآن الكريم للعامّة بلهجاتهم المحليّة؛ لأن القرآن أولى بالفهم، والجمهور لم يعد يحسن لغة الضاد ولا يطيقها ولا يستسيغها، وكفى الله المؤمنين النحو والصرف والبلاغة!

    وهذه التنازلات، والتدانيات، والتبذّلات، والإسفافات العامّة المتعاقبة - حتى ممّن يعدّون في زمرة المثقّفين، وبهدف استرضاء العوامّ، واكتساب ودّهم - لم يعد لها اليوم حدّ ولا ردّ. وقد أضحى دور المثقف، بدل أن يكون الرائد في أهله، لرفع وعي الجماهير، والسموّ بذائقتهم عن واقعها البدائي البسيط، أن يمدّ صفحة عنقه لتمتطيه الجماهير، ويهبط بذوقه إلى حضيض الدهماء، إنْ كان له من ذوق يرتفع شيئاً عن أذواقهم أصلاً.. ثم لا يبعد أن يَحتبي بعدئذٍ كي يُنظّر لروائع واقعٍ متخلّف، ويحلّل جمالياته الخارقة، باسم التراث والمأثور وفرائد (الفلكلور)!

    إن العربيّة الفصحى نفسها قد مرّت بمراحل تطوّر عبر عصورها، وما زالت، ويجب أن تستمرّ، فلغةٌ لا تتطور تَضْمُر، فتَجْمُد، فتموت. غير أن التطوّر الصحيّ معنى غير التغيّر المرضيّ، أو الانحراف عن جهل، أو التخلخل المعزول عن البنية الأصليّة، التي تمثّل نسغ الارتباط الحيويّ بالماضي والحاضر والمستقبل في أي لُغة إنسانيّة حيّة. أمّا العاميّة فشذوذ، نجم لأسباب تاريخيّة معروفة، لا هي ذات أصل مستقل عن الفُصحى، ولا هي قابلة للتطوّر الذاتي، اللهم باتجاه العودة إلى الفُصحى، أو الاستمرار في تيهها الطويل وتشظّيها المطّرد، الذي لا يُهدّد الفُصحى فحسب، ولكن يُهدّد العاميّات أيضاً، وبخاصة أدبها الضائع بلا هويّة ولا انتماء، مقطوعاً من شجرة العربيّة، لا إليها ولا إلى غيرها، وتلك خسارة لأدبٍ لا يخلو - من الناحية الفنيّة - من جمال.

    أمّا البلاغيّة في حدّ ذاتها، معزولة عن قواعد اللغة، فهي موجودة في كل لغة، حتى في لغة النحل والطير، فيها أشياء من جمال وبلاغة على نحو من الأنحاء، ولكل لغة نحو! كما أن الشعريّة قائمة بخصائصها في كل اللغات البشريّة، لغة الهنود الحمر، ولغة التبت، والواق واق! أفتلك حُجج يدلي بها المُدْلُون من المشغوفين بذلك الشعر، والمحسوبين عليه، والمسوّغين لانتشار لغته، حين لا يملكون أنفسهم ولا حريّة التجرّد من العاطفة في الحُكْم؟!

    ثم إن وظيفة الشعر ليست جمالية صِرف، بل هي كذلك، وقبل ذلك وفي أثنائه وبعده، وظيفة لُغويّة ثقافيّة قوميّة. وقضية الشعريّة الحقّة هي أن يستمدّ الشعر من أصوله امتداداته الأرحب وأَوْجَ ارتقاءاته الأسمى، لغةً وفكراً، وأن يكون حلقة وصلٍ بين التراث والحاضر والقادم. ولذلك فإن من العجز أن لا يهفو شاعرٌ إلى لغةٍ أرقى من لغة الحياة اليوميّة المبتذلة، ولا يطمح إلى أن يصل بكلمته عبر المكان والزمان إلى كل من نطق لغته الأُمّ، وأن لا يُسهم في خدمة ثقافته ولغته بشيء، ناهيك عن أن يكون ضالعاً - درى أو لم يدر - في تشتيت شملها، وتمزيق أصلها، وتمييع نظامها، ومزاحمة حضورها الفاعل، تحت أي شعار أو عاطفة أو ضوء.

    ونحن نعلم أن اختلاف اللهجات العربيّة ليس بالجديد، وإنما تركة ثقيلة من انقسام اجتماعيّ وتَعازُل، وهذا ابن حزم الأندلسي (-456هـ= 1063م)، مثلاً، يشير في (الإحكام في أصول الأحكام، ج1: الباب الرابع: في كيفية ظهور اللغات، أعن توقيف أم عن اصطلاح؟) إلى: أن اللغة تبدّلت بتبدّل مساكن أهلها، فحَدَث فيها جَرْش، كالذي يحدث من الأندلسي إذا رام نغمة أهل القيروان، ومن القيروانيّ إذا رام نغمة الأندلسيّ، ومن الخراسانيّ إذا رام نغمتها. ونحن نجد من سَمِعَ لغة أهل فحص البلوط، وهي على ليلةٍ واحدة من قرطبة، كاد أن يقول إنها لغة أخرى غير لغة أهل قرطبة. وهكذا في كثير من البلاد، فإنه بمجاورة أهل البلدة بأُمّة أخرى تتبدّل لغتها تبديلاً لا يخفَى على من تأمّله. ونحن نجد العامّة قد بدّلت الألفاظ في اللغة العربيّة تبديلاً، وهو في البُعد عن أصل تلك الكلمة كلغةٍ أخرى، ولا فَرْق، فنجدهم يقولون في العنب: (العينب)، وفي السوط: (أسطوط)، وفي ثلاثة دنانير: (ثلثدا). وإذا تعرّب البربريّ، فأراد أن يقول الشجرة، قال: (السجرة)، وإذا تعرّب الجليقي، أبدل من العين والحاء هاء، فيقول: (مهمّداً)، إذا أراد أن يقول: (محمّدا)، ومثل هذا كثير. فمن تدبّر العربيّة والعبرانيّة والسريانيّة أيقن أن اختلافها إنما هو من نحو ما ذكرنا من تبديل ألفاظ الناس على طول الأزمان، واختلاف البلدان ومجاورة الأمم، وأنها لغة واحدة في الأصل.

    وعليه، فاللهجة قد تتمخّض عن لغة انفصاليّة مفارقة، واختلافها عن الأصل الجامع إنما هو من نحو ما ذكر ابن حزم من تبديل ألفاظ الناس على طول الأزمان، واختلاف البلدان ومجاورة الأمم. والمنطوق يختلف بين الناس في كل زمان ومكان، واللكنات واللهجات لا سبيل إلى التغلّب عليها في أي لغة، إلا أنه من المهمّ إدراك أنه حين يتحوّل المنطوق اللهجيّ إلى منصوصٍ مكتوب، ولاسيما الشعريّ، وحينما تتصدّر عناصر نخبويّة لتزيينه في أذهان الأجيال، فيما يوشك أن يكون دعوة إليه، وحين نأخذ في التأصيل لوجوده، والتأريخ لأطواره، والتنظير لفنّياته والتقعيد لبنياته، حينئذٍ يبدأ التأسيس للغة انفصاليّة، اعترفنا أم لم نعترف، ويطلّ الخطر الداهم على اللغة الأُمّ، التي تمثّل عامل توحيدٍ لغويّ وثقافيّ بين أبناء أي شعبٍ من الشعوب.

    وبالنظر إلى واقع العربيّة غير المشرّف، لا دهشة إذن أن تُعلن منظمة اليونسكو اليوم نتيجة متوقّعة، مفادها: أن اللغة العربيّة ستنقرض بنهاية هذا القرن، ولن تعود لغة عالميّة، متراجعةً إلى مثواها - الذي نرجو (وما يغني عن الموت الرجاء!) أن لا يكون المثوى الأخير! - ذلك بعد أن عادت إليها بعض أنفاس الحياة في غرفة الإنعاش التي أُقيمت لها على عَجَل خلال القرن العشرين!

    لماذا؟ لأن العرب أُمّة كثيراً ما لا تكون لما يقولون أو يفعلون مصداقيّة؛ فهم شعراء بامتياز، يقولون ما لا يفعلون، وكلام ليلهم يمحوه النهار، وما بنوه بالأمس يهدمونه اليوم، وعلى الصُّعِد كافّة.

    وفي المساق الآتي نعرف: كيف؟

    لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتب«5151» ثم أرسلها إلى الكود 82244

    * عضو مجلس الشورى aalfaify@yahoo.com

معلومات الموضوع

الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع

الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)

المفضلات

المفضلات

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •  
الاتصال بنا
يمكن الاتصال بنا عن طريق الوسائل المكتوبة بالاسفل
Email : email
SMS : 0000000
جميع ما ينشر فى المنتدى لا يعبر بالضرورة عن رأى القائمين عليه وانما يعبر عن وجهة نظر كاتبه فقط