ومع الشعر كان لابد للنثر الشعبي أن يظهر قريناً للنثر الفصيح ، وقد تأخر الشعبي منه كما تأخر الشعر من قبل ، لكنه استقر على أن يكون على نسق قصص العشاق أو على نسق ألف ليلة وليلة ، التي بدأت قصصها تتجمع منذ القرن الرابع الهجري ، أو على نسق قصص الأبطال البدوية من نحو تغريبة بني هلال وأبي زيد الهلالي وسيف بن ذي يزن وما إلى ذلك ، أو على نسق المجالس الحسينية ومجالس الصوفية التي تذكر فيها كراماتهم .
وطبعاً لم تنقطع ولادة الأمثال ولا توقف توليد الكنايات ولا ضعفت آداب المجالس والمناسبات الشعبية والاجتماعية والدينية إذ هي من لوازم الحياة وبطانتها وحاشيتها .
ويبدو الكلام في هذه الموضوعات وكأن له أولاً ولا آخر له ولهذا من حقكم علينا أن نريحكم قليلاً من المضي فيه لنقف عند جوهر الموضوع :
فما مفهوم الأدب الشعبي وما خصائصه في ظل هذه الأسس والاستطرادات ؟
واضح أن هذه الشجون تؤدي إلى خزانة عامرة تضم تراثاً ثقيلاً يتمثل في ما نحصده من ثمرات الحياة الشعبية التي عمرت بالتجارب بفعل الظروف والبيئة وطراز الحياة والتداعي من صورة إلى صورة خلال القرون .
ونعني بهذا كله أن الأدب الشعبي هو العبارات والجمل والأمثال والأشعار والخطب والقصص والأساطير التي تنعكس من ضمير الشعب وقلبه وعقله انعكاساً مطبوعاً لا مصنوعاً لتجعل منه مجتمعاً له خصائصه المتميزة وطابعه الخاص ، وكلها حصيلة حياته وجهد الباحثين من حيث كونهما معبرين حقيقيين عن حقائق أدبية واقعة فعلاً دون تكلف أو تزيد .
ويدخل في هذا المفهوم الكنايات والأمثال والتعليقات والأشعار والقصص ، حتى الخيالي منها ، والنضال المسجل شعراً ونثراً ، وتخرج منه طبعاً النصوص التي قيلت احترافاً أو تكليفاً وبطريقة لا تجعل منها فكراً يمثل أغلبية الناس أو يماس ما تضمره نفوسهم ، وهذا يعني أن أغاني الراديو والتلفزيون والقصص والمسلسلات والمسرحيات لا تعد أدباً شعبياً قبل مرور وقت كاف يجعل منها تراثاً للشعب لا اجتهاداً أو شعوراً ، صدق أم كذب ، لفرد معين .
ويتمثل مصداق ما نقول في الأغاني الخفيفة التي تردد بعد المقامات العراقية القديمة في العراق مثلاً والمواويل التي سارت بين الناس والأغاني التي انطبعت بطابع النشيد الشعبي كأغاني سيد درويش ، في مصر على الخصوص ، وما إلى ذلك .
المقصود بالأدب الشعبي ينبغي أن يكون أدباً حقيقاً راسخاً فعلاً ، له جذور تتصل بالأرض ليحيا بمائها الذي يستقر في أعماقها .
أما الخصائص التي تحدد للأدب الشعبي هويته وكيانه وتجعل منه اسما على مسمى فهي ما يلي :
1 – أن يكون حياً معافى :
يحمل طاقة متجددة وقوة على التجدد والتلوين ، فمع أن الكان وكان والقوما والبليق والحماق والقرقيات وما إلى ذلك جف معينها وتركها الشعراء ، وجدنا فنوناً أخر تأخذ مكانها كالبوذية والعتابة عندنا والشعر القومي في السودان ، والحميني في اليمن والمرسم ( = قصائد الرسوم الدراسة ) والذهبية ( = القصائد الخمرية ، والطبيعية ) في المغرب (37) بل لقد وجدنا في المغرب فناً يسمى ( كان حتى كان ) ، ( يعتمد على القصص والحكاية ) (38) وكأنه بديل عن فن الكان وكان ، الذي احتجب منذ القرن الثاني عشر الهجري – والعرق – كما يقال – نزاع .
2 – أن يكون له طابعه الخاص :
لغة وتعبيراً ، فيلاحظ أن الأدب الشعبي إذا عرض للوعظ والإرشاد الديني كانت ألفاظه وأساليبه أقرب إلى الفصحى وأدنى إلى نصوص القرآن وجمله القصيرة ، كما حدث في الكان وكان والقوما سابقاً كما يحدث في المواعظ الشعبية اليوم . وعلى النسق نفسه وجدنا الشعر الشعبي – إذا اصطدم بالفصحى وعبر عنه نفسه تعبيراً مباشراً بلغته الخاصة فإنه يثور على الفصحى والنحو المواصفات اللغوية ويعد كل انسياق مع قواعد الفصحى عصياناً وكفراً يسقط معه اعتبار الشعراء ويهبطون عن مكانتهم كما حصل مع شعراء الزجل اعتباراً من أيام ابن قزمان الذي كان يقول _ ولما اتسع في طريق الزجل باعي .. عندما ( عندها ) ثبت أصوله .. وعديته ( عربية ) من الإعراب .. تجريد ( تعرية ) السيف عن القراب ) (39) وكمل على ذلك قال صفي الدين الحلي ) فإذا حكم عليهم فيها لفظة معربة غالطوا فيها بالإدماج في اللفظ والحيلة في الخط كالتنوين فإنهم يجعلون كل منون منصوباً أبداً ) (40) فيكتبون _ رجلاً ) على ( رجل أن ) ويكتبون ( إحياء ) على ( إحياي ) (41) إصراراً على رعاية هذا المبدأ . هذا في الزجل ، وقد جرى الأمر على هذا النسق مع المواليا أيضاً .
3 – من خصائص الشعر الشعبي على العموم :
أنه يعنى بالصناعة اللفظية وخصوصاً بتشقيق المعاني من الكلمة الواحدة كما يحدث في الموال والبوذية والعتابة اليوم . وقد كان المنطلق الحقيقي من المواليا لأول ظهوره في أواسط القرن السادس الهجري في تقديرنا ، وقد نقل لنا صفي الدين الحلى أنموذجاً عليه ، نصه :
يا طاعن الخيل ، والأبطال قد غارت
والمخصب الربع والأمواه غارت
هواطل السحب من كنيك قد غارت
والشهب من شاهدت طلعتك قد غارت
ومن ذلك قول موال سجل له صفي الدين هذه القطعة من المواليا وسمي القافية حرف الرفو وذلك في قول أحدهم :
يوم الهوى كل من لو ردف ينخش بو
وكلما جاز على عاشق تحرش بو
وفي المطر كل من لو ساق تدهش بو
وتهلك أذيال من ساقو نبت عشبو (44)
4 – من خصائص الشعر الشعبي أن له أوزانه الخاصة في فنونه الخاصة :
ومع أن المصنفين في الشعر الشعبي يزنون فنونه ببحور الخليل ، كما فعل المرحوم على الخاقاني في كتابه الكبير ( فنون الأدب الشعبي ) ( بغداد 1962 – 1967 ) إلا أن علماء الشعر الشعبي القدماء ، وكانوا شعراء أيضاً ، أعرضوا عن عروض الخليل لقصوره عن وزن أشعارهم كلها واخترعوا بدلاً منه أربعاً وعشرين عبارة إيقاعية انتزعوها من مقطعاتهم الذائعة الصيت وكانوا في ذلك يحققون حلماً لابن قزمان نفسه من قبل (45) هذه العبارات العروضية الشعبية ، سميت بالسنج ( الصنج = عيار الميزان ) وكانت أولاً تعد ست عشرة عبارة من وضع عبد الوهاب البنواني ، ( ت نحو 860هـ / 1456م ) وهي :
1 – نعشق
2 – قمر
3 – كلي
4 – قمري
5 – في الموزون
6 – في المحلة
7 – في الشارع
8 – يجنوكه
9 – من قال أنا
10 – حبيبي
11 – ياكل كلي
12 –كل العنبر
13 – بد
14 – هل
15 – عشر أواق
16 – حبي طرى
وأضاف عبارة : هل من جناح للمذيل (46)
ثم صار الميزان الشعبي على يد أحمد الدرويش البرلسي المغربي ( من رجال القرن الثاني عشر الهجري = الثامن عشر الميلادي ) أربعاً وعشرين عبارة هي مطالع لا ألفاظ .
وقد ذكر البرلسي في كتابه : العقيدة الدرويشية ( المخطوطة ) أنه وضع هذه العبارات لتزن الشعر الشعبي ، وأشار إلى أن ثمانياً منها تزنه بحور الخليل الستة عشر ( ورقة 4 ب ) والست عشرة الباقية وضعت لتستغرق الإيقاعات الزجلية التي يخل بها الشعر الشعبي . فكأن موسيقى الشعر الزجلي الشعبي لأيامه كانت أغنى من الشعر التقليدي بثلاث مرات . ومن هذه العبارات :
1 – تحملوا في الهوادج
2 – عمي سميرخ راصخ
3 – الرزق عند الله كثير
4 – لو كنت في بغداد
5 – وداخل مصر في قاعة
6 – يا ساكنين القصور
7 – يا قنبز قوم إفطر
وهكذا (47)
5 – من خصائص الشعر الشعبي :
أنه ابن بيئته ، فالريفي منه حافل بالمصطلحات الزراعية والرعي والبيئة الجغرافية كما يبدو ذلك واضحاً جداً في الشعر الريفي وغنائه في العراق ، والبدوي منه يبدو أهيب وأرزن وإن امتلأ أيضاً بأوصاف الغزلان والرمال والجمال والغارات والانتصارات وما إلى ذلك ، وذلك واضح تماماً في الشعر النبطي والبدوي العراقي ، أما الشعر الحضري فإنه يحفل بالعواطف والطباع والتحليل النفسي وما إلى ذلك .
والأمثلة على هذا كثيرة إلى حد لا تحتاج معه إلى استشهاد ، ويكفي الإنسان أن يفتح الراديو على بوذية أو أغنية بدوية أو أغنية عاطفية لتبديد ما قد يعرض له من شك في هذه الدعوى .
وهذا بعض من كل ، فيما يتصل بالشعر .
أما ، ما يتعلق بالنثر ، الذي يعم بالمثل والقصة والخطبة ومحاضر جلسات المصالحة والاتفاق على الديات والخطبة والزواج والطهور ، فأهم الخصائص ، كما هو معروف ، البساطة والسذاجة ومحاولة التطاول إلى النحو والبلاغة التقليدية انقيادا إلى قيمتها واستسلاماً لهما بعكس الموقف فيما يتصل بالأشعار الخاصة بالفكر الشعبي . لكن القصة تسمو على هذه المظاهر بأنها ، بجمعها لكثير من المبالغات والمعجزات بل المستحيلات والسحر والخير والشر ، إنما تغرب عن آلام وآمال ، وترسم لكل صورة حدها الأقصى لتحببها إلى النفس إذا كانت خيراً – وتبغضها لها – إذا كانت شراً .
أما تحقيق المستحيل فيعكس الآمال في أن يكون لكل مشكلة فرجاً وأن لا معنى لليأس مع الحياة ولا معنى للحياة مع اليأس) اهـــ
المفضلات