رابعها : أي المذهب الرابع في عامل الجزم في جواب الطلب هو : أن الجازم لامٌ مقدرةٌ . وهذا القول لا يُعتد به ، قال الأشموني (42) " وهو ضعيفٌ، لا يطّرِدُ إلا بتجوّزٍ وتكلّفٍ " ؛ فالتجوّز ؛ لأن أمر المتكلم نفسه إنما هو على التجوز بتنزيل نفسِه منزلة الأجنبي ، وأمّا التكلّف ؛ فلأنّ دخول لام الأمر على فعل المتكلم قليلٌ (43) .

ثانياً : علة امتناع جزم المضارع بعد النفي والخبر المثبت

علّل النحويون امتناع جزم المضارع بعد النفي نحو : " ما تأتينا تحدثنا" بعللٍ شتى ، منها ما يلحظ فيه التكلف والبعد عن المنطق ، ومنها ما يكتنفه الغموض وعدم الوضوح ، ومنهم من اكتفى بمنع الجزم ولم يعلل (44) .

وإذا نظرنا إلى حقيقة الأمر وجدنا أنّ النفي كالإثبات خبر محض لا يتوقف عليه كلام قبله ، ولا يترتب عليه ترتب الجواب على السؤال، فإذا قلت : "فعلتُ كذا"، أو" لمْ أفعلْ كذا" فهو خبر قابل للتصديق والتكذيب ، وليس فيه طلب يترتب على تنفيذه أو عدم تنفيذه أمر ما ، أو رد فعل معين ، فالمتكلم أراد أنْ يخبر فحسب ، ولم يرد أن يشترط لهذا الخبر شرطاً تترتب عليه نتيجة كما يترتب جواب الشرط على الشرط ؛ ولذلك لم ينجزم بعده المضارع إذا خلا من الفاء ؛ لأنه لم يحسن معه الشرط ، فالشرط لا يحسن إلا مع الطلب ، أما الخبر - سواء كان بالنفي أم بالإثبات - فلا يحسن معه الشرط ، ولذلك لم يرد به سماع عن العرب ، فالعرب لا تتكلم إلا بما هو صواب يقبله المنطق .

أمّا إطلاق كلمة " جواب " على الفعل المضارع المنصوب المسبوق بنفي فهو غير صحيح ، وإنما هو من قبيل الاستطراد ، ومجاراة لأساليب الطلب التي ينتصب معها المضارع بعد فاء السببية ، ولما كان النفي - أيضاً - ينتصب معه المضارع المقترن بالفاء ، أُطلق عليه طلب من قبيل التجوّز والترخص ، وطرداً للتسمية على جميع الأساليب المتقدمة التي ينتصب بعدها المضارع .

ونُسِبَ جواز الجزم بعد النفي إلى الكوفيين و الزجاجي ؛ (45) فأمّا نسبته إلى الزجاجيّ فما هو إلا من قبيل التعميم ؛ فلما كان المضارع ينتصب بعد الفاء المسبوقة بطلب أو نفي لتضمنه معنى السببية ، وبسقوط الفاء ينجزم بعد الطلب لتضمنه معنى الشرط الذي لا يحسن مع النفي لما ذكرناه سابقاً ؛ أدخل النفي مع الطلب عن غير قصد ، فقال : " وكل شيء كان جوابه بالفاء منصوباً ، كان بغير الفاء مجزوماً "(46) ، فلم يصرح بالنفي في هذه العبارة ، ولو قال : " كان فعله بالفاء منصوباً " لكان أدق في التعبير ؛ لأن النفي إخبارٌ لا يحتاج إلى جواب كالطلب .

أما قوله : " اعلم أنَّ جوابَ الأمرِ ، والنْهي ، والاستفهام ، والتمني، والعَرْض، والجحد، مجزوم على معنى الشرط 000" (47) .

فالملاحظ أنّ عبارة " على معنى الشرط " ملحقة في بعض النسخ ، وساقطة من بعضها ، فلا يبعد أن تكون كلمة " الجحد " قد أُلحقت أيضاً من قبل النساخ ظناً منهم بأنه قد غفل عن إدراجها ضمن ما ينجزم بعده المضارع ، إذ كان ضمن ما ينتصب بعده ، وتناقل النحويون ذلك عنه ونسبوه إليه .

وعلى أي حال فقـد خطّأه كثير من شراح ( الجمل ) وتعقّبوه وردّوه عليه(48).

وأمّا ما نُسب إلى الكوفيين فلم أجده فيما اطلعت عليه من كتبهم .

وأجـاز الصيمري في ( التبصرة والتذكرة ) الجزم بعد النفي ، ومثّل له بقوله : " ما أنت جواداً أقصدْك "(49) . وقال أبو حيان : " والصحيح أنّ الجزم بعد حذف الفاء في النفي لا يجوز ، ولم يرد به سماع ، ولا يقتضيه قياس"(50) .

نستنتج مما سبق أن الجزم بعد النفي غير جائز ؛ لأنّ النفي إخبار وليس طلباً، وما نسب إلى الزجاجي والكوفيين مشكوك في صحته ، والصواب ما عليه الجمهور .