أنقل هذه المشاركة للدكتور الفاضل عمر خلوف
من منتدى الساخر لما تتضمنه من فوائد جمة
وكما يقول الدكتور( هذه صفحات نشرتها في موقع العروض رقميا، وأعيد نشرها هنا زيادة في الفائدة، وبثاً لروح الجدل العلمي، )
فأنا أنقلها هنا من أجل هذا الغرض
وله مني كل تحايا التقدير والإحترام
المقطع والتفعيلة
--------------------------------------------------------------------------------
(هذه صفحات نشرتها في موقع العروض رقميا، وأعيد نشها هنا زيادة في الفائدة، وبثاً لروح الجدل العلمي، ومع ذلك أعتذر عن ضيق الوقت في تنقيحها بما يتناسب مع الموضوع المنشور هنا).
لم يشر أحد إلى فلسفة الخليل العروضية، ربما لضياع كتابه في العروض، أو أن الخليل نفسه لم يهتم إلاّ بتسجيل نتائجه. ولكن لا يُخالجنا شك في أنه بنى نظريته على فلسفة خاصة، لها ما يُبررها. إذ لا تقوم النظرية ما لم تكن لها مبرراتها المنطقية. فما هي مبررات الخليل في استخدام التفعيلة، دون المقطع، واختيار صيغة دون غيرها، على الرغم من صحة الصيغ الأخرى وزنياً كما هو معروف؟
ولاستنتاج شيء من هذه الفلسفة، واستكشاف شيء من منطقه ومبرراته، كان لنا أن نتلبس شخصيته وهو يتأمل تراكمات الشعر العربي، محاولاً أن يلمّ شعثها، ويسبر أغوارها، ويفك أسرارها. وهو ما فعلته في أحد فصول كتابي المخطوط: (دراسات عروضية رائدة)، وأجتزئ منه هنا ما يفيد في موضوعنا.
إن أول ما يلفت انتباه الأذن الحساسة لموسيقى الشعر، ذلك التشابه الإيقاعي الذي ينتظم مجموعاتٍ معيّنة من قصائد الشعر العربي، ولذلك فلا بد أنّ أولى خطوات الخليل التصنيفية كانت فرز الشعر إلى مجموعات إيقاعية متشابهة. ولا نشك أبداً أن تكون المجموعات الأولية للمتماثلات كانت تضم أشهر الأوزان، كقصائد الرجز والطويل والبسيط والكامل والوافر والمتقارب، فالرمل والسريع والخفيف ...
أما خطوته الثانية؛ فمحاولته النفاذ إلى مكونات هذه الإيقاعات المختلفة، وذلك لمعرفة ما يُميّز مجموعة عن أخرى. ولم يكن أمام الخليل هنا إلا كلمات اللغة الشعرية ذاتها، فهي التي كان ينبعث منها روائح الإيقاع الساحر، الذي يميز الشعر عن النثر. ولا بد أن يكون سر الإيقاع كامناً في مكونات الكلمات الشعرية ذاتها، بغض النظر عن معانيها. والكلمة حروف، وما من صفة تميزها سوى كونها متحركات أو سواكن. فلنجرد الكلام إلى متحركات وسواكن.
ونظراً إلى أن القيمة الإيقاعية للمتحركات المختلفة واحدة، فلقد خطا الخليل خطوة أعمق في التجريد، فرمَزَ إلى المتحركات جميعها برمز واحد، ورمَزَ للسواكن برمز آخر. وهكذا أصبح أمام مكونين اثنين، من مكونات الإيقاع الشعري، كانت تنبع من طرائق اجتماعهما، وتتابعهما روائح الإيقاع العبقة، مختلفة من وزن لآخر.
وهكذا استطاعت عبقرية الخليل الفذة أن تكتشف مكونات الإيقاع بِنَفاذِها إلى ما وراء الكلمات الشعرية، ونظْرَتِها إلى ذلك الإيقاع نظرةً تجريديةً مبسّطة، غاضّةً الطرْفَ عن معاني الكلمات أولاً، وصور الحروفِ ثانياً، ومُبْقِيةً على ما يدلُّ عليها من الحركات والسَّكَنات. بل لقد شمل التجريدُ صورَ الحركاتِ أيضاً، فرُمِزَ إليها جميعُها برمزٍ واحد (/)، وللسكون برمز آخر (ه).
وبناءً على أنّ الكلامَ العربي يبتدئُ بالمتحرّك ويقف على الساكن، عمل الخليلُ على إعادة تركيب رموزه ، وذلك وفقاً لعدد المتحركات التي تسبق السكون. ولا نشكّ أن المقاطعَ في هذه المرحلة من التركيب، لم تتجاوز عند الخليل ثلاثة أشكال:
1. السبب الخفيف: ويتألف من متحرّكٍ فساكن .....ورمزه : ( /ه ).
2. الوتد المجموع: ويتألف من متحركين فساكن .....ورمزه : ( //ه ).
3. الفاصلة : وتتألف من ثلاثة متحركاتٍ فساكن ....ورمزُها : ( ///ه ).
ولنا هنا أن نتخيّلَ كيفَ انتقل الخليل من فكرة المقاطع الوزنية إلى التفاعيل. فقد لاحظ الخليل تكراراً منتظماً لبعض المقاطعِ المتجاورة داخل النسق الواحد (كأن يتكرر وتدٌ وسبب، أو وتدٌ وسببان، أو وتدٌ وفاصلة) مكوِّنةً بذلك وحداتٍ وزنيةٍ متماثلة. ولا نستبعدُ أبداً أن تكونَ البحورُ الشائعةُ (كالطويل والبسيط والرجَز والمتقارَب والكامل والوافر .. ) هي أول الأنساق التي قامَ الخليل بتحليلها. وفي جميع هذه البحور تكرّرتْ بعضُ الوحدات الوزنية تكراراً ساذجاً (متماثلاً) أو مركّباً بطريقةٍ تَجاوبيةٍ تقتربُ من السذاجة. وكانت جميع هذه الوحدات إما تبتدئُ بوتدٍ أو تنتهي به.
· فقد تكررت الوحدة (//ه/ه) في المتقارب. وقد وضعَ لها مقابِلاً لفظياً هو (فعولن).
· وتكررت الوحدة (//ه/ه/ه) في الهزج. وقد وضعَ لها مقابلاً لفظياً هو (مفاعيلن).
· وتكررت الوحدة(/ه/ه//ه) في الرجز(والسريع).وقد وضعَ لها مقابلاً لفظياً (مستفعلن)
· وتكررت الوحدة (///ه//ه) في الكامل. وقد وضعَ لها مقابلاً لفظياً هو (متَفاعلن).
· وتكررت الوحدة (//ه///ه) في الوافر. وقد وضعَ لها مقابلاً لفظياً هو (مفاعلَتن).
· بينما تكررت الجملة (//ه/ه //ه/ه/ه) في الطويل. وواضح أنها (فعولن مفاعيلن)
· وتكررت الجملة (/ه/ه//ه /ه//ه) في البسيط. وواضح أنها (مستفعلن فاعلن).
وكانَ لا بدّ من اعتماد هذه الوحدات/التفاعيل الستّ مكوناتٍ لهذه البحور.
وواضح هنا أن انقسامَ هذه الأنساقِ جميعها إلى وحدات/تفاعيل هو انقسامٌ مطّردٌ، يُؤخذ فيها الوتد وما يليه من أسباب أو فواصل، وذلك في البحور التي تبتدئُ بوتد (المتقارب، الوافر، الهزج، الطويل)، أو يؤخذ فيها الوتدُ وما يسبقُهُ من أسباب أو فواصل، وذلك في البحور التي تبتدئُ بسبب أو فاصلة (الكامل، الرجز، البسيط).
ومن الواضح جداً، أن حدود التفاعيل في البحور الساذجة ليست حدوداً وهميةً على الإطلاق، وإنما هي حدود حقيقية مبرَّرة، يفرضها تكرار الجملة المقطعية/التفعيلة التي يتركب منها كلّ بحر على حدة، والتي يمكنها أن تمثّل إيقاع بحرِها سواء أكانت مفردةً أم مكررة عدداً لا محدوداً من المرّات، كالذي يتم في قصيدة التفعيلة. فالمبرر البارز لاعتبار المتقارب مثلاً مركباً من (فعولن 4x) هو التكرار المنتظم للمقطعين (وتد سبب) أربع مرات. كما أن المبرر البارز لاعتبار الرجز مركباً من (مستفعلن 4x) هو التكرار المنتظم للمقاطع الثلاثة (سبب سبب وتد) معاً ثلاث مرات.
أما البحور المختلطة فتبدو لنا نسقاً إيقاعياً واحداً، لأن إيقاعها المركّب لا يتبلور أو يتجلّى إلا بالتزاوج التناغمي بين وحداتها، ومع ذلك فهي مركبة من وحدات حقيقية، لأن طبيعة اللغة وفطريتها، لا تحتمل قراءة النسق جملةً واحدة، بل إن طبيعة الجملة الموسيقية ذاتها وفطريتها، محدودة الطول، ولا تكاد تزيد كثيراً عن طول الكلمة اللغوية، ولذلك يلجأ الموسيقي إلى اكتشاف الحدود الحقيقية للجملة الوزنية في الشعر لمقابلتها مع الجملة الموسيقية في الإيقاع. وإن الفطرة التي هدت العربي إلى استخدام التنعيم (أو التنغيم) لدليل فطري آخر على وجود هذه الحدود، وما قولهم (نعم لا...نعم لا لا) إلاّ شيء من هذا القبيل.
ولو كان الإيقاع المركب، جملةً وزنية واحدة لاستطاع شاعر التفعيلة أن يتمادى في إطالتها. وما يمنعه من ذلك سوى تركيبها من أكثر من وحدة إيقاعية، لا يدري معها ما الذي يكرره منها.
لقد استطاع بعض شعراء التفعيلة أن يستخدم بحر السريع ، بتكريره (مستفعلن)، مضطراً إلى إنهاء سطره الشعري بتفعيلة السريع (فاعلن) أو (فاعلانْ) التي تميز السريع عن الرجز. مما يدلّ على حقيقة حدود التفاعيل في السريع.
فإذا اتضحت لنا مبررات الخليل في تسمية معظم تفاعيله، عرفنا أن أي صيغة أخرى لهذه البحور لن يكون لها ما يبرر وجودها على الرغم من حملها للوزن. وإذا كانت حدود التفاعيل وهميةً في بعض الأوزان الخليلية المركبة، فلا يعني ذلك أبداً انتفاء الحدود فيها، ولا يجب أن يكون ذلك سبباً لالغاء التفاعيل نهائياً، ولكن يبقى على العروضي، والموسيقي البارع، اكتشاف هذه الحدود، لا الدعوة إلى إلغائها دفعة واحدة!! وهذا ما حاولته في كتابي المخطوط: (دراسات عروضية رائدة).
ومع ذلك فعلى الرغم من استخدام التفعيلة في تمثيل الإيقاعات، إلا أن المقاطعَ المكونةَ لها تبقى محتفظةً بعلاقاتها وخصائصها. ولا بأس من البحث في خصائص الإيقاعات بناءً على مقاطعها العروضية، أو اللغوية، فإن هذا سيزيد من فهمنا لخصائص الإيقاعات المختلفة وأسرارها. دون أن يعني هذا اعتبار المقطع بديلاً عن الوحدات الوزنية الحقيقية.
أخيراً فإن من مبررات استخدام التفاعيل كونها أقدر من المقاطع أو الأرقام على حمل الإيقاع الشعري، وتمثيله بكلمات اللغة ذاتها، لأن المقاطع والأرقام ستُضيِّع على المتلقي إحساسه بإيقاع البحر الذي تحمله الكلمات. وقولنا مثلاً: (سبب سبب وتد سبب وتد) أو(اثنان اثنان ثلاثة اثنان ثلاثة) لن يصل بالمتلقي إلى الإحساس بالوزن، حتى لو كان متمرساً بمعرفة البحر جراء النظرة الأولى إلى مقاطعه.
ثم إن تبسيط المصطلح الذي يبشر به الرقمي، أو ربما إلغاءه، لا علاقة له بإلغاء حدود التفاعيل، فأسماء الزحافات التي شكلت عبءاً ثقيلاً من المصطلحات العويصة هي في حقيقة الأمر لاصقة بالمقطع لا بالتفاعيل. فالزحاف واقع أصلاً على المقطع المكون للتفعيلة، وهو تغيير واقعي، سواء انتظم المقطع ضمن تفعيلته، أم ضمن شطره، أم بقي له الاعتبار مفرداً. >>
بل إننا لو تعاملنا مع الوزن على أنه كتلة واحدة تمتد على طول الشطر، ثم أردنا أن نضع الأسماء لما يُصيبها من زحافات لتضاعفت مصطلحات العروض ثلاثة أضعاف أو أربعة. لأننا عندها سننظر إلى الأسباب المزاحفة بناءً على موقعها من الشطر لا من التفعيلة، وعوضاً عن قولنا بوجود زحاف واحد في المتقارب (القبض: أي سقوط الخامس الساكن) لتوجب علينا أن نضع مصطلحات جديدة أخرى لِما يُصيب العاشر الساكن والخامس عشر الساكن، بل والعشرين الساكن، بينما هو زحاف واحد متكرر يقع على تفعيلة المتقارب الوحيدة. ويكفي لإلغاء معظم المصطلحات وصف الأثر الزحافي على التفعيلة دون تسميته، كأن نقول: يجوز في (فعولن) أن ترد على (فعولُ)، وفي (فاعلاتن) أن ترد على (فعِلاتن)، وهو ما اتبعناه في كل ما كتبناه في العروض. وبناء على قول أستاذ الرقمي: "حسبنا أن نعرف في الرقمي أن هذا التغيير هو تحول (2) إلى (1)، يمكننا أن نقول: حسبنا أن نعرف في العروض أن التغيير هو تحول (/ه) إلى (/)، بل إن في الشكل العروضي مؤشراً واضحاً إلى أن الساكن هو الذي سقط، بينما لا يشير الرقمي إلى ذلك.
المفضلات