الأستاذ العزيز الصمصام:
لا خلاف على كثير مما قاله أبو عبد الرحمن، ولكن لي ملاحظة عامة وملاحظة عرضية على فقرة مما ورد في المقال:
الملاحظة الأولى أن أبا عبد الرحمن فيما بدا لي لم يحدد بصورة واضحة تعريفه لمفهوم "العلمانية"، مما جعله يتناوله وكأنه مفهوم يعني ببساطة كل استخفاف بالدين والأخلاق، وهذا ما يدفعه إلى أن يدرج شعراء قدماء في عداد العلمانية.
ولا أتفق مع هذا التوجه، لأن مصطلح "العلمانية" مصطلح حديث فليس من الحكمة أن نستعمله في غير ما وضع له، ولك مندوحة في أن تصف أيا نواس وصحبه عفا الله عنهم مثلاً بأنهم كتبوا شعراً فاسقاً ماجناً أو ما شئت من أوصاف منطبقة على حال ذلك الشعر دون أن تلجأ بدون مراعاة كافية للدقة إلى أن تصف شعرهم بأنه "علماني"
وكلمة "علماني" كما تعلم كلمة ابتكرت لترجمة الكلمة secularist وقد تستعمل لترجمة laic وفي الحالتين نحن إزاء مفاهيم لها سياقها الغربي المتعلق بالفصل بين شؤون الكنيسة والشؤون المدنية الأخرى، فتراهم حين يقولون "رجل علماني" قد يعنون به ببساطة أنه ليس من السلك الكنسي.
وفي السياق العربي صارت الكلمة تعني الاتجاه الداعي للفصل بين الدين والدولة.
وفي جميع الأحوال يجب تدقيق المصطلحات وتمييزها، وحتى الشعراء المعاصرون المذكورون في المقال، لا أرى من الدقة أن نحشرهم جماعة تحت اليافطة العامة"العلمانية"، وهنا أنتقل إلى الملاحظة العرضية.
يقول الكاتب:
"إن من التماجن المألوف في العلمانية القديمة تفدية الخاطئات،ولكنه أصبح في الشعر الحديث دعوة
لإشاعة الفاحشة،وإعلان مشروعيتها بتسويغ البغاء،فهذا محمود حسن إسماعيل في قصيدته
(هكذا قالت البغي)يسوغ بديوانه(هكذا أغني)خطأها بالجوع ويحمل المجتمع تبعيتها.
والشاعر محمد شحاته شاعر البراري يرثي اللقيطة في ديوان(نجوم ورجوم)،وهكذا فعل كامل أمين في
ديوانه(نشيد الخلود)،وفؤاد بلبل في (أغاريد الربيع)،وربما حملناهم على حسن النية إذا قلنا بأن
ذلك التزام لمنهج الغربيين في العطف على الخاطئات،ولكن سبيلهم غير سبيلنا لأن الفاحشة عندهم مباحة.
والعطف من ضمير إنساني يحب الخير لبني جنسه،ويبكي لأخطائهم لا يوصف بالعلمانية،ولكن العلمانية أن
يصل العطف إلى التسويغ والإشاعة."
لاحظ أن إسماعيل على الأغلب بعيد عن العلمانية كما وصفها الكاتب اللبيب المفيد في كثير من كتاباته أبو عبد الرحمن بن عقيل، فهو من جيل علي محمود طه، وكان هؤلاء قوماً بسطاء ليسوا مفكرين بل هم من المسلمين العاديين المغرمين بالشعر.
وتأثراً بالأدب الرومنسي عطفوا على الخاطئات، ومن غير العدل في اعتقادي الزعم أنهم كانوا يشجعون الفاحشة في هذا الموضوع، إذ كانوا يعتبرون الوضع الأسفل الذي وصلت إليه هاتيك البائسات نتاجاً لخلل اجتماعي شديد، وهذ ليس بعيداً عن الحقيقة في كثير من الحالات التي نحن الآن ربما لا نتصورها لأننا لم نعش في أوضاع اجتماعية كتلك. باختصار هم رأوا أن في هذا الوضع جريمة اجتماعية، فكيف يكونون مستحسنين له كما نفهم من اتهامهم بتشجيع الفاحشة؟
"ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى"!
وبقي خطأ فات أبا عبد الرحمن أيضاً:
"اللقيط" هو الطفل مجهول الوالدين، وليس هو المرأة التي تبيع نفسها، فهو ضحية بريئة لا ذنب لها، وإن رثاه شاعر ما فلا أرى في ذلك خطأ ناهيك أن يكون علمانياً، بل أحرى الناس برثاء مثل هذا الطفل هو الإنسان المتدين صادق التدين!
المفضلات