وبعد هذا العرض الموجز لجزم المضارع في جواب الطلب ، نقف عند بعض القضايا التي اختلف فيها النحويون في هذا الباب ، وهي :
أولاً - عامل الجزم في جواب الطلب .
ثانيًا- علّة امتناع جزم المضارع بعد النفي والخبر المثبت .
ثالثًا- الجزم في جواب النهي .
رابعًا-أثر المعنى على الحركة الإعرابية في المضارع الواقع بعد الطلب .
أولاً : عامل الجزم في جواب الطلب
لمَّا كان الطلب - وهو الأمر ، والنهي ، والدعاء ، والتمنّي ، والترجّي ، و الاستفهام ، والعَرْض ، والتخصيص - لا يقتضي جواباً لعدم توقف شيء منه في الفائدة على غيره ، وقد تلاه جواب مجزوم؛ فقد دلّ ذلك على وجود جازم ترتب عليه الجواب فانجزم ، ومن هنا أخذ النحويون يبحثون عن العامل الذي جزم جواب الطلب ، فاختلفوا في تحديد هذا العامل على أربعة مذاهب :
أوّلها :أن الجازم هو لفظ الطلب ضُمّن معنى حرف الشرط فجزم ، كما أن أسماء الشرط تضمنت معنى حرف الشرط "إنْ " فجزمت ؛ نحو : " مَنْ يأتني أكرمْه ، فأغنى ذلك التضمين عن تقرير لفظها بعد الطلب .
ونُسب هـذا المذهــب إلى الخليل ، وسيبويه ، وابن خروف ، وابن مالك (19) ، ورُدّ هذا القول بالاعتراضات الآتية :
1- إنّ تضمين الفعل معنى الحرف إمّا غير واقع ، أو غير كثير ، بخلاف تضمين الاسم معنى الحرف(20) .
2- إنّ تضمين الفعل معنى الحرف يقتضي أن يكون العامل جملة ، ولا يكون العامل جملة ، قاله ابن عصفور (21) .
3- إنّ في تضمين الطلب معنى الشرط تضمين معنيين: معنى " إنْ " ، ومعنى الفعل ، ولا يوجد في لسان العرب تضمين لمعنيين ، إنّما يكون التضمين لمعنى واحد .
4- إنّ معنى " إنْ تأتني " معنى غير طلبي ، فلو تضمنه فعل الطلب في نحو: " ايتني آتك " لكان الشيء الواحد طلباً غير طلب ؛ أي مضمناً لمعنيين متناقضين.
وهذا الاعتراض والذي قبله لأبي حيّان (22) .
5- إنّ تضمّن الطلب معنى حرف الشرط " إنْ " غير جائز ؛ لأنّ حرف الشرط لابد له من فعل .
وهذا الاعتراض للأشموني(23) . وقد أجيب بأنّ هذا في الشرط التحقيقي لا التقديري ، فهو ليس شرطاً حقيقة بل مضمناً معناه(24) .
6- إن تضمين الطلب معنى الشرط ضعيف ؛ لأنّ التضمين زيادة بتغيير الوضع ، والإضمار زيادة بغير تغيير ، فهو أسهل ، ولأنّ التضمين لا يكون إلاَّ لفائدة، ولا فائدة في تضمين الطلب معنى الشرط ؛ لأنه يدل عليه بالالتزام ، فلا فائدة في تضمينه معناه ، قاله ابن الناظم .(25) .
ثانيها : إنّ الجازم هو الطلب ناب مناب الشرط ، لا على جهة التضمين، بل على جهة أنّ هذه الأشياء من أنواع الطلب قد نابت مناب الشرط؛ بمعنى أن جملة الشرط قد حذفت ، وأنيبت هذه منابها في العمل ، ونظيره قولهم: " ضرْباً زيداً " ؛ فإنّ " ضرْباً " ناب عن "اضربْ " فنصب " زيداً " ، لا أنّه ضمن المصدر معنى فعل الأمر ، بل ذلك على طريق النيابة .
وهذا مذهب الفارسيّ(26) ، وابن عصفور(27) ، ونسبه أكثر النحويين إلى السيرافي(28).
ورُدّ هذا القول بالاعتراضات الآتية (29) :
1- إن نائب الشيء يؤدي معناه ، والطلب لا يؤدي معنى الشرط ؛ إذ لا تعليق في الطلب بخلاف الشرط .
2- إنّ الأرجح في " ضرْباً زيداً " أنّه منصوب بالفعل المحذوف لا بالمصدر؛ لعدم حلوله محل فعل مقرون بحرف مصدري .
ثالثها : إن الجازم هو شرط مقدر دلّ عليه الطلب، وذهب إليه أكثر المتأخرين، واختاره أبو حيّان (30) ، ورجّحه خالد الأزهريّ(31) وزعم أنه مذهب الخليل، وسيبوية، والسيرافي, والفارسي، إلاّ أنّهم اختلفوا في علته ؛ " فقال الخليل وسيبويه : إنما جَزَمَ الطلب لتضمنه معنى حرف الشرط، كما أنّ أسماء الشرط إنما جَزَمتْ لذلك . وقال الفارسي والسيرافي : لنيابته مناب الجازم الذي هو حرف الشرط المقدر ….."(32) .
مما سبق نجد أنّ المذاهب الثلاثة تدور حول مصطلحات ثلاثة: " التقدير ، والتضمين ، والنيابة " ؛ فهل الجازم هو :
1- شرط مقدر بعد الطلب ؟ " وهو المذهب الثالث "
2- أم الطلب الذي تضمن معنى الشرط ؟ " وهو المذهب الأول "
3- أم الطلب الذي ناب مناب الشرط ؟ " وهو المذهب الثاني "
ولا يخفى ما في نسبه هذه المذاهب إلى كلٍّ من الخليل، وسيبويه، والسيرافي، والفارسي، من اضطرابٍ ؛ فقد نُسب إلى الخليل، وسيبويه المذهب الأوّل وهو " التضمين " ، كما نُسب إليهما المذهب الثالث وهو " التقدير " . ونُسب إلى السيرافيّ، والفارسي المذهب الثاني ، وهو " النيابة " ، كما نسب إليهما - أيضاً - المذهب الثالث وهو " التقدير " .
وللوقوف على الحقيقة لابدّ من ذكْر كلامِ كلِّ واحدٍ منهم بنصّه ، قال سيبويه(33) : " وإنما انجزم هذا الجواب كما انجزم جواب " إن تأتني " بإن تأتني؛ لأنهم جعلوه معلقاً بالأول غير مستغن عنه - إذا أرادوا الجزاء - كما أنّ " إنْ تأتني " غير مستغنية عن " آتك " .
وزعم الخليل : أنّ هذه الأوائل كلها فيها معنى " إنْ " فلذلك انجزم الجواب ……" .
فكلام سيبويه يحتمل أن يكون الجازم " إنْ والفعل " أي: شرط مقدر، ويحتمل أن يكون الجازم الطلب تضمن معنى الشرط المقدر ، أو الطلب ناب مناب الشرط المقدر ، فهو يحتمل المذاهب الثلاثة .
وقوله : " وزعم الخليل " قد يشير إلى أن ثمة اختلافًا بين مذهبيهما.
وكلام الخليل يحتمل - أيضاً - المذاهب الثلاثة؛ فقوله : " إن هذه الأوائل فيها معنى إنْ " يحتمل أنّها تضمنت معنى " إنْ " ، كما يحتمل انها نابت مناب " إنْ " ودلت على معناها. وقوله : " فيها معنى إنْ " يدل على أنّ الشرط ملحوظ مقدّر ، إمّا على جهة التضمين، أو النيابة . فالتقدير، والتضمين، والنيابة محتمَلة في كلامه .
أما قول السيرافي (34) " جُزِمَ جواب الأمر، والنهي، والاستفهام، والتمني، والعَرْض بإضمار شرط في ذلك كله0000 ولفظ الأمر والاستفهام لا يدل على هذا المعنى ، والذي يكشفه الشرط ، فوجب تقديره بعد هذه الأشياء " .
فقوله : " بإضمار شرط في ذلك كله " يدل على أن الجازم هو الشرط المضـمر في الطلب إمّا على جهة التضمين أو النيابة؛ لأنه يدل على معناه . وقوله : " فوجب تقديره بعد هذه الأشياء " يقطع بأن يكون الجازم هو الشرط المقدر .
أما قول الفارسي في (الإيضاح) (35): " وقد يحذف الشرط في مواضع فلا يؤتى به لدلالة ما ذكر عليه ، وتلك المواضع : الأمر، والنهي 0000 " ؛ فيدل على أن الجازم شرط مقدر محذوف ، كما أنه قد يدل على أن الجازم الطلب الذي تضمن الشرط ودل عليه ، أو الطلب الذي دل على الشرط فناب عنه ؛ فاحتمل كلامه - أيضاً - المذاهب الثلاثة ، ولا يبعد عنه ما جاء في ( المسائل المنثورة )(36) .
وبإنعام النظر فيما أثر عن هؤلاء النحاة ؛ نجد أنّ أقوالهم تتشابه ولا تناقض بينها - وإن اختلفت عباراتهم - كما أنّ بعضها يحتمل المذاهب الثلاثة ، ومن هنا ندرك سبب اضطراب العلماء في نسبة هذه المذاهب إليهم .
والحقيقة أن الخليل ، وسيبويه ، والفارسي لم يصرح أحد منـهم بتأييده لمذهب من هذه المذاهب ، ولم يحدد أحد منهم مصطلحاً معيناً من المصطلحات الثلاثة ويتشبث به ، وإنّما الذين أوجدوا هذا الخلاف وحاولوا أن يعمّقوه ، وأن يوجدوا فروقاً بين أقوال النحاة ؛ هم المتأخرون (37) ، فحاول كل منهم أن يؤوّل كلام السابقين ويوجهه وفق مذهبه ، حتى اتسعت شقة الخلاف .
ولم يختلف أحد على وجود شرط ملحوظ في الكلام ، سواء أقدرناه بعد الطلب ، أم قدرناه في الطلب على جهة التضمين أو النيابة ؟ فالشرط ملحوظ في جميع التراكيب التي انجزم فيها المضارع ، والفرق بين التضمين والتقدير أنّ التضمين : يكون في المعنى المتضمن على وجه لا يصح إظهاره معه . والتقدير : يكون على وجه يصح إظهاره معه (38) .
أما قول النحويين بأن الجازم هو الطلب مضمناً معنى الشرط ، أو نائباً مناب الشرط ففيه ترخُّص ؛ لأن الطلب في حد ذاته لا يفتقر إلى جواب ، والكلام تام به ، فإذا قلنا : " افعلْ " أو " لا تفعل " فإنما نطلب من المأمور أن يفعل ، أو ننهاه عَنْ أَنْ يفعل ، ولا وجود لمعنى الشرط فيه بمفرده ؛ إذ لا يقتضي - بمفرده - جواباً ، ولا يتوقف وجود غيره على وجوده ، ولكن إذا أتينا معه بجواب ، نحو : " ايتني آتك " ، دلّ ذلك على أن هناك شيئاً يتوقف عليه هذا الجواب ، ولم نلحظه من الطلب بمفرده ، ولا من الجواب بمفرده، بل منهما معاً ، ولله درّ ابن خروف ! إذ قال : " كلُّ جوابٍ يُجزم فلتضمن الكلام معنى الشرط "(39) ، فقال : " لتضمن الكلام " ولم يقل: الطلب ؛ لأن الطلب بمفرده - كما سبق- كلام تام ، لا يوجب اقترانه بجواب ، ولكن الكلام المشتمل على الطلب والجواب معاً دلاّ على معنى الشرط . وقال في (شرح الكتاب)(40) : "والجازم في هذا الباب للجوابات الكلام الذي دخله معنى الشرط ؛ لأنه في معنى " إنْ تأتني آتك "، والعامل في جواب الشرط الصريح حرف الشرط ومجزومه ، فكذلك ما ناب منابه وتضمن معناه " .
والأمر أيسر من أنْ يُجعل فيه خلافٌ ، إذ قَصْدُ الشرط موجود في كلامهم وإن اختلفت العبارة ، والجزم حاصل بالشرط الملحوظ من الكلام سواء أكان مقدراً في الكلام وجاز التلفظ به ، أم تضمنه الطلب ولم يَجز التلفظ به ، أم ناب عنه؟ . والذي قادهم إلى إيجاد هذا الخلاف مصطلحات ثلاثة : " التقدير ، والتضمين ،والنيابة " ، وحسماً للخلاف يمكننا القول: بأن الجازم للجواب شرطٌ مقدرٌ ملحوظٌ ، تضمنه الكلام ، وناب منابه - وهو قريبٌ ممّا قاله ابن خروف - سواء تلفظنا به أم لم نتلفظ به ، وبذلك نكون قد وَفّقْنا بين المذاهب الثلاثة . قال الشاطبيّ(41) : " والخَطْبُ في المسألة يسيرٌ ، وكلاهما محتملٌ ممّا يقال به ، فلا حاجة إلى الإكثار " .
المفضلات