فالفعل المضارع في الأقوال السابقة مبنيّ على الطلب ، مترتّب عليه ، ومشروط به ، ومسبّب عنه .

ورُدّ قول الأخفش والمازنيّ ومن وافقهما :

1- بأنَّ ( قلْ ) لابدَّ له من جملة تُحكى به ؛ لأنَّ أمرَ اللهِ لنبيّه بالقول ليس فيه بيانٌ لهم بأنْ يُقيموا الصلاة ، حتّى يقول لهم الرسول - صلى الله عليه وسلم- " أقيموا الصلاة "(102) .

2- وبأنَّ تقدير : قلْ لهم أقيموا يُقيموا ليس بصحيح ؛ لأنَّه يلزم فيه ألاَّ يتخلف أحد من المقول لهم عن الطاعة ، والواقع بخلاف ذلك (103) .

ورُدَّ بأنَّ الفعل مسندٌ إليهم على سبيل الإجمال ، أو أنْ يكون المقصود المخلصين من المؤمنين (104) .

ورُدَّ قول المبرد ، وقيل : فاسدٌ من وجهين (105) :

1- أنَّ الجواب يجب أنْ يخالف الشرط: إمَّا في الفعل؛نحو:" أسلمْ تدخل الجنة" ، أو في الفاعل ؛ نحو :" أكرمْني أُكرمْك" ، أو فيهما معاً ؛ نحو :" ايتني أكرمْك" .

أمَّا إنْ كان مثله في الفعل والفاعل فهو خطأ كقولك: " قمْ تقمْ " وتقديره : إنْ يُقيموا يُقيموا .

2- أنْ الأمر المقدّر " أقيموا " للمواجهة ، والفعل المذكور " يُقيموا " على لفظ الغيبة ، وهذا لا يجوز إذا كان الفاعل واحداً .

وقال الرضي :" قول المبرّد فيه من التكلف ما فيه "(106) .

وجاء عن جماعة من النحويين المفسرين أنَّ المعنى هو الأمر بإقامة الصلاة ، فتقدير : " قلْ لعبادي الذين آمنوا يقيموا الصلاة " : قلْ لهم أقيموا الصلاة ، والفعل " يُقيموا " مجزوم بلام أمر محذوفة ، وتقديره : ليقيموا ، فهو أمر مستأنف ، وجاز حذف اللام لدلالة " قلْ " على الأمر ؛ وهو قول الكسائي، وابنِ مالكٍ، وجماعة ، وأجازه الزّجاج(107) .

أو أنْ يكون الفعل " يُقيموا " مضارعاً بلفظ الخبر صُرف عن لفظ الأمر ، والمعـنى : " أقيمــوا " فلمَّا كان بمعنى الأمر بُني ؛ قاله أبو علي الفارسي وفرقة(108) .

وقال الزجاج - بعد استعراض ما جاء فيه من المذاهب :" أجودها أنْ يكون مبنيّاً ، لأنَّه في موضع الأمر "(109) .

وأجاز بعض الكوفيين أنْ يكون نحو : " مُرْهُ يَحْفِرَها " - بالنصب -على تقدير : " أنْ " ؛ أي : بأنْ يحفرَها ؛ ورُدَّ بأنَّ الفعل عامله لا يُضمر(110).

وبالنفاذ إلى عمق المعنيين ، وبإنعام النظر فيهما نجد أنَّ معنى الأمر في الآية الكريمة أقوى من معنى الجزاء ، وليس في الأمر بإقامة الصلاة دليل على الاستجابة أو عدمها ؛ فالنتيجة المترتبة على الأمر بالصلاة هي معنى آخر ، ليس في لفظ الآية ما يدل عليه ، والمقصود - والله أعلم - هو حثّ المؤمنين على إقامـة الصلاة والإنفاق ، وليس في اللفظ ما يدلّ على الامتثال أو عدم الامتثال ، ولا على النتيجة المترتبة على أمرهم بإقامة الصلاة والإنفاق ؛ إذ ليس المقصود الإخبار بأنه إنْ أمرهم امتثلوا وأقاموا الصلاة وأنفقوا !!

وشبيهٌ به قولُنا :" قلْ للطلاب يكتبوا الواجب" ، المقصود وبكل بساطة هو أمرهم بالكتابة ، والتقدير: قلْ للطلاب اكتبوا الواجبَ ،أو أنْ يكتبوا الواجبَ، ويبعد تقدير : قلْ للطلاب اكتبوا يكتبوا ؛ لأنَّه ليس في اللفظ دليل على إرادة الإخبار بنتيجة الأمر ، ولا يلزم من مجرد القول الامتثال والكتابة ، وليس في اللفظ دليل على الامتثال ؛ لأنهم قد يمتثلون وقد لا يمتثلون . وشبيه به :" قلْ لزيدٍ يُسامح المعتذر" ، وغيره مما نلمس في معنى الجزاء فيه بعد وتكلّف ، وتزيّد في المعنى ، وكثرة الحذف والتقدير ؛ فالتكلّف يكمن في افتراض معنى الشرط والجزاء لتسويغ الجزم في الفعل " يُقيموا " .

والتزيّد في المعنى ؛ لأنَّ اللفظ ليس فيه ما يدلّ على النتيجة المترتبة على أمرهم بالصلاة .

وكثرة الحذف والتقدير - ولنا مندوحة عنهما - ؛ لأنَّ الفعل " يُقيموا " إذا جُعل جواباً للشرط فسيخلو القولُ من مقولٍ ، ولابدَّ من تقديره ، بالإضافة إلى تقدير الشرط الجازم للجواب .

وليس كذلك في المعنى الآخر الذي هو معنى الأمر ؛ فبتقدير " أقيموا " مكان " يُقيموا " لن يكون فيه حذف ، وسيكون المقدَّر في مكانه الأصلي ، ومن لفظ المذكور .

وبتقدير لام الأمر أو " أنْ " قبل الفعل سيكون التقدير أقل من تقدير جملة بأكملها كما هو في معنى الشرط والجزاء . وقد نصَّ السيوطي(111) على أنَّ :

- القياس أنْ يُقدَّر الشيء في مكانه الأصلي .

- وينبغي تقليل المقدَّر .

- وأنْ يُقدَّر المقدَّر من لفظ المذكور مهما أمكن .

والذي دعاهم إلى تكلُّف الحذف والتقدير ، والذهاب بعيداً عن المعنى هو محاولة تسويغ الجزم في الفعل " يُقيموا " ، وفرارهم من تقدير لام الأمر أو "أنْ" قبل الفعل تمسّكاً بالقاعدة النحويّة : " الفعل عاملة لا يُضمر " ، وهم مع قولهم بالجزاء لتسويغ الجزم يُقرُّون بأنَّ معناه الأمر ، يقول الفرَّاء : " جُزمت يقيموا بتأويل الجزاء ، ومعناه - والله أعلم - معنى أمر ؛ كقولك : قلْ لعبد الله يذهب عنَّا ، تُريد : اذهب عنَّا ، فجزم بنية الجواب للجزم ، وتأويله الأمر…"(112) ، فهذا نصٌّ صريحٌ منه بأنَّ معناه الأمر رغم أنَّ إحلال فعل الأمر محلّ المضارع لتسويغ الجزم أيسر من الشرط والجزاء ، وهو ما قال به جماعة النحويين من المفسرين كالكسائيّ ، والزجاج ، والفارسيّ .

قال أبو حيان : " ومتعلق القول الملفوظ به أو المقدَّر في هذه التخاريج هو الأمر بالإقامة والإنفاق "(113) .

ويقوِّي هذا المعنى ما ذكره القرطبيّ من أنَّ المعنى :" قلْ لِمَنْ آمن وحقَّقَ عبوديته أنْ يُقيموا الصلاة "(114) .

وكذا الأخفش الذي ترأس المذهب الأول يعود في (معاني القرآن) ويقول في قــوله تعــالى : ﴿ فَذَرُوهـَا تَأْكُلْ ... ﴾(115) ، و﴿ قُل لِّلَّذِينَ ءَامَنُوا يَغْفِرُوا.. ﴾ (116) ونحوه:"فصار جواباً في اللفظ، وليس كذلك في المعنى"(117).

وقد تنبَّه الشاطبيُّ لهذا الأمر ، فجعل ما ينجزم بعد الطلب على ضربين: ما يكون الجزاء مقصوداً فيهوما لا يُقصد فيه الجزاء، ومثَّل له بنحو:" قلْ له يقلْ كذا ، ومُرْهُ يَحْفِر البــئرَ" ، و﴿ قُــل لِّعِبَادِيَ الَّذِينَ ءَامَنـُوا يُقِيمُوا الصَّلاةََ .. ﴾ (118) قال :" فالجزم- هنا- صحيح وإنْ لم يكنْ على معنى : إنْ تقلْ له يفعلْ ، وإنْ تأمرْه يحفرْها … قال : فدلَّ ذلك على أنَّه ليس على معنى قصد الجزاء "(119) .

ويقوى في المجزوم - معنى الأمر على معنى الجزاء فيما لم يستوفِ مفعوله،أو بمعنًى آخر فيما احتاج فيه القول إلى مقول؛نحو الآية الكريمة السابقة،وقوله تعالى﴿ قُل لِّلَّذِينَ ءَامَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ أَيَّامَ اللهِ . ﴾ (120) ، و" قلْ له يقلْ ذاك " ، فالتقدير : قلْ لهم : اغفروا ، وقلْ له : قلْ.

وممَّا جــاء مرفوعـاً على الحال وليس جواباً للطلب السابق قوله تعالى : ﴿ ... ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ ﴾ (121) ؛ أي : لاعبين ؛ فهو حال من المضمر في " ذرْهم " .

أمَّا قولهم : " خلِّ زيداً يمزحْ "(122) فيقوى فيه الحال إنْ رآه في حال مزاحٍ؛ والمعنى : خَلِّ زيداً مازحاً ؛ أي : مستمراً في مزاحه . أمَّا إنْ كان مضيَّـقاً عليه ممنوعاً من المزاح ؛ فالمعنى:اتركه لكي يمزح - على التعليل - ولمْ أجدْ من تطرَّق إلى هذا المعنى رغم كثرته ، أو على معنى : اتركْه إنْ تتركْه يمزحْ ، بالجزم على جواب الطلب .

ومما يقوى فيه الرَّفع على الحال قول الحق تبارك وتعالى﴿ وَلاَ تَمْنُن تَسْـتَكْثِرُ ﴾ (123) ؛ فقد أجمـع القراء السبعة على قراءة الرفع على الحال ؛ أي : مستكثراً عطاءك وقد سبق شرحه والكلام عنه .

ومنه قوله تعالى:﴿ فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لاَّ تَخَافُ دَرَكًا وَلاَ تَخْشَى ﴾ (124)؛ أي : غير خائف ولا خاشٍ ، أو على الاستئناف ؛ أي : وأنت لا تخافُ ولا تخشى. وقرأ الأعمش، وحمزة ،وابن أبي ليلى : " لا تخفْ " بالجزم على جواب الطلب ؛ أي : إنْ تضربْ لا تخفْ ، أو على نهي مستأنف ؛ أي : اضربْ ولا تخفْ .

ومما يقــوى فيه الرفــع على الاستئناف قولهم :"لا تذهبْ به، تُغْلَبُ عليه"(125) ؛ أي : فإنك تُغلـبُ عليه . والجزم فيه قبيحٌ عند سيبويه ؛ لأنَّه شبيهٌ بقولهم :" لا تدنُ من الأسدِ يأكلُك " وهو جائزٌ عند الكسائيّ والكوفيين كما سبق

ومنه : " قُمْ يدعوك "(126) الأمير؛ أي: قُمْ إنَّه يدعوك ؛ فالرفع على الاستئناف فيه أقوى من الجزم على الجواب ؛ ذلك لأنَّه لم يُرِدْ أنْ يجعل الدعاء بعد القيام ، ويكون القيام سبباً له ، وإنَّما أراد : قُمْ ؛ لأنَّ الأميرَ يدعوك، فالدُّعاء سابق للقيام ،لا مسبباً عنه . وإنْ أراد معنى : قُمْ إنْ قُمْتَ يدعُك الأمير، فيكون الدعاء مسبباً عن القيام ، فيقوى فيه عندئذٍ معنى الجزم جواباً للطلب المتقدم .

ومن الأفعال المضارعة الواقعة بعد الطلب ما حُمل على الصفة ، أو على الاستئناف ، ويُلمح فيه معنى التعليل ؛ من ذلك قول الحق تبارك وتعالى : ﴿ خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا... ﴾(127)، " تُطهرُهم " صفة للصدقة إنْ كان ضمير الفاعل يعود على الصدقة ؛ أي : صدقةٌ مطهرةٌ ومزكيةٌ لهم ، ويُبعده قوله " بها " .

وإنْ كان ضمير الفاعل يعود على الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهو المخاطب في هذه الآية فـ" تُطهرهم " حال من الفاعل ؛ أي : مطهِّراً ومزكِّياً لهم بها ؛ أي بالصدقة . والحمل على القطع والاستئناف فيه حلٌّ لهذا الإشكال ؛ أي : أنت تُطهرهم وتُزكيهم بها ، وقريب منه معنى التعليل ؛ أي : لتطهِّرَهم وتزكِّيَهم بها ، والله أعلم . وقيل : " لو قُرِئ بالجزم لم يمتنع في القياس"(128).

وممَّا هـو بسبيلــه ، قولــه تعالى : ﴿ .. فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا ، يَرِثُنِي ..﴾ (129) - في قراءة الرفع - وقرأ الكسائيُّ، وأبو عمرو بالجزم(130) ، وقال بعض العلماء : والرفع هنا أحسن من الجزم ؛ وذلك من جهة المعنى والإعراب؛ أما المعنى فلأنه إذا رفع فقد سأل وليًّا وارثًا ؛ لأنَّ من الأولياء من لا يرث ، وإذا جزم كان المعنى : إنْ وهبته لي ورثني ، فكيف يُخبر الله سبحانه بما هو أعلم به منه(131)، وهذه الحجّة في ترجيح الرفع على الجزم - وإن كان الرفع هو الراجح - ليست بالحجة القوية ؛ فقد جاء في الكتاب العزيز على لسان نوح عليه السلام: ﴿ وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا ، إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُوا عِبَادَكَ وَ لاَ يَلِدُوا إِلاَّ فَاجِرًا كَفَّارًا ﴾ (132)، فكيف أخبر الله سبحانه وتعالى بما هو أعلم به منه ؟!

وفي هذه الآية الكريمة نلحظ معنى التعليل وبيان السبب الذي من أجله طلب زكريا - عليه السلام - من ربِّه أنْ يهبَ له الولد ؛ فهو لم يُرِدْ أنْ يشترط على ربِّه إنْ وهبتني ولداً ورثني ؛ فمعلوم أنَّ الأولاد ترث آباءها ،كما لم يُرِدْ - أيضاً - أنْ يصفه لمجرد الوصف في حدِّ ذاته ، وإلا لوصفه بأوصافٍ أخرى حسنة أفضل من الوراثة يتمنَّاها كلُّ والد في ولده ، وإنَّما حدّد فعلاً معيناً ينبئ عن الغرض الذي من أجله طلب الولد،فهو يُريد ولداً ليرث عنه العلم والحكمة فكأنَّه قال : فهب لي من لدنك وليّاً ليرثني ؛ فالتعليل وبيان السبب واضح في هذه الآية .

فإذا اطمأننا إلى معنى التعليل فتسويغ الرفع يسير ؛ فعندما سقطت اللام ارتفع الفعل ، قال الحافظ ابن كثير : " سأل الله ولداً يكون نبيّاً بعده ، ليسوسهم بنبوَّته"(133) ، فوجود لام التعليل " ليسوسهم " يؤكد معنى التعليل .

ومثله في الدلالة على معنى التعليل قوله تعالى : ﴿ وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنّيِ لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي ﴾ (134) ، أي : أرسلْه معي معيناً ليصدِّقني ، ويحتمل الحال والاستئناف أيضاً (135) .

ومثله في القرآن كثيرٌ(136) ممَّا يترجَّح فيه معنًى على المعاني الأخرى ، يحتاج إلى دراسةٍ أعمق لمعاني القرآن الكريم ، فالدراسات حول القرآن الكريم لا ينضب معينها ولا يأسن .




والحمد لله الذي بفضله تتمُّ الصالحات.