الجزء الثاني
190
يبدو أنّ محاولة إدخاله في كتب العروض قديمة فقد ذكر أبو الحسن العروضي أنّ قبله حاول البعضجعل وزن فعْلن فعْلن على مفعولاتن، كما أثار الزمخشري في مقدمّة كتابه في العروض مشكلة قبول هذاالبحر عند العروضيين، وذكر ”أن بناء الشعر العربي على وزن المخترع الخارج عن بحور شعر العرب لا يقدح في كونه شعرا عند بعضهم، وبعضهم أبى ذلك وزعم أنّه لا يكون شعرا حتى يحامى فيه وزن من أوزانهم“ ( 57 )، وهذا الرأي الأخير نسب في تعليق على حاشية المخطوط إلى "أبي إسحاق الزجاج" ت 311 ه مما يثبت أنّ هذا البحر كان محل نزاع بين العروضيين في أواخر القرن الثالث، والعقد الأول من القرن الرابع الهجريين على أقل تقدير.ولكنّ الفضل الحقيقي في دخول هذا البحر إلى كتب العروض رسميّا يعود للجوهريّ ) ت 393 هـ) في كتابه "عروض الورقة" فهو أوّل عروضيّ تعرّض لتنظير هذا البحر يقول عن المتدارك : ”هو مثمن قديم، مسدس محدث أجزاؤه فاعلن ثماني مرات وبيته الذي لا زحاف فيه :
لم يَْدَعْ مَنْ مَضَى لِلذِي قدْ غبَرْ...... فضْل عِلْمٍ سِوَىأخْذِهِ بِالأََثرْ “58
والحقيقة أنّ الجوهريّ كانت تجابهه مشكلتان هما عدم اعتراف العروضيّين بهذا البحر،وقّلة الأمثلة بل انعدام الشواهد في السالم منه، لذلك نظم هذا البيت وادّعى أنّ مثمّنه قديم، ولم يوضح إن كان مثمّنه سالما أم لا وهذا تحايل منه. ولما تعرّض إلى المخبون المشعّث ذكر أنّ شعر عمرو الجنّيّ منه وأورد له بيتا هو :
َأشَجَاكَ تَشَتُّتُ شِعْبِ الحييْـ... (م)... ـيِ فَأنْتَ لهُ أرِقٌ وَصِبُ
ونقل صاحب العمدة عنه، وأيّده قائلا: ”وشعر عمرو الجنّيّ منه وهو الذي يسميه الناس الخبب“59 وكلاهما استفاد من أبي الحسن العروضي. وأمّا الحصري فربّما يكون قد تعرّف عليه عن طريق كتاب ابن رشيق ت 451 هـ أو عن طريق كتاب الورقة للجوهري،أو أبي الحسن العروضي أو أبي الطيب اللغوي أوغيرهم ممن نقلوا أبياتا على هذا الوزن أومن قصائد لمحدثين قبله، وقد أ كد أبو الحسن
العروضي أن الشعر في هذا البحر كثير.وفوق كل هذا توجد مقطعات أقدم من الحصريّ والغزّالي وقد مرّت الإشارة إلى الشاعر أبي العتاهية وهو ممن عاصروا الخليل بن أحمد إذ يوجد بيتان في ديوانه مرّ ذكرهما على هذا الوزن.
191
وأما عن المشعّث المخبون فقد أورد أبو الحسن العروضيّ بيتين هما :
إنَّ الدُّنْيَاقدْ غرَّتْنَا... وَاسْتَهْوَتْنَا وَاسْتَْلهَتْنَا
َلسْنَا نَدْرِي مَاقدَّمْنَا...... إِلاَّ لوْ أنََّا قدْ مِتْنَا
وروى التبريزي مقطعتين متشابهتين ونسب الثانية إلى علي كرم الله وجهه وهما :
يَا ابْنَ الدُّنْيَاقدْ غرَّتْنَا.........وَاسْتَْلهَتْنَا وَاسْتَهْوَتْنَا
يَا ابْنَ الدُّنْيَا مَهْلا مَهْلا...... زن مَا يَْأتِي وَزْنًا وَزْنَا
مَا مِنْ يَوْمٍ يَمْضِي عَنَّا.........إِلاَّ أوْهَى مِنَّا رُكنَا
وذكر أنّ سيدنا علي كرم الله وجهه عندما ”سمع الناقوس فقال لمن معه من أصحابه: أتدري ما يقول هذا الناقوس فقالالله ورسوله أعلم ….فقال:… هذا الناقوس يقول :
حَقًّا حَقًّا حَقًّا حَقَّا......صِدْقًا صِدْقًا صِدْقًا صِدَْقا
يَا ابْنَ الدُّنْيَا جَمْعًا جَمْعًا...... إِنَّ الدُّنْيَاقدْ غرَّتْنَا
يَا ابْنَ الدُّنْيَا مَهْلاً مَهْلاً... لسْنَا نَدْرِي مَافرَّ ْ طنَا
مَا مِنْ يَوْمٍ يَمْضِي...... عَنَّا إِلاَّأوْهَى مِنَّا رُكنَا
مَا مِنْ يَوْمٍ يَمْضِي عَنَّا إِلاَّأمْضَى مِنَّاقرْنَا “60
وفي البيت الأوّل من هذه المقطوعة عيب الإجازة وهو اختلاف مخرج القاف والنون ويصعب الجزم بنسبتها كما يصعب نفيها عن سيدنا عليّ كرم الله وجهه إذا علمنا أن نهج البلاغة كذلك جمع في عصر التبريزي.وقد أورد الزمخشري أيضا في القسطاس بيتا كأنّه مسلوخ من هذه الأبيات، وهو:
َأهْلُ الدُّنْيَا كُلٌّ......... نَقلاً نَقلاً دَْفنًا
(61)
وقد نسب الباحث التونسي نور الدين صمود بيتا لامرئ القيس وهو :
الشَّحْطُ خَلِيطُكَ إِذْ بَكرُوْا...... وَنََأوْا فمَضَى بِهِمُ السََّفرُ
. ولم أجد هذا البيت في طبعتين مختلفتين لديوانه، فلا أدري من أين نقله 62
اختلاف تسمية هذا البحر :
192
كل بحر من البحور الخمسة عشر التي ذكرها الخليل يختص باسم واحد يعرف به منذ أن وضع الخليل كتاب العروض، وأمّا البحر المتدارك فقد عرف بتسميات عديدة، واختلف الدارسون في واضعيها كالمخترع، والمتدارك، والغريب، والمحدث، والخبب،
والمنتسق، وركض الخيل، وقطر الميزاب، والمتداني، وقد حاولنا تعيين بعض واضعيها :
1-...المخْتَرَع : يطلق على المخبون المشعّث وكنت ذكرت أنّ أبا الطيب النحوي
ت 351 ه أشار إلى أن المحدثين بعد الخليل سموه المخترع دون أن يمدّنا بمعلومات دقيقة تحدّد واضعه، وأغلب الظنّ عندي كون "المخترع" هو أوّل مصطلح عرف به البحر.
2- المتدارَك : يرى ميشل أديب( 63 ) أن واضع هذا المصطلح هو الشنتريني في كتابه(المعيار)
3- المحدث : يرى ميشل أديب كذلك أنّ التبريزي هو الذي سماه المحدث.وعندي أنّ أوّل من سماه من العروضيين بالمتدارك هو الجوهري 64 ثم أشار إلى مجزوء المتدارك بأنه "محدث" فأطلقها التبريزي على المتدارك في الكافي ونقلها أيضا ابن رشيق في العمدة عن الجوهري.
4- الغريب : أول إشارة لهذا الاسم في كتاب المنسوب لأبي الحسن العروضي وهو ويبدو لي أنّ مؤلفه كان أوّل من أطلقه على المخبون المشعث حيث قال صراحة . ”ونحن نسمّيه الغريب“65 وقد أثبت ناسخ المخطوطة التي اعتمد عليها محقق "كتاب العروض" لابن جني في دائرة المتفق اسم "الغريب" منفكا من المتقارب، ولكنّ ابن جني جعله مهملا ولم يتعرض لأمثلته ؛ ولا أدري لما عمد محقق كتاب ابن جني إلى استبدالمصطلح المتدارك بالغريب( 66 ) فليس مصطلح المتدارك مثبتا في المخطوطة التي اعتمدها المحقق.
5- الخبب : أوّل من نقل ذكره ابن رشيق( 67 )، وقال أنّ المخبون المشعّث تسمّيه النّاس بالخبب ولم يحدّد واضعه. وقد عّلل الصّبّان اختلاف هذه الأسماء وتعدّدها قائلا :”ولما لم يسمه الخليل لعدم ذكره له سماه ك ل قوم من العروضيين باسم فسمّي المتدارك قالبعضهم لأنّ المتدارك لغة المتقارب وهو متقارب الأسباب والأوتاد، وقالابن واصل لأنه لم يذكره الخليل وتداركه عليه غيره سمي بالمتدارك وبالمخترع وبالمحدث لاختراع وإحداث وضعه مع البحور بعد الخليل، وبالخبب لأنه أخو المتقارب وبالمنتسق أي المنتظم لأنّ كلا من البحور بعد الخليل، وبالخبب لأنه أخو المتقارب وبالمنتسق أي المنتظم لأنّ كلا من
193
أجزائه على خمسة حروف“ ( 68 )،ولم يقف هذا الاختلاف عند تسمية البحر بل تعدّاه إلى اختلاف تحديد الأجزاء، والعلل التي لحقتها.الاختلاف في تصور أجزاء المتدارك :
اختلف العروضيون في تحديد صور الأجزاء وتفسير عللها إلى فريقين :
فريق يمثله جمهور العروضيين ابتداء من أبي الحسن العروضي حيث ذكر صاحب هذا الكتاب أنه سماه الغريب وأدخله ضمن دائرة المؤتلف المشتقة من بحر منفك من المتقارب، ومنذ ذلك الوقت تسامح الشعراء في دمجه في دائرة المتقارب، ولكن مشكلة العلاقة بين الجزء فاعلن وفعْلن جعلتهم ينقسمون إلى خمسة أقسام في تعليلها :
1- قسم يرى أنّ الجزء فاعلن أصابه القطع فصار فاعلْ فانقلب إلى فعْلنْ وهذا الاتجاه يتزعمه أبو الحسن العروضي( 69 ) أو أحد معاصريه وأقره الجوهري بعده وابن رشيق؛
2- قسم يرى أن الجزء فاعلن دخله التشعيث أي حذف عين فاعلن ؛
3- قسم فضل عدم الخوض في المسألة واكتفى فقط بذكر صورة الأجزاء دون تعليلها، ويمثل هذا الاتجاه التبريزي في الكافي ؛
4- قسم ذكر الأجزاء وخطأ تعليل الفريق الأول والثاني دون أن يعطي البديل، ويمثله الأمين المحلي ت 673 هـ حيث قال”لم يسمع القطع في حشو بيت من الشعر إلا في هذا البحر لأن القطع علة والعلل لا تكون حشوا ولهذا أنكر بعضهم أن يكون مقطوعا، وسمّاه مضمرا بعد الخبن، فزعم أن الألف من فاعلن سقطت للخبن [و] بقي فعلن على صورة سبب ثقيل وسبب خفيف فأسكنت العين للإضمار... وهذا أيضا
مشكل أيضا لأن العين على الحقيقة في الوتد والإضمار زحاف والزحاف لا يدخل الأوتاد [ف]لا جرم أن الخليل رحمه الله لم يذكر المتدارك البتّة“ ( 70 ) ولكنّ أمين الدين لم يأت بتعليل جديد.
- الفريق الثاني: ذهب إلى إعادة صياغة صور الأجزاء بطريقة مختلفة ويتزعمه حازم القرطاجني ت 684 هـ حيث ذهب إلى أنّ الخبب عنده مر كب من أجزاء تساعية ”وبناء شطره متفاعلَتن متفاعلَتن مرتان... ويدخله الإضمار فيصير متْفاعلتن في تقدير [مستفعلتن ويدخل التشعيث الوتد] المتطرف لوقوعه في[فاصلة] فيصير إلى مفعولاتن“ ( 71 ) وبنى عليه رأيه وقد سّفه جمهورالعروضيين واعتبر أنهم ”كانوا جهّالا
194
بطرق التناسب والتنافر“ ( 72 ) فلذلك حّقق حازم كما يدّعي في كل وزن تجزئته التي تناسبه وجعل ”شطر الخبب مبنيا من جزئين تساعيين كلاهما مركب من سبب ثقيل ووتد مفروق ووتد مجموع“73
أوّل ما نلاحظه على حازم القرطاجنيّ رأيه الجريء في إبعاد الخبب عن البحر المتدارك السالم، وهو رأي نوافق مطلقا عليه.ولكن على الرغم من إعجابنا به فلنا ملاحظات في ما ذهب إليه، وأولها هو خطأ حسابه في تقدير عدد الحروف بجعل السبب، والوتدين تسعة بل الجزء يكون ثمانيا لا تساعيا، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فأنّ طريقة كتابته للتفعيلة كما تصورها خاطئة إذ كان يجب أن تكتب )متفاعِ لتن( و(مفعولاتن) حتى يظهر الوتد المفروق ويجوز أن يكون حازم القرطاجني تحاشى كتابتها بهذا الشكل لغرابتها. وأمّا تركيبه لهذه الأجزاء بهذه الطريقة فمشوبة بعيوب كثيرة لا ترتضى، فضلا عن شوزه عن القواعد العامة التي وضعها الخليل حيث أنّ :
1- إضافته لتفعيلات جديدة (متفاعلتن ومفعولاتن) على التفعيلات العشرة للخليل،
ومزاحفاتها، ومعلولاتها. بينما فعِلُن، وفِعُْلنْ موجودة في الأضرب، والأعاريض الخليلية.
2- تر كب الجزء عنده من وتدين وسبب، والجزء عند الخليل لا يشمل سوى وتد واحد في كل البحور.
3- اجتماع السبب الثقيل، والوتد المفروق في الجزء بينما يمتنع اجتماعهما في أي جزء عند الخليل.
4- مجيء وتد مفروق بعد السبب الثقيل وهذا مخالف لما وضعه الخليل حيث لا يأتي بعد السبب الثقيل إلا سبب خفيف ولا يجوز عند الخليل أن يلي السبب الثقيل وتدٌ سواء كان مجموعا أم مفروقا.
5- إمكانية تقسيم الجزء على قسمين متساويين فمتفا تساوي علتن ومفعو تساوي لاتن بينما عند الخليل لا تقبل الأجزاء الانقسام على شطرين متساويين لأنها وتر فهي إما خماسية وإما سباعية مما يجعلها وحدات لا تقبل الرتابة أو التكرار بداخلها.
6- أنّ أخطر شيء لم يراعه حازم في بدعة أجزائه هذه هو الوتد المتطرف في مُتَفَاعَ َلتُنْ سَ /وَ 0/ و...0...) إذا ما اعت ل فإنّه ينقلب إلى مُتَفَاعَ ْلتُنْ.../ 0/0 0) أو إلى مَ ْ فعُول اتن...0 / 0/ 0 0 فيأتي بعد الوتد المفروق ساكن وهذا
195
خروج مخل يدك كل ما بناه الخليل من نظام محكم، ذلك أنّ الساكن في تفعيلات الخليل لا يأتي إلا تابعا لمتحرك قبله في الحشو، فحازم جعل المتحرك الذي قبل الساكن تابعا للوتد المفروق. واعتقد أنّ هذا خطأ فاحش يدل على عدم فهم حازم لما جاء به الخليل، ولو ترجمنا الأجزاء إلى نقرات لاستحال إنجاز الساكن ما قبل الأخير في تفعيلة حازم لتعذر ذلك لأن الساكن يجب أن يكون تابعا للنقرة وليس العكس بينما فيفعِلُنْ فِعْلنْ أو فِعْلنْ فِعْلنْ تنعدم المشكلة. كل هذه الترتّبات المخالفة لما وضعه الخليل تجعل هذا البحر على مذهب حازم مارقا عن قوس الصواب ويخرج عن أغلب القواعد العامة التي وضعها العروضيون، ولا يزيد الدرس العروضي سوى تعقيدات، واستثناءات كثيرة على القاعدة العامة، وهذا مناف للتنظير العلمي الصحيح الذي يميل إلى تعميم القاعدة، وا طرادها، وتقليل الاستثناءات ما أمكن. وللتذكير فأنّ مذهب حازم في جمع بين الأجزاء قديم، فقد جاء في الكتاب المنسوب لأبي الحسن العروضي أنّه ”قد ظنّ قوم لم يدروْا هذا النوع من أيّ صنف هو فقالوْا إنّه على مَفْعُو لاتُنْ فحملوهلمّا جهلوْا أمره على ما ليس في العروض مثله“( 74 )، وأجاز التبريزي( 75 ) أيضا مفعولاتن بدلا لـِ فعْلن فعْلن فـ "حازم القرطاجنيّ" إًذا مسبوق بثلاثة قرون ونصف إلى مثل سمته في تشكيل أجزاء الخبب، كما أنّنا نخالف حازم فيما ذهب إليه من إخضاع العروض للمنطق، والفلسفة؛ فالعروض موسيقى، والموسيقى تخضع
للتقاليد الثقافية لدى الشعوب، فمثلا الأوربيون لا يقبلون إلا الدرجة الكاملة أو نصفها في الموسيقى، وأما العرب والهنود، والصينيون يقبلون الدرجة، ونصفها، وربعها، بل، وعشرها في مقاماتهم الموسيقية، والربع والعشر يعتبر نشوزا في الموسيقى بمقياس ذوق الأوربيين.لذلك فأنّ العروض كالمقامات الموسيقية يخضع أيضا للتقاليد الثقافية لدى الشعوب. فاللغة العربية مثلا لا يبتدأ فيها بالساكن وهي بهذا تخالف اللغات الأوربية وكذلك الذوق العربي قد يتفق، وقد يختلف مع غيره انطلاقا من طبيعة اللغة العربية والمحيط الثقافي والاجتماعي، فمثلا لا يجتمع ساكنان في حشو بيت من الشعر في العربية فهذه مسألة ذوقيّة، بدليل جواز اجتماعهما في النثر العربي وفي الشعر العربي الدارج.
نازك الملائكة ومحاولة التنويع الجديد في الخبب :
196
حاولت نازك الملائكة أن تحدث تغييرا في أجزاء الخبب تقول :”جاء العصر الحديث فإذا نحن نحدث تنويعا جديدا لم يقع فيه أسلافنا ذلك أننا نحوّل (فعْلنْ) إلى فاع ُ ل( وليس في الشعراء فيما أعلم من يرتكب هذا سواي. بدأت فيه منذ أول قصيدة حرة كتبتها سنة 1947 ، ومضيت فيه حتى الآن هذا مثلا مطلع قصيدتي (لعنة الزمن) من الخبب :كان المغربُ لون ذبيحِ والأفقُ كآبُة مجروحِ“76
وهي تقرّ أنها وقعت في هذا الخروج دون أن تتعمده وقد نبهها إليه خالها الدكتور جميل الملائكة وتعليل وقوعها في هذا الخروج ببساطة هي أنّ أذنها كما تقول ”على ما مرّ بها من تمرين تقبل هذا الخروج ولا ترى فيه شذوذا، وليس هو خطأ وقعت فيه وإنما هو تطوير سرت عليه وأنا غافلة ومعنى ذلك أن(فاعِل) لا تمتنع في بحر الخبب .( لأن الأذن العربية تقبلها فيه“( 77 وترى أنه يكفي قليل من التأمل لندرك أن فعِلن تساوي فاع ُ ل من ناحية الزمن )... فكلا ”التفعيلتين تحتوي على ثلاثة متحركات وساكن واحد، وإنما الفرق بينهما في مواضع المتحركات والساكن... ولعلنا حريون فوق ذلك بأن نلتفت إلى أنّ فعِ ُلنْ ليست إلا مقلوب فاع ُ ل “ ( 78 ) ثم ترى في الأخير أن إقرار هذه القاعدة يضيف سعة وليونة إلى بحر الخبب.
إن الإدّعاء أن الأجزاء إذا تساوت في عدد الحركات والسواكن دون مراعاة مواضعها يجعلها متساوية تصور قاصر ومغالطة واضحة لأن هذا يجعل مثلا فاعلن متساوية مع فعولن ويجعل مفاعيلن متساوية مع مستفعلن، وفاعلاتن، ومفعولات ومستفع لن بل ويجعل الوتد المجموع متساويا مع الوتد المفروق، وهذا لا يقول به إلا جاهل بعلم العروض.
وكيف نفسر انقلاب السكون إلى حركة ؟ ثم لو افترضنا تجويز تجاور فعِلن مع فاع ُ ل فسوف يحدث تتابع خمسة حروف متحركة في حالة مجيء فاع ُ ل قبل فعِلن (فا 0عل/ فعلن 0) وهذا خروج ناشز عن الذوق العربي نظرا لركاكة تتابع الحركات.حيث يسمح فقط بتتابع أربع حركات وهي أقصى درجة أي بقطر خماسي أو ما سماه الخليل بالفاصلة الكبرى ( 0) التي لا تكون إلا بخبل مستفعلن فينتقل إلى (فعلتن).
197
فلأجل هذا لم تلق دعوتها تلك مناصرا، لإخلالها بقوانين العروض وبالذوق العربي، بل وبالحسّ الموسيقي ولا يَُفسَّر رأيها هذا إلا كونه إصرار نابع من عقيدة العناد على ارتكاب الخطأ ثم الاعتذار الخاطئ والساذج له. وكل هذا لم يكن ليحدث لولا الخلط والتمحل الذي سار عليه القدماء في اشتقاق
َفعِلُنْ وفِعُْلنْ منْ فاعلن.كيف يجب معالجة العلاقة بين اجزاء :فاعُِلن، وَفعُِلنْ، وفِعُْلن ؟ أنّ أبا الحسن العروضي ثم الجوهري هما في رأيي أوّ ُ ل من تسبّب في هذا الخلط إذ لم يحافظا على قوانين العلل التي وضعها الخليل ولع ل الذي أجبرهما على هذا هو أنها كانا لا يريدان الخروج عن دوائر الخليل الخمسة من جهة وتفعيلاته الثمانية أو العشرة من جهة ثانية والتي يشترط فيها وتد، وسبب على الأقل أو وتد وسببين على الأكثر ،وكذلك كون فعِلن وفِعُْلنْ لا تقبلان الطيّ فأشبه السبب الثاني في)فعلنْ (الوتد في (فعِلن) المخبون بعدم قبول إسقاط الساكن، فلهذا التزما بقانون الدوائر، والتفعيلات، ولكنهما في المقابل
تجاوزا قانون العلل فأضحت العلة إجبارية في حشو البيت المشعث أو المخبون المشعث بحيث يستحيل رجوع الجزء فعْلن إلى سلامته أي إلى فاعلن أو الجزءين فعِلُنْ فعْلن إلى فاعلن فاعلن، والعكس بحيث يستحيل تشعيث وخبن جزء واحد في البيت السالم الأجزاء فلا يلتقي الجزء فاعلن السالم بالجزء المشعث المخبون فِعْلن أبدا في حشو قصيدة ولا عروضها، ولا ضربها، وهذا يناقض قانون العلل والزحافات عند الخليل. وأرى أنه كان الأجدر اعتبار الجزءفعِلن القابل للإضمار أي فِعُْلنْ غير مشتق من الجزء فاعلن لأن فعِلن الناتجة عن خبن فاعلن غير فعِلن القابلة للانتقال إلى فعْلن بالإضمار فالأولى هي مركبة من سبب مزاحف ثم وتد (س و) والثانية مركبة من سبب ثقيل بعده سبب خفيف (سَ س)، لذلك يجب في رأيي :
1- اعتبار المتدارك السالم بحرا سادس عشر يجب مراعاته نظرا للأمثلة الحديثة الموجودة فعلا مع جواز خبن فاعلن في الحشو والعروض ومنع الخبن في الضرب السالم ولا داعي لإلغائه كما فعل الأستاذ مصطفى حركات لوجود الأمثلة عليه بالفعل.
2- اعتبار الخبب بحرا سابع عشر خارجا عن دوائر الخليل تتميز تفعيلتاه عن التفعيلات الخليلية في تركبّها من سببين فقط على وزن (فعِلُنْ) أربع مرات في كل شطر
198
مع جواز انقلابه بالخبن إلى (فَعِلُنْ) وعدم دمجه مع المتدارك السالم، وفي المقابل يخضع لقانون الزحافات، والعلل التي أقرها الخليل، وذلك باعتبار السبب الأول قابلا للإضمار فقط وامتناع الوقص، واعتبار السبب الثاني المتطرف استثناء للقاعدة كالوتد لا يجوز مزاحفته لقلة حروف الجزء أو لانعدام الوتد فيه فهو يخلفه أو بمعنى آخر ك ل جزء مركب من سببين فقط يجب اعتبار السبب الثاني فيه كالوتد يجري عليه قانون العلة ولا يجري عليه قانون الزحاف.وهذه قاعدة بسيطة، يسهل هضمها لدى الطالب.
بقي في الأخير أن نشير إلى أن الخبب لا يختص باللغة العربية الفصحى بل قد دخل في : ( عامّيتنا فمثلا يقول الحاج ابن الدين( 79
ضَايِق ْقْلبِي حَالِي مْعَسَّرْ............... يَا مَوْ لايَا عَنِّي دَبَّرْ
مَا صُبْتَ صْرِيخُ و لا نَاصِرْ.........مَنْ غيْرَكْ في المُجِدَّاتْ
فهي على وزن.................. : فعْلن فعْلن فعْلن فعْلن............فعْلن فعْلن فعْلن فعْلن
وكذلك قول يحيى البهلول في الفيّاشية :
آنَا مَا نِي فَيَّاشْ..................... آشَ عْلِيَّا مِنِّي
نَقَلقْ مِنْ رِزْقِي لاشْ......... وَالخَالِقْ يَرْزَْقنِي
فهي على وزن مجزوء الخبب......... :فِعُْلنْ فِعُْلنْ فعْ لانْ...... فِعُْلنْ فِعُْلنْ فِعُْلنْ
وقد أخطأ المرحوم العلامة محمد بن أبي الشنب في تقدير هذا الزجل على وزن الرجز( 80 ).ولا بدّ من الإشارة إلى كون الشعر العاميّ يجوز فيه الطيّ فيمكن أن تنقلب فِعُْلنْ إلى فِعْلُ فهو يختلف من هذه الجهة على الخبب في الفصيح الذي يعامل فيه السبب المتطرف في الجزء فعِلن وفِعُْلن معاملة الوتد في ثبوت الساكن فيه وعدم قبوله للزحاف. وبما أنّ وزن الخبب يعتمد على المقطع المتوسط فإنه يلتقي مع أوزان الأعاجم والأورببيين لاعتمادها على المقاطع. وقد أثبت الأستاذ المصري أحمد نجيب أنه ”تجري على وزنه معظم الأغاني الشعبية المصرية والعربية..وهو أيضا الوزن المحبب للأغاني الشعبية في مختلف لغات العالم..“ 81
وقد توصل بعد دراسة إحصائية بلغت 492 تفعيلة لعدد من أغاني الأطفالالشعبية موزعة
على تسعة عشر لغة في العالم غير العربية إضافة إلى لهجة المصرية والسعودية واليمنية فظهر
له أن 478,5 هي من المتدارك المجتث.
حكاية البحر المتدارك
199
: ( ومن أمثلة الأغاني التي ساقها أحمد نجيب على المجتث( 82
أغنية أطفالعامية هي :
حَادِي بَادِي سِيدِي مْ حَمَّدْ إْلبغْدَادِي
وأغنية للأطفالرومانية :
PE POTECA CODRULUI بِي بُو/ تِي كا/ ُ كدْرُ ْ ل/ وِي
MERGE MAMA RADULUI مِرْجِي/ مَامَا/ رَادُ ْ ل /وِي
وأغنية للأطفال إيطالية:
سُْلسُو/ لِِتْتُو/إ ْ ل بِي/ بِسْتِي/ رِْلُلو Sol soletto vola il pipistrello
إِي لأ / ُلونَا/فا كا /بُولِنْ E la luna fa capolin
لانِلْ/بُسْ ُ كو/سُبْرَا/ ُأنْرَا/مُوشِْل/ُلو La nelbosco sopra un ramoscello
مِسْيُو / جُوُفو / كنْتَا / ُ كنْ ُأرْ / دُرْ Messieur Gufo canta con ardor
وأغنية باللغة البانغالية مع صياغتها بالخط الإنجليزي:
هَتْتِي/ مَاتِم/ تِمْ Hattimatimtim
تَارَا / مَاتِي / بَارِي / دِمْ Tara mathe pare dim
تَادِرْ / كارَا /دُوتُو / شِنْ Tader khara du tooshin
تَرَا هَتْتِي/ مَاتِمْ/ تِمْ Tara Hattimatimtim
وظاهرة اشتراك الشعوب العالم في هذا البحر تنبّه إليها قبلا محمد التهانوي صاحب "كشاف اصطلاحات الفنون" حيث فذكر أنّ بحر ”المتدارك اسم بحر من البحور المشتركة بين العرب والعجم ووزنه فاعلن ثماني مرات“ ( 83 ) وهذا القول صحيح ينطبق على السالم، والمخبون فقط أو المشعث فقط.ولا يمكن بأي حالأن ينسحب على المخبون المشعث لأن المخبونفعِلُنْ ذو ثلاثة مقاطع بينما المشعث فِعُْلنْ ذو مقطعين فقط.
الخلاصة :
توصلنا في هذه المقالة إلى ما يأتي :
200
1- أنّ بحر المتدارك السالم لا توجد عليه شواهد في شعرنا القديم، بينما في شعرنا الحديث توجد شواهد كثيرة لا يفيد تجاوزها أو تجاهلها.
2- الخبب ذي الأجزاء المشعثة أو المخبونة عند القدماء موجود من القرن الثاني عند الشعراء كما أنه موجود في الشعر العامي بالوطن العربي وعند كل شعوب العالم خاصة في أغاني الأطفال.
3 - الخلط الذي وقع فيه القدماء بإدماجهم للجزء فعِلن أو فعْلن المتفرع منه مع فاعلن وجعله في بحر واحد مع المتدارك السالم مما يشوش قوانين العلل، والزحافات التي استنبطها الخليل.
4- وجوب الفصل في تدريس مادة العروض بين بحر الخبب ذي الأجزاء التي تحتوي
على سببين أحدهما ثقيل والثاني خفيف(فعِلن)، وبين بحر المتدارك السالم الذي يحتوي على
سبب خفيف بعده وتد (فاعلن).
البحر المتدارك جزؤه الخماسي (فاعلن) يتكون من سبب خفيف بعده وتد مجموع
وجواز خبنه (فعِلن) مع وجوب أن يكون في القصيدة جزء سالم على الأقل. وقبوله
لقوانين الزحاف والعلة المناسبة لأجزائه والتي لا تخرج عما وضعه الخليل .
5- بحر الخبب جزؤه رباعيّ ( فَعِلُنْ ) يتكون من سبب ثقيل بعده سبب خفيف، وهو يختلف عما وضعه الخليل في مكونات الأجزاء، حيث ينعدم فيه الوتد، ولكن في المقابل يجب اعتبار السبب الثاني معادلا للوتد ويقبل العلة فقط في العروض، والضرب، ولا يقبل الزحاف، فينقلب الجزء بالزحاف إلى فِعْلنْ وبالعلة إلى فعِلان بالتسبيغ، وإلى فاعْ بالقصر وإلى فعْ بالحذف.وأما السبب الأول فيقبل زحافا واحدا هو الإضمار فينقلب إلى فِعْلن، ويمتنع الوقص.
6- لا بدّ من إعادة ترتيب الأعاريض والأضرب في بحر المتدارك وفي بحر الخبب ودراسة جديدة للنماذج التي نظمها الشعراء في العصر القديم والحديث.
المفضلات