السلام عليكم
أستاذ محمد ب هذا موضوع هام جداً , وقد كُتب عنه الكثير والكثير , وخلال دراستي وكتابة بحثي الذي حمل عنوان قضايا الإصلاح والنهضة عند محب الدين الخطيب تعرفت على كثير جداً من الكتب والمقالات التي بحثت بعلاقة الشرق مع الغرب , وخرجت بفائدة أعتقد أنها جديرة بالإهتمام وهي :
كما أن كثيراً من العلماء والأدباء فتنوا بحضارة الغرب ودعوا إلى الذوبان فيها وتطرفوا لدرجة صاروا يرون كل ما يتعلق بالعرب والمسلمين هو تافه وغير جدير بالإهتمام كان هناك بالمقابل علماء وأدباء ورجال فكر قضّوا حياتهم في مواجهة ما صار يُعرف بتيار التغريب , وعملوا جهدهم على إظهار فضل العرب والمسلمين والرفع من شأنهم والعمل على تقدمهم ورقيهم .
فكما كان هناك طه حسين وسلامة موسى ولطفي السيد وشبلي شميل وعلي عبد الرزاق ومنصور فهمي وغيرهم كان هناك محب الدين الخطيب ومحمد الخضر حسين وأحمد تيمور وشكيب أرسلان وعبد العزيز جاويش وغيرهم .
لكن المشكلة هي أن البلاد العربية والإسلامية وقعت فريسة سهلة للمحتل الغربي الذي دعم توجّه التغريبين وأقوالهم وأبحاثهم حتى صارت كأنها الحقيقة الساطعة وجاءت الحكومات بعد الإستقلال لتتابع الدور الذي رُسم لها أصلاً فهمّش الرأي الآخر ووصم أصحابه بالتخلف والرجعية والبعد عن الحضارة .
وكمثال على المفكرين الذين قاموا دعوة التغريب والتغريبين أنقل لكم ما كتبته في بحثي المشار إليه سابقاً عن عمل السيد محب الدين في ذلك:
يُعتبر السّيّد محب الدّين من أهمّ الكتّاب الّذين سخّروا أقلامهم لمقاومة تيار التّغريب, ولبيان أهداف وأخطاء هذا التّيار. وقد كانت مطبعته وصحفه منبراً لكلّ الأقلام الّتي كانت تسعى لنفس الغاية الّتي سعى إليها, فقد كتب في مجلّته الزّهراء والفتح مقالاتٍ هامّة في هذا الموضوع, منها, مثلاً, مقاله الّذي يحمل عنوان "حملة التّجديد والإصلاح", والّذي نشره في الزّهراء, ومما جاء فيه قوله:"هناك تجديدٌ حقيقيٌّ وتجديدٌ مدسوسٌ, وإذن, فالمقياس الّذي يتميّز به التّجديد الحقيقيّ عن التّجديد المدسوس هو تعيين المبادئ والغايات, ورسم الخطط فيما بينهما"(1)
فالسّيّد محب الدّين كان يريد من المتغرّبين أن يحددوا أهدافهم وغاياتهم, وما هو التّجديد الّذي يطلبونه, والّذي يناسب أمّتنا, وديننا, والّذي يؤدّي حقّاً إلى تقدّمنا وعزّتنا, وتخلّينا عن منتجات ومصنوعات الأمم الأخرى, والّذي يساهم بتقدّمنا حقيقةً لا شكلاً, وجوهراً لا مظهراً خارجياً فقط. لذلك فهو يقول, في مقاله المشار إليه آنفاً: " تُرى, ما هي مبادئ حركة التّجديد الحقيقيّة الّتي يحتاج إليها هذا الشّرق العربيّ؟ وما هي غاياتها؟ وما هي خططها؟ نريد أن نكون أقوياء في أنفسنا, ومحترمين عند الأمم القوّيّة, هذه غاية يجب أن نصل إليها, ويجب أن نحتفظ بكياننا القوميّ والوطنيّ والدّينيّ, وهذا مبدأٌ يجب أن نقطع اليد الّتي تحاول قطع ما بيننا وبينه. فالخطّة الّتي يجب أن نرسمها بين هذا المبدأ, وتلك الغاية هي أن نأخذ من كلّ مكانٍ ما نحن في حاجةٍ إليه من أسباب القوّة, وأن نحتفظ بكلّ ما في كياننا القوميّ والوطنيّ والدّينيّ, مما لا يعدّ من عوامل الذّلّ, وبواعث الوهن"(2).
وهكذا حدد السّيّد محب الدّين ما يمكن قبوله من الغرب وما يمكن رفضه, فهو يريد أن نستفيد من أسباب القوّة الموجودة عند الأمم القوّيّة, فنستفيد من العلوم والإختراعات, ونطوّرها حتّى تكون لنا صناعاتنا الخاصّة واختراعاتنا الخاصّة, وأن نبتعد عن كلّ ما يُخرجنا عن كياننا القوميّ والوطنيّ والدّينيّ, فتبقى لنا شخصيّتنا الخاصّة, الّتي تميّزنا عن غيرنا من الشّعوب والأمم الأخرى. وكان يعلن عن هذا بقوله: " التّجدد الّذي نبقى معه مسلمين حقّاً......., التّجدد الّذي ينمّي في نفوسنا فضيلة الوفاء لأجدادنا......, التّجدد الّذي يزيدنا قوّة وثروةً ومنعةً, ويرفع عنّا ذلّة الخنوع لنير الأجانب ونزعاتهم ونزغاتهم, فذلك التّجدد نحن دعاته, والمرحّبون به, والحاضّون عليه"(3).
وحارب السّيّد محب الدّين كلّ الدّعوات الّتي تتنافى مع إيمانه هذا, فنراه يقول: " في مصر دعاية إلى شيءٍ يسمّونه أدباً مصريّاً, وتحت هذه الدّعاية مقاومةٌ لشيءٍ يسمّونه أدباً عربيّاً, و نحن إذا تجاوزنا عن المآرب المستترة تحت الدّعاية الظّاهرة, لا نكاد نتصوّر تنافياً, بل ولا تعارضاً بين أن يكون لمصر أدبٌ مصريٌّ, وبين أن يكون لمصر مع سائر الشّعوب العربيّة أدبٌ عربيٌّ"(4).
وكان لموضوع الأدب واللّغة العربيّة, والدّفاع عنهما ضدّ المشكّكين, والدّاعين إلى تفريق وحدة العرب عن طريق هدم أهمّ رابطةٍ تؤلّف بينهم, وهي اللّغة العربيّة, حيّزٌ كبيرٌ في خطة السّيّد محب الدّين لمقاومة المتغرّبين, الّذين هاجموا اللّغة العربيّة, ودعوا إلى استبدالها باللّغة العاميّة, أو قاموا بالحطّ منها, وبيان عجزها عن مسايرة الحضارة والتّقدّم.
وهاجم في مجلّاته كلّ من تعرّض لهذه اللّغة بالسّوء, فنقرأ في مجلّته الزّهراء, مثلاً, قوله معلّقاً على مقالة نشرها في هذه المجلّة, بعنوان "العاميّة والفصحى": " إذا كنّا نحمد للسر وليم ويلكوكس( 5) مساعيه في مصر لإصلاح أرضها, فإنّنا في الوقت نفسه نعدّه في زمرة العاملين مع دعاة البروتستانتيّة من جهةٍ, ومع الّذين يكيدون للعربيّة, كحضرة الفاضل سلامة موسى أفندي, من جهةٍ ثانية"( 6).
وكتب في مقالٍ نشره في الفتح بعنوان "إحلال العاميّة في محل العربيّة الفصحى أمنية كلّ من يتمنّى هدم الإسلام", قائلاً: "الدّعوة إلى إحلال العاميّة محل العربيّة الفصحى من أدب النّاطقين بالضّاد وثقافتهم, ليست من مخترعات هذا الجيل, بل هي فكرةٌ استعماريّة"( 7). واعتبر أنّ هذا المستعمر كان هدفه الأساسيّ حرمان العرب والمسلمين من تراث الفصحى, في الدّين والعلوم والآداب, لتسهل على الاحتلال مهمّته(8 ).
ونشر قصائد تمجّد اللّغة العربيّة الفصحى, وتحارب كلّ من يدعو إلى تركها, أوعدم استخدامها, أو استبدالها باللّغة العاميّة. ومن هذه القصائد ما نشره في مجلّة الفتح, لمناسبة الدّعوة في المجمع اللّغوي إلى اللّغة العاميّة. وقال في تقديم هذه القصيدة: "لمّا كاد النّاس ينسون ذلك الهذيان الّذي قُدّم إلى مجمع فؤاد الأوّل للغة العربيّة من بعض أعضائه, يقول لهم فيه إنّ تعلّم العربيّة الفصحى محنةٌ حائقةٌ بأهل العربيّة, إنّه طغيانٌ وبغيٌ, جاء عضوٌ آخر من أعضاء المجمع بتقريرٍ يقول فيه: إنّ لغة القرآن فقدت مرونة التّطوير, ويقترح التّفكير في العدول عنها إلى العاميّة.........ارتجل الشّاعر على أثر ذلك الأبيات التّالية, يصف بها العربيّة, بين حماتها وعداتها"( 9). وكان من هذه الأبيات قول الشّاعر:
هي للعاشـق شغلٌ شاغلُ ............ فليقل ما شاء عنه العاذلُأ
بغض العرب رجالٌ لا يُرى .......... منهم إلّا كـذوبٌ خاتلُأ
إلى العجمة تدعـو يعرباً ........... باطـلٌ ما أنت فيه آملًُ
وكما قلنا, فقد جعل السّيّد محب الدّين مطبعته ومكتبته السّلفيّة وصحفه, منبراً لمقاومة التّغريب وأفكاره. فعندما أصدر السّيّد سلامة موسى كتابه أحلام الفلاسفة, انتقد السّيّد محب الدّين هذا الكتاب لما حمله من أفكارٍ وآراء, رأى فيها محاربةً للأديان. وعرض السّيّد محب الدّين لبعض ما جاء في هذا الكتاب من هذه الأفكار, ونبّه إلى ما فيه من دسٍ على الأديان والمعتقدات ودعوةٍ إلى تركها, يقول: "نشرت مجلّة الهلال(10 ) الغرّاء كتاباً جديداً لسلامة موسى أفندي بهذا العنوان, أراد أن يستعرض فيه أماني العظماء في تكوين الإنسانيّة, وإبلاغها إلى ما يرتجونه من المثل العليا. وكانت هذه الفكرة جميلةً بذاتها, لولا ما بثّه الكاتب في كتابه من آراءٍ خبيثةٍ, لم نكن نتوقّع من رصيفتنا الهلال أن تكون واسطةً لنشرها أو إيصالها إلى الأوساط العائليّة, فتتناولها الفتيات وقليلو التّجربة. كقول سلامة موسى أفندي صفحة 81: "وكان أفلاطون يبحث في شيوعيّة النّساء, ففي مثل هذا الوسط الحرّ نشأ أدبٌ نزيهٌ, خلّوٌ من القيود, لا يزال إلى الآن يوحي إلى الكتّاب والأدباء روح التّفكير النّزيه الحرّ الجريء". وكقوله صفحة 87 في موضوعٍ آخر: "وليس في هذا النّظام ما يخالف الطّبيعة البشريّة كما يتوهّم القارئ لأوّل وهلةٍ, فإنّ العائلة لا تزال موجودةً بوجود الأمّ, الّتي هي صلة القرابة بين جميع السّكان, ثمّ إنّ الأبناء لا يعرفون لهم أباً معيّناً, فالمنفعة الشّخصيّة والأثرة الأبويّة منتفية, وبذلك ينتفي التّنازع بين أفراد البيت, ثمّ إنّ الشّهوة الجنسيّة غير مقيّدةٍ لأنّ لجميع الأفراد أن يتمتّعوا بها, بشرط أن لا تعقب نسلاً". هذا بعض أحلام الفلاسفة الّتي يذيعها سلامة موسى أفندي, بواسطة رصيفتنا مجلّة الهلال, لتدخل كلّ منزلٍ تدخله الهلال, لأنّ الكتاب هديّة لقرّائها...وكنّا نستغرب من الأستاذ المؤلف شدّة كراهيته للإسلام والنّصرانيّة معاً, مع أنّ الثّانية دين آبائه, إلى أن علمنا من كتابه هذا صفحة 31 ما أساءت به هاتان الشّريعتان إلى حضرته, حيث قال: "ثمّ كان ملوك النّصارى, وخلفاء المسلمين, عائقاً آخر يمنع التّخيّل, والبحث في المثل العليا للحكومات, والهيئات الإجتماعيّة". ويريد من هذه المثل العليا نفس الأحلام الّتي ألّف منها كتابه, وأراد أن تكون من الثّقافة الّتي تستنير بها بناتنا ونساؤنا, وأبناؤنا وشبابنا, حتّى يخلصوا من هداية موسى, وعيسى, ومحمّد صلّى اللّه عليه وسلّم"( 11).
ونشر السّيّد محب الدّين مقالاتٍ لكتّاب كثيرون ينتقدون أفكار سلامة موسى ومن يلفّ لفّه, منها مقالةٌ بعنوان "شرقيٌّ يكره الشّرق", فيها عرضٌ لكتاب سلامة موسى اليوم والغد, ونقدٌ لأفكاره, و لما فيه من كراهية للشّرق, وتمجيدٍ للغرب( 12). ونشر أيضاً مقالاً فيه نقدٌ لمقالات سلامة موسى عن استعمال اللّغة العاميّة بدل اللّغة العربيّة الفصحى, وهو بعنوان "العاميّة والفصحى"( 13) بيّن فيه الكاتب أهميّة اللّغة الفصحى, ودافع عنها. وعلق السّيّد محب الدّين على هذه المقالات بما يبيّن حبّه الشّديد للّغة العربيّة الفصيحة, وإيمانه العميق بها, وبجدارتها بمواكبة الحضارة, والمدنيّة الحديثة.
وانتقد السّيّد محب الدّين كتابات السّيّد طه حسين, وكتب مقالاً في الزّهراء بعنوان "ما أعرفه عن طه حسين", بيّن فيه أنّ هذا الرّجل لا يتورّع عن سرقة جهود غيره, وأنّه كان يتسلّح باللّسان السّليط لإسكات خصومه, وأنّه يسارع إلى تكذيب العلماء قبل أن يتحقّق من أقوالهم, ويظنّ بعد ذلك أن لا أحد يستطيع بيان الحقّ غيره, وفي نهاية المقال يُورد كلمةً للأستاذ داود بركات بحقّ طه حسين يقول فيها: "لو أنّا أخذناه على سبابه, لما بقي شيءٌ يُسمّى طه حسين"( 14).
ويقول أيضاً في نفس العدد من المجلّة: "يرى الدّكتور طه حسين أنّ النّظريات الّتي ذهب إليها في كتاب الشّعر الجاهلي خير عملٍ صدر منه إلى الآن, ونرى أنّ هذا الكاتب لم يفضح نفسه بشيءٍ كما فضحها بالأبحاث الّتي تعرّض لها في كتاب الشّعر الجاهلي, لأنّه هجم فيه على أمورٍ كثيرةٍ, لو كشف الغطاء لـه عن تفاصيل كلّ واحدٍ منها, للبس فيه ثوبي حزنٍ وخجلٍ لا سبيل إلى نزعهما عن جسمه أبد الدّهر, وقد صدرت في الرّدّ عليه كتبٌ متعدّدةٌ, ونُشرت في ذلك مقالاتٌ كثيرةٌ"( 15). وقام السّيّد محب الدّين بنشر كثيرٍ من هذه الرّدود, سواءً في مطبعته السّلفيّة, أو في مجلّته الزّهراء, فنشر كتاب صديقه السّيّد محمّد الخضر حسين في نقد كتاب طه حسين, وهو بعنوان: نقض كتاب الشّعر الجاهلي, ونشر مقالاتٍ كثيرةً في نفس الموضوع.
وعندما نشر الشّيخ علي عبد الرّازق كتابه المثير للجدل الإسلام وأصول الحكم, كانت مجلّته الزّهراء, كعادتها, منبراً لنقد الكتاب وما جاء فيه, ونشر أيضاً فيها نصّ الحكم الصّادر بحقّ الشّيخ علي عبد الرّازق عن الأزهر الشّريف والّذي جاء فيه: "وبعد: فقد صدر في مصر كتابٌ عنوانه الإسلام وأصول الحكم للشّيخ علي عبد الرّازق, خرج فيه على الأصول الّتي سُميّ بها عالماً شرعيّاً, وكان بها أهلاً للفتيا والقضاء, ولمّا تحقق ذلك لهيئة كبار العلماء في الجامع الأزهر الشّريف ناقشته, وحكمت بالإجماع بإخراجه من زمرة العلماء"( 16).
وقد وضع الشّيخ علي عبد الرّازق في كتابه أفكاراً عن الحكم, ونظامه في الدّولة الإسلاميّة, وجاء فيه قوله: "إنّ الشّريعة الإسلاميّة شريعةٌ روحيّة محضةٌ, لا علاقة لها بالحكم والتّنفيذ, وإنّ الدّنيا من أوّلها إلى آخرها وجميع ما فيها من أغراضٍ وغاياتٍ أهون عند اللّه من أن يقيم على تدبيرها غير ما ركّب فينا من عقولٍ, وأهون عند اللّه من أن يبعث لها رسولاً, وأهون عند رسل اللّه من أن ينشغلوا بها, ويُنصّبوا لتدبيرها" ( 17). وهذه الأفكار الغريبة لا تتناسب مع إيمان السّيّد محب الدّين في أنّ الإسلام هو "دين عقيدةٍ وعبادةٍ..., وتتّسع دائرته فتحيط بنظام الحكم كلّه, والمسلمون لا يعتبرون أنفسهم عائشين في بلدٍ إسلاميٍّ, إلّا إذا ساد نظام الإسلام بلدهم, وقامت فيه أحكامه وآدابه, كما تقوم به شعائره و تسود عقائده"( 18). لذلك فإنّ هذه النّظرة لنظام الإسلام تختلف تماماً عن نظرة الشّيخ علي عبد الرّازق. وقد قام السّيّد محب الدّين بنشر كتاب نقض كتاب الإسلام وأصول الحكم في مطبعته السّلفيّة, حيث قام الشّيخ محمّد الخضر بنقد أفكار الشّيخ علي عبد الرّازق بأسلوبٍ علميٍّ, وبيّن خطأ هذه الأفكار الموجودة في الكتاب.
وهكذا فقد جعل السّيّد محب الدّين من صحفه ومطبعته مركزاً يحارب التّغريب ويفنّد أفكاره, ويُظهر مراميه وأهدافه الحقيقيّة, والّتي كان يرى فيها محاولةً لهدم الدّين والأخلاق والشّخصيّة العربيّة والإسلاميّة. وقد كتب في الفتح مقالاً ينتقد فيه وضع المرأة, وما وصلت إليه, بسبب من اعتبرهم مقتبسين من الغرب في تعاملهم معها, يقول: "كنّا نشكو جهل المرأة, وكنّا نحمّل جهل المرأة مسؤوليّة كلّ ما في البيت من عيوبٍ. وفي عشراتٍ قليلةٍ من السّنين جرّبنا دفع المرأة في تيارٍ جديدٍ اقتبسناه من مُثلٍ أجنبيّة عنّا….... إنّ الحالة الّتي وصلت إليها المرأة اليوم لا يمكن أن يرضى عنها رجلٌ عاقلٌ, مسلماً كان أو غير مسلم, وإنّ العناصر الأجنبيّة الّتي كنّا نعتزّ بامتيازنا عنها في صيانة نسائنا واستمساكهن, ترى الآن أنّها هي الّتي تمتاز علينا بذلك, وتتمتّع بنتائجه في سعادتها البيتيّة وحياتها المنزليّة"( 19). وفي نهاية المقال يُصدر نداءً لجميع العقلاء ليعرفوا ما هو الّذي يصلح لنا اقتباسه عن الغرب, وما هو الشّيء الّذي لا يصلح, يقول: "أيّها العقلاء, يجب علينا بعد اليوم, وقد أعددنا أنفسنا لنكون أصحاب وطننا, أن نطيل التّفكير فيما نأخذ عن الغير وما ندع, ليس كلّ ما عند الغير يجوز لمثلنا أن يأخذه ..., إذا مددنا يدنا لنأخذ, يجب علينا أن نطيل النّظر قبل ذلك, لئلا تقع أيدينا على عقارب ......, أيها النّاس, اتّقوا اللّه في النّساء"( 20).
ولا ننسى أنّ جمعيّة الشّبان المسلمين وُجدت أصلاً من أجل محاربة هذا التّيار التّغريبي, والّذي انتشر انتشار النّار في الهشيم, والّذي كان بحاجةٍ إلى من يوقفه, ويكشفه للنّاس بصورةٍ واضحةٍ لا لبس فيها. ووصف لنا هذا بقوله: "كان جوّ القاهرة الفكريّ والثّقافيّ في ذلك الحين متشبّعاً برطوبة الأخذ بثقافة الغرب, بكلّ ما فيها من خيرٍ وشرٍّ وجدٍّ وهزلٍ, وأكثر القائمين على الأندية والعاملين في الصّحافة, والمترددين على الأندية والمجتمعات, يعدّون كلّ نزعةٍ إسلاميّة رجعيّة وجموداً, وكان العالم الإسلاميّ قد أُصيب حينئذٍ بظهور الدّعوة الكماليّة إلى الفصل بين الدّين وشؤون الدّنيا, وتردد صدى ذلك في مصر على صفحات كتاب الإسلام وأصول الحكم لعلي عبد الرّازق وأنصاره الكثيرين.....كانت الدّعوة إلى تأسيس جمعيّة الشّبّان المسلمين مهددةً, من كتّاب الصّحف, ورجال هذه الهيئات الثّقافيّة, بحملات التّشكيك والتّنفير, لو وصل خبر تأسيسها إلى ألسنتهم, وصفحاتهم وأجوائهم فتقرر من السّاعة الأولى أن تكون الدّعوة إلى هذا العمل الجديّ منطوياً في مسار الكتمان"( 21).
وكانت هذه الجمعيّة متنبّهةً إلى ما يجري حولها, ومتيقّظةً لأعمال دعاة التّغريب ودعواتهم, وأهدافهم الّتي يرمون إليها, من إبعاد الشّباب خاصّةً والمسلمين عامّة, عن تراثهم وماضيهم ولغتهم, بهدف سلخهم عن دينهم, وتوجيههم إلى ما يريده الغرب, ويريده الملحدون. وظلّت هذه الجمعيّة تخدم قضيّتها, وتحاول جمع الشّباب المسلم والمثقّف حولها من أجل الحفاظ على دينهم وأخلاقهم.
هوامش :
(1) ـ محب الدّين الخطيب, " حملة التّجديد والإصلاح ", الزّهراء, 4 (الرّبيعان / 1346), 7.
(2) ـ المصدر نفسه, 7.
(3) ـ محب الدّين الخطيب, "محافظون ", الزّهراء, 3 (محرّم / 1345), 5.
(4) ـ محب الدّين الخطيب, "الاتجاهات في الأدب العربيّ اليوم ", الزّهراء, 4 (ذو الحجة / 1346), 580.
(5) ـ وليم ويلكوكس, مهندس انجليزي للرّيّ في مصر, رأس تحرير مجلّة الأزهر, وبدأ بإدارتها من أوّل يناير سنة 1893, كتب مقالات تدعو إلى استعمال اللّغة العاميّة بدل اللّغة العربيّة الفصحى, وترجم أجزاءً من الإنجيل إلى ما سماه اللّغة المصريّة وذلك في سنة 1926م؛ انظر, سامي عبد العزيز الكومي, الصّحافة الإسلاميّة في مصر, 214؛ ومحمّد محمّد حسين, الإتجاهات الوطنيّة في الأدب المعاصر, 2, 361.
(6) ـ تعقيب لمحب الدّين الخطيب على مقالة عزّة دروزة, "العاميّة والفصحى", الزّهراء, 3 (صفر / 1345), 116.
(7) ـ محب الدّين الخطيب, "إحلال العاميّة في محل العربيّة الفصحى أمنية كلّ من يتمنّى هدم الإسلام", الفتح, 849 (ذو القعدة / 1366), 865.
(8) ـ المصدر نفسه, 865.
(9) ـ محب الدّين الخطيب, "إلى حماة العربيّة وعداتها", الفتح, 849 (ذو القعدة / 1366), 864. والقصيدة هي للشّاعر كمال النجمي.
(10) ـ الهلال, أسّسها جرجي زيدان عام 1892م, في القاهرة. وصدر العدد الأول منها في (ربيع أول 1310هـ, 1892م), وكان ينشر فيها كتبه على هيئة فصول متفرقة، وقد لقيت المجلّة قبولا من الناس حتى لم يكد يمضي على صدورها خمس سنوات حتى أصبحت من أوسع المجلات انتشارا، وتجاوز عمرها قرنا من الزمان، وكان يكتب فيها عمالقة الفكر والأدب، ورأس تحريرها كبار الكتاب والأدباء، من أمثال الدكتور أحمد زكي، والدكتور حسين مؤنس، والدكتور علي الراعي، والشاعر صالح جودت وغيرهم؛ انظر, موقع إسلام أون لاين, أحمد تمّام, مقال بعنوان "جرجي زيدان كفاح ونجاح", في ذكرى وفاته,
www.islamonline.net؛ ومحمّد منير سعد الدّين, الإعلام,110.
(11) ـ محب الدّين الخطيب, "في أحلام الفلاسفة لسلامة موسى", الزّهراء, 3 (صفر / 1345), باب حركة النّشر والتّأليف.
(12) ـ المقال موقّع بـ (ع) دمشق الشّام, الزّهراء, 4 (جمادى الثّانية / 1346), 223.
(13) ـ عزة دروزة, "العاميّة والفصحى", الزّهراء, 3 (صفر / 1345), 116. وهي رد على مقالة كان سلامة موسى قد نشرها في الهلال بعنوان "اللّغة الفصحى والعاميّة".
(14) ـ محب الدّين الخطيب, " ما أعرفه عن طه حسين ", الزّهراء, 3 (ربيع الثّاني / 1345), 268.
(15) ـ المصدر نفسه, 281.
(16) ـ نُشر هذا الحكم في الزّهراء, 2 (صفر / 1344), وكان ملحقاً معها.
(17) ـ علي عبد الرّازق, الإسلام وأصول الحكم, من دراسة الدّكتور كامل سعفان, علي عبد الرّازق, 33.
(18) ـ محب الدّين الخطيب, مع الرّعيل الأوّل, 38.
(19) ـ محب الدّين الخطيب, "اتّقوا اللّه في النّساء ", الفتح, 843 (جمادى الأولى / 1366), 723.
(20) ـ المصدر نفسه, 723.
(21) ـ محب الدّين الخطيب, حياته بقلمه, 78.
المفضلات