أود أن أطمئن الأخ بندر على صحة الأبيات التي أوردها من شعر امرئ القيس ، ومثلها كثير في الشعر الجاهلي ومنها هذا البيت ليزيد بن خَذّاق ، وقد جعله الخليل شاهدا على الضرب الثالث للبحر الطويل ، وهو :
أقيموا بني النعمان عنا صدوركم ................ وإلا تقيموا صاغرين الرؤوسا
وقد كان الخليل يعلم أن أكثر الشعراء يستثقلون مجيء ( فعولن ) التي تسبق الضرب سالمة من الزحاف ( 23 ) ، وسمى هذه الظاهرة " الاعتماد " وجعلها في الطويل تدل على قبض ( فعولن ) قبل الضرب المحذوف ، وفي المتقارب على سلامة ( فعولن ) قبل الضرب الأبتر . وشاهدُ الخليل على ضرب الطويل المحذوف المعتمد قولُ أبي الأسود الدؤلي :
وما كل ذي لبّ بمؤتيك نصحه ....................وما كل مؤت نصحه بلبيب
وأما عن أقدم من سلط الضوء على هذه الظاهرة بعد الخليل فلا شك أنه أبو العلاء المعري ( ت 449 هـ ) إذ تحدث عنها في رسالة الغفران كما تعرض لها في رسالة الصاهل والشاحج بقوله : " وليس ينبغي أن تجري الأشياء على أصولها في كل الأوقات ، فربما استُعمِل الشيء على ما يجب له في الأصل فقبُح وأُنكِر . ألا ترى إلى قول امرئ القيس :
فإن أُمسِ مكروبا فيارُبّ بُهمة .................... كشفتُ إذا ما اسودّ وجهُ الجبانِ
وإن أُمسِ مكروبا فيارُبّ غارة ...................شهدتُ على أقَبّ رخوِ اللبانِ
لمّا استعمل الخماسي الذي قبل الضرب على ما يجب له في الأصل ، نفرت من ذلك غرائز الناس اليوم ؟ وكذلك قول الآخر :
ألم تسألي عني إذا القوم أخبتوا .................... وشقّق أفواه القُرادِ المَليلُ
ألست أعين المستعين على الندى .................. وغيري على الأصحاب عبءٌ ثقيلُ
وإذا استُعمِل هذا الوزن على غير ما يجب له في الأصل ، حَسُن وقبلته الغريزة ، كما قال امرؤ القيس :
فإن أُمسِ مكروبا فيارب قينة .................... منعّمة أعملتها بِكِرانِ
وكذلك استعملته أكثر الناس في الجاهلية . وإنما تردّد كثيرا في شعر امرئ القيس وربما ندر لغيره من المتقدمين شيء بعد شيء من ذلك . فأما طبقة جرير ومن بعده إلى اليوم ، فلا يعرِض أحد منهم لاستعمال شيء من هذا الوزن على الأصل " .
وقد تعرضت لهذه الظاهرة في كتابي " في نظرية العروض العربي " بقولي : " وأما ضرب الطويل فإن التشكيل السببي فيه – إذ يأخذ صورة الوتد – يصبح عرضة للبتر وذلك بأن يفقد سببه الأول وعندئذ لا بد من التزام المقطع المفتوح على السبب المتبقي والوتد قبله . كما لا بد للسبب الذي يسبق الوتد أن يلتزم القبض – وإن كان واقعا في الحشو – وذلك نتيجة لالتزام المقطع المفتوح على وتد الضرب " .
واجتهدت في وضع تفسير لهذه الظاهرة قائلا : " ومن الظواهر التي تحتاج إلى تفسير في ضرب الطويل الثالث مجيء السبب الأحادي قبل الضرب ملتزما القبض مع أنه واقع في منطقة الحشو . ونحن إذا ربطنا تفسير هذه الظاهرة بظاهرة التزام المقطع المفتوح على الوتد المسبوق بسبب أحادي ملتزم القبض وجدنا بين الظاهرتين تطابقا كبيرا . غير أنا في قاعدة التزام المقطع المفتوح جعلنا هذا الالتزام نتيجة لالتزام القبض في السبب قبله ، وأما في الطويل فيبدو أن التزام القبض في السبب هو نتيجة لالتزام المقطع المفتوح على الوتد بعده . ومع ذلك فهما وجهان لعملة واحدة " .
وأرجو بذلك أن أكون بددت شيئا من حيرة الأخ بندر حفظه الله .
تغن بالشعر إما كنت قائله ........ إن الغناء لهذا الشعر مضمار
المفضلات