كنت أيام الصبا وأنا في دمشق أستمع إلى حديث يومي للشيخ أبي عبد الرحمن بن عقيل في إذاعة السعودية في فترة الظهيرة اسمه "تفسير التفاسير" كان حديثاً مملوءاً بالعلم المفيد الذي كنت أتعطش له في ذلك الوقت، وكنت والحمد لله لم أزل إلى العلم أميل مني إلى "الأيديولوجيا" التي بنت نفسها على شعاري "يعيش" و "يسقط"! ولم أزل منذ ذلك الوقت إلى اليوم أتمنى لو حصلت على أشرطة مسجلة لذلك البرنامج أو كتاباً يضم تلك الأحاديث الجامعة لمسائل التفسير والأقوال المتعددة في موضوعاته.
هذا مع استغرابي آن ذاك لتميز الشيخ بلقب "الظاهري"، ولعله يدل على تميز في شخصية الرجل يجعله مستقل الرأي يبحث بنفسه عن ما يقبله عقله بلا تقليد للناس الذين يحيطون به.
فإن عدت إلى موضوع هذا المقال أقول إن من المفارقة التاريخية –كما يقولون –أن نتكلم عن علمانية قديمة في الشعر العربي إذ العلمانية التي هي ترجمة لإحدى كلمتين secularism أو laicism نتاج تجربة أوروبية جديدة بدأت مع تخلص القوم من السلطة الزمنية للكنيسة الكاثوليكية، وتعني فصل الدين عن الدولة ولها نوعان نوع معاد للدين بشدة يكاد يكون متعصباً ضد الدين وكأنما هو نصرانية مضادة ويتجلى في النظام الفرنسي ونوع ثان مسالم لا يعادي الدين ولا يؤيده ويراه شأناً شخصياً لا علاقة للدولة به ويتمثل في النظام الإنجليزي. وللفقير لله بعض الدراسات في هذا المضمار وبالذات عن البروتستنتية التي خلبت عقول العلمانيين العرب ونشر بعضها وبنيتها على ما درسته من تاريخ هؤلاء القوم وأنا مقيم في بلادهم.
ولا شك أن الشاعر العربي القديم الذي كان يترخص في التعبير فلا يلتزم بأصول الأدب مع تعاليم الدين ما كان يقصد قط ما يقصده العلمانيون العرب المعاصرون. فلم يكن الشاعر الذي قال:
أصلي فما أدري إذا ما ذكرتها..أثنتين صليت الضحى أم ثمانيا
إلا عاشقاً منكوداً خرج عن الصواب والتوازن ولم يخرج على الدين ويعاديه!
ولا أرى أن يدرج فيهم الدكتور إبراهيم ناجي رحمه الله إذ كان يقلد ولم يكن "مؤدلجاً" له حقاً موقف علماني.
وإنما ظهر العلمانيون وفق الطبعة الفرنسية، أي العلمانيون المعادون للدين حقاً في الشعر والأدب العربي مع ظهور "الشعر الحر" ثم الشعر النثري خاصة مع مدرسة "شعر" الخالية الأدونيسية وما بعدها. وهؤلاء قوم في منتهى الوقاحة والعداء للمجتمع وليس الدين فقط وقد بلغوا الآن مرحلتهم النهائية مع تأييد القادم الأمريكي.
وعلى أنني أرى المرونة في التعامل مع شعرائنا القدماء وبالذات مع ظاهرة الظرفاء منهم وأنتم تعرفون القصة المشهورة لأبي حازم وأصحابه حين رأوا امرأة جميلة سافرة الوجه في الحج وقد اجتمع حولها الناس فقال لها أبو حازم: يا أمة الله استتري قد شغلت الناس عن مناسكهم فقالت: أما علمت من أنا؟ قال: لا! قالت: أنا من اللائي قال فيهن الشاعر:
أماطت غشاء الخز عن حر وجهها ..و أرخت على المتنين برداً مهلهلا
من اللائي لم يحججن يبغين حجة..ولكن ليقتلن البريء المغفلا!
فالتفت أبو حازم إلى أصحابه وقال: تعالوا ندع الله أن لا يري هذا الوجه الحسن النار! فجعل يدعو وأصحابه يؤمنون!
وبلغت القصة عابداً من أهل العراق: فقال: لله أنتم يا أهل الحجاز ما أظرفكم.والله لو رآها واحد من أصحابنا العراقيين لقال لها: اغربي عليك لعنة الله!
وكان أهل الحجاز أهل ظرف بخلاف أهل العراق الذين كان فيهم تشدد وتجهم.
أرى أن نتسامح مع الشاعر ما لم يخرق حرمات مؤكدة لا خلاف عليها. ولكن المجاز بابه واسع وليس كل امرئ قادراً على أن يميز المعنى المجازي من الحقيقي ويجب أن يحكم على الأدب من يفقه فيه وليس دوماً يكون الفقهاء ممن يفهم الشعر! ولعلكم تذكرون أن عمر رضي الله عنه ورغم أنه كان بصيراً بالشعر استشار حسان رضي الله عنه في أمر الحطيئة والزبرقان.
وبعض الظرف لا يضر إذ للحياة وجهها الباسم وهو وجه الإسلام دين الفطرة.
والله أعلم.
المفضلات