السلام عليكم

أستاذ الصمصام تحية لك وللأساتذة الكرام :

أتفق معك في ملاحظتك التي عرضتها فليس للمجون والخلاعة عذر, ولا أعرف لماذا نعذر الشعراء القدماء ولا نعذر المحدثين, ولا أجد سبباً لذلك سوى ظهور مصطلح العلمانية في عصرنا الحديث, رغم أننا في مجتمعاتنا الإسلامية ـ تجاوزاً ـ نجد أن الناس العوام يستخدمون عبارات ماجنة وفيها كثير من ألفاظ الكفر في أحاديثهم العادية دون أن نجد من يستنكر عليهم ذلك , طبعاً أنا لا أبرر ذلك ولكنني أقول أننا نتعامل مع الأمور بازدواجية عجيبة وبتناقض كبير فالمجون والخلاعة مرفوضة سواء جاءت من رجل عامي أو من شاعر , أو جاءت من شاعر قديم أو محدث.

بيّن الأستاذ محمد أن أبا عقيل الظاهري لم يضع مفهوم العلمانية في سياقه الصحيح , وهذا الأمر خطأ كما بيّن الأستاذ محمد .

ولكن هناك سؤال وهو لماذا يلجأ الشاعر إلى مثل هذه التعابير أو الصور التي تحمل بين طياتها معاني الكفر والفسوق ؟
أعتقد أن الشاعر الذي يلجأ إلى مثل ذلك إما أنه يلجأ إليه بحثاً عن التميز والإتيان بالتعابير الجديدة التي لم يسبقه أحد إليها مثل شوقي حين وصف دمشق بالجنة فقال :
آمَنتُ بِاللَهِ وَاِستَثنَيتُ جَنَّتَهُ........................ دِمَشقُ روحٌ وَجَنّاتٌ وَرَيحانُ
فقد استخدم هذا التعبير من أجل أن يأتي بمعنى جديد ظناً منه أن يأتي بما لم يقله الأوائل.

أو أن الشاعر يلجأ لذلك من أجل بيان رأيه وعقيدته الحقيقية , وهذه العقيدة إما أن تكون عن شك فهو يبحث عن الحقيقة, يساوره شعور بالإيمان تارة وبالشك أخرى فيظهر هذا في تعابيره, ولنا أن نقول عن قول المعري :

هذا بناقوس يدقّ ................وذا بمئذنة يصيح
كلّ يمجّد دينه..............يا ليت شعري ما الصحيح

أنه كان يشك وأن نفسه كانت محتارة .
بينما نقرأ شعراً لأيليا أبو ماضي يقول فيه :

أَنَا بَعْدَ الْمَــــوْتِ شَيْئاً لا أَكُونْ...........حَيْثُ أَنِّي لَمْ أَكُنْ مِنْ قَبْــلُ شَيّ
إِيهِ أَبْنَاءَ الثَّرَى نَسْــلَ الْقُرُودْ..........عَلِّلُـــوا أَنْفُسَـكُمْ بِالتُّرَّهَـاتْ
إِلْبَسُوا فِي صَحْوِكِمْ ثَوْبَ الجُمُودْ............وَاحْلُمُوا فِي نَوْمِكُمْ بَالْمُعْجِزَاتْ
فَسَيَأْتِي زَمَـنٌ غَيْْرَ بَعِيدْ.........................تَتَهَـادَى بَيْنَـكُمْ فِيهِ أَيَاتْ
وَيَحِلُّ اللَّهُ فِي مَــــاءٍ وَطِيــنْ ........... فَيَرَاهُ الشَّيْخُ والشَّــــابُّ الأَحَيّ

فهو في هذه الأبيات يعرب صراحة عن عدم إيمانه بالبعث والحساب أو الجنة والنار.


وهناك نقطة أخرى وهي قول أبو عبد الرحمن الظاهري : " أفعجز شعراؤنا عن إحلال الجمال في محله اللائق به حتى يقال لا مندوحة لهم عن جمال القبح؟ "
وهنا أحب أن أتحدث عن مفهوم الجمال : كثير من الناس يرى أن الجمال في العري والمجون والخلاعة والخروج عن المألوف , وهذا طبعاً خطأ وإلتباس بالفهم, لأن الله جعل الجمال في التناسب والطهر والرقي , صحيح أن الجمال نسبي ولكن الناس تجتمع على معايير مشتركة لتقويم الجمال , فليس هناك ما يسمى بجمال القبح كما أسماه أبو عبد الرحمن ولكن هناك لفظ آخر أراه أنسب وهو لفظ حرية الشاعر بأن يأتي بما يريد من صور سواء كانت ماجنة أو فيها كفر وفسوق بحجة أن الأديب بحاجة للحرية حتى يبدع .
ومفهوم الحرية يظنه كثير من الناس أنه مقابل للتفلت والإنعتاق من كل قيد وعرف ودين أو خلق وهذا طبعاً مخالف لمفهومها الذي بيّنه الله تعالى في كتابه العزيز : "لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ * رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفاً مُطَهَّرَةً * فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ * وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ * وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ " (البيّنة:من 1 إلى 5) .
فالقرآن الكريم يبيّن أنّ عبادة الله والالتزام بشرع الله يُشعر بالحرّيّة الحقيقية . فالحرّيّة الحقيقية تعني أن يفعل الإنسان ما أمره به الله , وينتهي عمّا نهاه عنه, جاعلاً هدفه تحقيق الخير والسّعادة له ولجميع النّاس فيتحرر بذلك من ذلّ العبودية لغير الله , ومن ذلّ الإتّباع لغير الله, ومن ذلّ السّؤال والالتجاء لغير الله, ومن ذلّ التعلّق بالمظاهرالزّائفة, أو العادات السّخيفة, أو الشهوات الّتي يحبس الإنسان نفسه ضمن إطارها.

أعود الآن للموضوع الأساسي وهو العلمانية في الشعر العربي الحديث , فكما قال أستاذي خشان "أن العلمانية هي الاتجاه الواعي لإقصاء الدين عن الحياة في الغرب وانتقلت إلينا بهذا المفهوم الذي اتخذ الحداثة ذراعا أدبية وزاد بعض العلمانيين الحداثيين العرب على مفهوم الغرب مفهوم تدمير الثوابت وليس مجرد إقصائها ( يعنون بذلك الإسلام)"
إذاً هي خطة واتجاه واع لإقصاء الدين عن الحياة ولأجل تدمير الثوابت والأخلاق الموجودة في المجتمع , ولعل في بعض شعر الحداثة دليل على ذلك , يقول أدونيس ـ وهو رائد الحداثة في الوطن العربي ـ " ومبدأ الحداثة هو الصراع بين النظام القائم على السلفية، والرغبة العاملة لتغيير هذا النظام................هكذا تولدت الحداثة في تاريخنا من التفاعل والتصادم بين موقفين أو عقليتين في مناخ من تغير الحياة ونشأت ظروف وأوضاع جديدة" .

طبعاً ليس كل خروج عن المألوف هو تدمير للثوابت فكثير من العادات والتقاليد التي تسيطر على المجتمع تكون تافهة وغير جديرة بالبقاء , المقصود هنا هي ثوابت الأخلاق وثوابت الطهر وثوابت الدين والإيمان التي يحاربها هؤلاء ويكفي أن نقرأ قول صلاح عبد الصبور لنعرف المعنى المقصود :

ملاحنا ينتف شعر الذقن في جنون
يدعو إله النقمة المجنون
أن يلين قلبه ، ولا يلين
ينشده أبناؤه وأهله الأدنون
والوسادة التي لوى عليها فخذ زوجه
أو ولدها محمداً وأحمدا وسيدا
وخضرة البكر التي لم يفترع حجابـها إنس ولا شيطان
يدعو إله النعمة الأمين أن يرعاه حتى يقضي الصلاة
حتى يؤتي الزكاة
حتى ينحر القربان
حتى يبني بـحُر ماله كنيسة ومسجداً وخان.

وللشاعر نجيب سرور قصيدة أخجل حتى من ذكر لفظة واحدة منها , قصيدة مليئة بالألفاظ البذيئة الفاضحة , صحيح أنه أتى بهذه الألفاظ لتعرية واقع أكثر بذائة منها ولكن هذا لا يبرر استخدامها لأن مهمة الشاعر برأيي هي الإرتقاء بالذوق العام, ومحاربة الفساد بكافة أشكاله بطريقة تعريه وتفضحه لكن بسمو وليس كما قال عمرو بن كلثوم :
ألا لا يجهلنْ أحدٌ علينا ................... فنجهلَ فوق جهلِ الجاهلينا
ولكن كما قال عبد المحسن الصحاف :
ولا تجاوب سفيها في مشاتمه .............. تكن نظيرا له في الوصف والمثل