وصلتني هذه الرسالة من الأخ الدكتور عمر خلوف.
أنشرها كما هي تقريبا - آملا أن نرى أستاذنا العزيز بيننا قريبا.
----------------------------------------------------------------------------------

المخلَّع أم اللاّحق!
على الشبكة العنكبوتية نشر السيد: محمود مرعي بحثاً بعنوان: البحر اللاحق تحدّثَ فيه عما يسميه العروضيون بمخلّع البسيط، متأسّياً خطا حازم القرطاجنّي (ـ684هـ) في تسميته باللاحق، واعتباره بحراً قائماً بذاته يقوم إيقاعه على: (مستفعلاتن مستفعلاتن).
وهو بحثٌ ما كنت لألقي له بالاً لولا ما اكتنفه من أوهام ظنّ فيها كاتبه أنه أتى بالجديد، ولولا أنّ نَشْره كانَ مُحاولةً للردّ على بحثي المعَنْوَن: البحر اللاحق، والذي أصّلْتُ فيه لبحرٍ آخر لم يؤصل له الخليل، اقتبسه خشان الخشان من موقع العروض العربي لسليمان أبي ستة، لِيُطبّقَ عليه نظرتَهُ الأرقامية. حيث كان الاعتراض الأول للسيد محمود مرعي على بحثنا دعواه بأنّ القرطاجنّي لم يُطلِق اسم اللاحق على المخلّع، كما ذكرتُ أنا في بحثي، وأن القرطاجني قد فرّق بينهما في منهاجه!!
فإذا عدنا إلى منهاج البلغاء للقرطاجني (ص237) رأيناه يتحدّث عن مجزوء البسيط: (مستفعلن فاعلن مستفعلانْ)، حيث رأى أن مقاييس البلاغة ـ عنده ـ تقتضي أنْ يكونَ تفعيله هو: (مستفعلن فاعلاتن فاعلانْ)، معتبراً أنه رأس البحر المجتث! ومستبعداً أن يكون للبسيط مجزوءاتٍ أو مقصّرات أصلاً!! وذلك لأسباب ذكرها هناك. يقول القرطاجني: “وهناك ضروبٌ [أخرى] جعلوها من مقصّرات البسيط، ويمكن أن تُردّ إلى هذا [المجتث]، وهي به أليق".
ويقول القرطاجني: "وحُكْمُ مخلّع البسيط الذي تجيء نهاياته على (مفعولن) هذا الحكم، وكلاهما صالحٌ أن يُنسب إلى المجتث”! وواضح جداً أن القرطاجني هنا يقصد ما يُسمى بمخلع البسيط: (مستفعلن فاعلن مفعولن).
ثم يقول: "فأمّا الوزن المضارع لهذا المخلّع [يعني المشابه له]، وهو الذي اعتمد المحدثون إجراء نهاياته على (فعولن)، فليس راجعاً إلى واحدٍ من هذه الأوزان [مقصرات البسيط أو سواها]، وإنّما هو عروضٌ قائمٌ بنفسه، مركَّبٌ شطرُه من جزأين تُساعيين: (مستفعلاتن مستفعلاتن)، وكأنّهم يلتزمون حذفَ السين من الجزء الثاني [يعني مجيء التفعيلة الثانية على‎: متفعِلاتن] لأنّ السواكن ـ في كلّ وزن ـ إذا توالى منها أربعة، ليس بين كلّ ساكن منها وساكن إلا حركة [واحدة]، تأكّد حذف الساكن الثالث، وحَسُنَ الوزنُ بذلك حُسْناً كثيراً".
وواضح تماماً أن القرطاجني كانَ يُشير في هذا الكلام إلى المخلّع: (مستفعلن فاعلن فعولن)، بدليل قوله: "وهو الذي اعتمد المحدثون إجراء نهاياته على (فعولن)". وبدليل قوله أيضاً: "وكأنّهم يلتزمون حذف السين من الجزء الثاني". وبدليل استشهاده بقول ابن الجهم:
بِسُرَّ مَنْ را إمامُ عدْلٍ * تغرِفُ مِنْ جودِهِ البِحارُ
لَمْ تأْتِ منْهُ اليَمينُ شيئاً * إلاّ أتَتْ مثْلهُ اليَسارُ
وهو الشكل المألوف للمخلّع. وأن ما أورده مثالاً على أصل الوزن جاء عجزه على الشكل المألوف:
وحَيِّ عنّي إنْ فُزْتَ حَيّاً * أمضى مَواضيهُمُ الجفونُ
كما جاء صدر المثال الثاني على الشكل المألوف أيضاً:
إنْ سَلَّ سيفاً بِناظِرَيْهِ * لَمْ تَرَ فينا إلاّ قتيلا
فالقرطاجنّي إذاً لا يفرّقُ بين: (مستفعلن فاعلن فعولن) وبين (مستفعلاتن مستفعلاتن)، لأنهما عنده وجهان لوزنٍ واحد، وإنّما كان انتقاده منصَبّاً على إتْباعِهم هذا الوزن بمقصرات البسيط أولاً، معتبراً إياهُ وزناً قائماً بنفسه، لأنه لا يشبه مجزوءات البسيط الأخرى، بدليل ورود السكون الزائد فيه، واقتراحه تفعيلاً آخر له يتناسب مع ما وُجِدَ في قصائد "كثيرٍ ممّن يوثَقُ بصحة ذوقه من الكسر” من زيادة ساكنٍ؛ كالنون من قوله: (إنْ فزتَ)، يقبلها الذوق، وإن كان حَذْفُها أخفّ، كما يقول.
والغريب أن السيد محمود، راح ينشئ الجداول والمقارنات لإيضاح الفرق بين الوزنين!! بل راح يفلسف لنا الفرق بينهما قائلاً: إنّ (الخبن) عندما يصيب (مستفعلاتن) يُصيّرها إلى (متَفعِلاتن) بسقوط السين، وإنّ "هذه السين محال أن تأتي في مخلّع البسيط، لأنّ ما يُقابل السين فيه هو حرف (اللام) من وتد (فاعلن)، وهذه اللام متحركة بطبيعتها، وليست ساكنة،والساكن الذي في المخلّع هو ساكن الوتد من (فاعلن)، وهو (النون)، لأنّ ما يُقابلها في (مستفعلاتن) هو الثالث المتحرك أي التاء. لذا محال أن يتساوى الأمر في حال سلمت (مستفعلاتن) من (الخبن) وفي حال خُبنت، فإن نون (فاعلن) مقابلة لفاء (مستفعلاتن)".
وهذا كلام عجيب، ظاهره الاحتجاج، وحقيقته الخلط والوهم. إذ لا وجه أبداً للمقابلة بين السين من (مستفعلاتن) واللام من (فاعلن)، كما لا وجه للمقابلة بين الصوم والحج!!
فموقع السكون الزائد، الذي أشار إليه القرطاجني وغيره، وفقاً لجميع شواهده، إنما يقع بين العين واللام من (فاعلن)، ليصبح الوزن (مستفعلن فاعيلن فعولن) أو (مستفعلن مفعولن فعولن) كالذي نبّهَ إليه الصفدي والدماميني وغيرهما. فما يُقابل السين من (مستفعلاتن) هو الياء من (فاعيلن) أو الواو من (مفعولن)، وليس اللام المتحركة من وتد (فاعلن) كما توهم الكاتب!
وأخيراً فإن مخلع البسيط الذي ذكر القرطاجني أنه لا يمكن أن يقع هذا الساكن فيه، إنما هو (مستفعلن فاعلن مفعولن)، بدليل قوله: "وليس يمكن أن يقع هذا الساكن في مثل قوله: (أقفر منْ أهلِهِ مَلْحوبُ)، لأنّ اجتماعَها مع اللام في قوله (ملْحوبُ) لا يقبله الذوق".
ومعلومٌ أن العروضيين إنما يطلقون صفة التخليع على الشكلين: (مستفعلن فاعلن مفعولن) و(مستفعلن فاعلن فعولن)، فمثلاً: يقول الجوهري: "ويجوز فيه التخليع، وهو (قطع مستفعلن) في العروض والضرب، فينقلان إلى (مفعولن)، فيسمى البيت مخلّعاً، وبيته:
ما هيّجَ الشوقَ منْ أطلالٍ * أضحتْ قِفارً كوَحْيِ الواحي
وتابعه على ذلك ابن عباد، وابن القطاع، والشنتريني، والسكاكي، والمحلي، والقرطاجني ... في حين قصرَ أبو الحسن العروضي صفة التخليع على الضرب (فعولن)، وتبعه على ذلك التبريزي، والزنجاني، والدماميني والدمنهوري، وأكثر المحدثين.
وربما كان المعري (ـ449هـ) أول من أشار إلى الفرق الإيقاعي بين الشكلين، وإلى أنهما شيئان مختلفان، ممثلاً لهما بقول ابن الأبرص:
تصبو وأنّى لكَ التّصابي * أنّى وقد راعَكَ المشيبُ
ومنها قوله:
منْ يسألِ الناسَ يحرموهُ * وسائلُ اللهِ لا يخيبُ
قائلاً: ألا ترى إلى قوله [من ذات القصيدة]:
والمَرْءُ ما عاشَ في تكذيبٍ * طولُ الحياةِ لهُ تعذيبُ
كيفَ هو مُخالِفٌ لهذين البيتين".
وقد جعل السيد مرعي ورود مثل هذا الساكن الزائد في شطر أو اكثر من شطور القصيدة دليلاً على أنها من اللاحق [حسب تسميته له]، فإذا لم يرد فيها هذا الساكن كانت القصيدة من مخلع البسيط كما يقول!! فهل نعتبر قصيدة محمود حسن إسماعيل:
مسافِرٌ زادُهُ الخيالُ * والسّحْرُ والعِطْرُ والظلالُ
من مخلّع البسيط! حيث لم يرد فيها شطرٌ واحدٌ بمثل هذه الزيادة، ثم نعتبر قصيدة ابن المعتز:
فرَّقَ جيرانَكَ الزّيالُ * وانقَلَبَتْ بالجميعِ حالُ
من اللاحق! لأنّ فيها شطوراً تضمنت ذلك الساكن الزائد؟!
وهما من وزنٍ واحدٍ، وقافيةٍ واحدة، كما هو واضح.
وللمهتمين؛ فإن لي دراسة مطولة للبحر المخلّع، تُنشر قريباً في مجلة الدراسات اللغوية، فموقع العروض العربي، أثبتُّ فيها انفصال المخلّع عن مقصرات البحر البسيط، بحراً قائماً بذاته له إيقاعه الخاص، وقوالبه العديدة. ولكنني أبقيتُ له اسم (المخلّع) دليلاً على استقلاله، وإشارةً إلى أصله المسمى (بمخلّع البسيط)، كي لا تنقطع صلته بتراثه، كما في تسمية القرطاجني له، وما تبنّاه السيد مرعي! وإن كان القرطاجني كان يقصد المخلّع بعينه كما رأينا، بينما توهّم مرعي أنه شيء آخر لا صلةَ له به.