للإستفادة وجدت نصا عن الشعر الحداثي هنا :

الشعر الحداثي هو نوع من الشعر الحديث الذي يعتمد توجهاً فنياً خاصاً في الأداء الشعري إعتمدته جماعة من الشعراء رأت أن الشعر العربي في قوالبه الموسيقية والتعبيرية الكلاسيكية قد أدى دوره واستنفد طاقته وانتهى. فدعو إلى ترك بحور الشعر التقليدية وعروضها التي صنفها الخليل بن أحمد الفراهيدي وإلى الإنعتاق من كل القيود. ليس قيود البحور الشعرية والقافية فحسب وإنما من كل ما قد يوحي بأنه مجرد إمتداد للماضي.

كانت البداية – بداية الثورة على الموروث الشعري – بالإستغناء عن بحور الخليل كنوتاتٍ موسيقية جاهزة (نوتات : جمع نوتة) يتم تركيب اللغة وتطويعها لتتناسب مع رتم البحر فلا تخرج عنه من مطلعها إلى خاتمتها...فابتكروا القصيدة التي أسموها بالحرة لتحررها من قيد البحر الخليلي والإلتزام بالقافية مع المحافظة على موسيقى الوزن المتأتية من وحدة التفعيلة. مستفيدين من موروث محفوظاتهم من القصيدة العمودية في تكثيف موسيقى النص

هناك اسماء مرتبطه بهذا النوع من الشعر ومنهم أدونيس وعبدالله الغذامي و وحسين بافقيه. وهناك صراعا كبيرا بين التيارات الدينية المحافظة والحداثيين.
يتولد الشعر من حيث لا ينتظر لا الشاعر ولا الآخرون .يأتي عاصفا مدمرا للذات حتى وان أرادت اللهو به فلا تستطيع .ذلك لأنه طفل لا يلهو إلا لكي يخترق جدارات اللغة والمتخيل محاولا الوصول إلى المجهول ،ذلك المجهول الذي لن يصل إليه أبدا وإلا شلت أطرافه جميعا وما عاد بشعر .انه أوديس جديد يتكون من الكلمات والحروف والأصوات ويعبر من خلالها وفيها وبها عن تواجده الحقيقي التخييلي فلا حقيقة له خارج التلقي الجنوني به .

من هنا يكون الشاعر الملتبس به كذلك الذي يبحث عن مدينته الفاضلة دون أن يعرف الطريق إليها أبدا ، فما كل الطرق إليه تؤدي كما كانت روما قديما .



إن مسألة تعريف الشعر غاية ليس في الصعوبة فحسب بل في الاستحالة أيضا، بمعنى أن ما قد تراه ذائقة أدبية شعرا تراه أخرى تفلسفا ليس إلا.لكن مع ذلك، نجد باحثين كبارا قد خصصوا كتبا هامة في مسألة تحديده.لكن الرأي النقدي الآن ينطلق من أن الشعر هو صياغة واعية ولا واعية في ذات الآن ، أي يحمل في طياته تلك الفورة النفسية العارمة المحملة بالتعبير الكلامي ، ولا يمكن أن يكون شعرا إلا من خلال وفرة التخييل فيه ، الذي أراه هنا عند الأديب حسين السليمان حين علق على ديوان وديع سعادة الموسوم ب "تركيب آخر لحياة وديع سعادة،وقد أصبح، أي التخييل، مناقضا للشعر ،حين يقول : "لنتصور أننا نعيد تكوين هذا المقطع ونعيد كتابته نجد في هذا النوع من الكتابة قدرة تخيلية وقدرة تركيبية متسلسلة، قدرة رياضية تضع العبارات جانب بعضها من دون فورة أحاسيس ولا مشاعر بل هناك منطق يحكمها ويمهد لها لن تكون شعرا إلا حين نكسر هذا المنطق بإقحام لون غريب بين الكلمات يجعلها أكثر مرونة وقابلة للطي وبالتالي تقفز إلى نياط القلب." وهو ما أثارني بالفعل. فالشعر تخييل وتجاوزات للتراكيب المعتادة ، حتى وان بدا للوهلة الأولى متجاوزا للحظة الانفعالية الأولى التي انبثق منها .من هنا اعتبرت الذائقة الشعرية الحالية أن الكتابة الصوفية النثرية هي شعر أكثر بكثير من الكتابة الصوفية المنظومة ، لأن لعبة الانزياح فيها تحققت بدون وعي مسبق من لدن أصحابها طبعا ،كما أن السوريالية غيرت من نظرة الشعر إلى ذاته بل من نظرة الآخرين له أيضا ،سواء من حيث التركيب أو حتى من حيث التعبير الداخلي إذ ركزت على تجاوز الانبثاق الأولي البسيط وقامت بإدماجه بالتعبير المشتغل عليه جيدا تركيبا ومعنى وحتى تلاعبا في بعض الأحيان ،حتى وان بدا للولهة الأولى وكأنه انشطار لغوي هائل بلا معنى .

إن هذا التمييز بين التخييل والشعر لا يمكن قبوله مبدئيا،وإلا تحول الشعر إلى كلام عادي ،فقط هو شعر لأنه يعبر عن تجربة صادقة ليس إلا أو عن أفكار تولدت نتيجة تجربة عيشت بالفعل.

لا . الشعر لا يصنع بالأفكار الكبرى .ولا بالتجارب فقط .انه يصنع بالكلمات كما يقول مالارميه.

إن قول وديع سعادة:

ليس بيننا كون، بل هواء أشكله كونا جديدا

هو ليس شعرا فحسب بل هو شعر رائع .ففي هذه الصورة يتحقق العدم والوجود في ذات الآن، وهو إلى ذلك يعبر عن تجربة حقيقية في رؤية الحياة انطلاقا من العلائق المعيدة لعملية تشكيلها من جديد وفق حدس شاعري بامتياز.ثم من قبل هذا هناك قوله :

لا قدم بيننا ،بل عطر يمشي

إن أداة الاستدراك هنا ولدت طاقة شعرية مضاعفة ، حققت ما يسميه جون كوهن في كتابه النقدي الهائل بنية اللغة الشعرية بلحظة التوتر الشعري المتولد عن الانزياح اللغوي الذي يخلق انزياحا دلاليا مصاحبا له .فما هو الشعر إن لم يكن هو هذا الانفعال الاٍحساسي العميق الذي يطفح بالكلمات المعبرة عنه بهذه الانسيابية الاستدراكية القوية .لكني أعيد مع ذلك أن مسألة التلقي الشعري تختلف من ذائقة شعرية لأخرى .ومن هنا يظل الشعر في كينونته التعريفية منفلتا دائما عن الحصر أو القبض عليه متلبسا بثياب شعرية واحدة.

أما قول الشاعر وديع سعادة :

ها إنَّ يدي تفكّك أصابعها،

وقلبي يفكّك شرايينه،

وعيني تفكّك حَدَقتها التي يعلق عليها الأديب حسين سليمان بقوله :لنتصور أننا نعيد تكوين هذا المقطع ونعيد كتابته نجد في هذا النوع من الكتابة قدرة تخيلية وقدرة تركيبية متسلسلة، قدرة رياضية تضع العبارات جانب بعضها من دون فورة أحاسيس ولا مشاعر بل هناك منطق يحكمها ويمهد لها لن تكون شعرا إلا حين نكسر هذا المنطق بإقحام لون غريب بين الكلمات يجعلها أكثر مرونة وقابلة للطي وبالتالي تقفز إلى نياط القلب.

فهي تنتمي إلى الشعر ، أولا بهذه القدرة التخييلية ذاتها التي يقرها الأديب حسين السليمان نفسه ، ثم بهذه القدرة التركيبية المتسلسلة التي تجعل من الصور تتلاحق في شكل صوري هائل ، حتى وان تم اعتماد التشكيلة الهندسية الشكلية التي تحكم البنية الشعرية في كليتها. ثم من قال إن الرياضيات ليس شعرا في بنيتها العميقة التي تتولد عنها رؤى حدسية غاية في الدقة والإحساس معا، إن الرياضيات في قوة عوالمها غاية في الشعرية.والأديب حسين السليمان أدرى بهذا لكونه وليد هذه الرياضيات ذاتها.لكن مع ذلك تبقى هذه الجملة الشعرية حبيسة هذه التكرارية التي طغت عليها مما أثر على شاعريتها المندفعة التي تجلت في بنية القصيدة ككل.

إن الكون الشعري هنا ينمو بطريقة سلسة تعتمد بنية الحكي أيضا وهذا ما تحقق في التجربة الشعرية الجديدة ليس في بعدها العربي فحسب بل العالمي أيضا وأيضا. وهو ما أشارت إليه الشاعرة اللبنانية آمال نوار في تلقيها النقدي لهذا الديوان ذاته أي "تركيب آخر لحياة وديع سعادة".تقول ما يلي : "أكثر ما يُميّز قصيدة سعادة هو نموها الاستطرادي، الصادر عن نَفَس سردي، حيث الجُمل تتوالد من ذاتها في متواليات دلالية تستنفد احتمالات التأويل كلها، فيما الشاعر يُداورها ويُحايلها ويُهادنها ويُشاكسها ويستولدها ويُؤكّدها وينفيها…إلى أن تبلغ بياضها النهائي، وتقبض على الغياب. وهي في هذه الرحلة، لا تني تتخفّف من مضامينها، إنْ بالنفي أو التشكيك أو المحو، ولا تني تتعرّى من بلاغتها في سعي نحو نوع من الشعرية الخالصة التي تتجاوز معاييرها في نظر الشاعر حدود النقد الشعري الضيّقة."

إن التنامي السردي هنا بقدر ما يبعد الشعر عن طبيعته الكلاسيكية المتمثل في الغنائية بالخصوص فهو يقربه من عالم الدرامية المتولدة عن الطابع المأساوي الذاتي الذي يتولد عن طريق خلق توتر بين الذات وبين العالم الذي تسعى للوصول إليه .هذا العالم الذي لن يكون في نهاية المطاف إلا اللامكان وبالتالي اللامان ، طالما ارتبط المكان بالألفة وأصبح حميما ،فهو لن يؤدي بالشاعر إلا إلى الركون إليه وبالتالي الابتعاد عن الاحتراف العنقائي والتجدد المستمر وهو نقيض الشعر تماما .

إن الشاعر وديع سعادة وهو يعيد تركيب حياته وفق تصور يكسر منطقية الأشياء بانيا منطقا آخر من خلالها يمنح للقصيدة امتدادية الرؤى وأفقا مغايرا ، يجعلها تبني كونا مختلفا لا يتحقق الشعر فيه إلا اعتمادا على اختلافيته ذاتها .

يقول: " والأرض الأخرى تمشي قبالتي ولا ألتفتُ إليها.

لم أكن أجري في نهر. كنتُ بمحاذاة الأنهار أنتظر مائي

أجلس على لا مكان، ولا يجلس معي زمن"

إن هذا التماهي اللانهائي ليس مع الأشياء بل مع ما تقدمه من ظلال هاربة باستمرار لا يمكن القبض عليها إلا توهما .ولا شيء يخلق الشعر سوى التوهم .

لكنه ذلك التوهم المنجرف وفق عوالم تنبني على الحلم الذي لا يسمح باللغة وهي تسعى جاهدة إلى ذلك بالقبض عليه .ومثل هذا الشعر المنفلت يصعب تلقيه كما يصعب تحديد معالمه ، فهو يمنح ذاته و لا يمنحها ، يظل دائما في مرحلة المابين ، مرحلة البرزخ العميق.

هذا الكون الشعري يتأسس انطلاقا من الذات ويعود إليها ، فعن طريقها وبها ولها يصنع هذا الكون.يقول وديع سعادة ما يلي :

"يا عيني التي وحدها تشرق عليَّ، الشروق والغروب هما هنا تحت رمشي.

أُقيم في ظلّ إغماضه عينٍ وفي ظلّ انفتاحها، وليس في ظلّ الشموس البعيدة

ويا عشباً مولوداً من خطواتي أعيش تحت أوراقك

وتعيش معي أراضٍ ومجرَّات

وترقص مخلوقاتٌ وتغنّي."

من هنا فإن عملية تلقي هذا الكون تظل بعيدة.ربما أبعد مما يتصور حتى صاحبها.لأن مبنية وفق نظام الانقطاع لا الاتصال مع الكلمات المعتادة ، مع التخييل العادي .انه تؤسس كونها الشعري متفردة به كما ينبغي أن يكون هذا التفرد .وهو ما وجدنا أن الشاعرة اللبنانية آمال نوار تقبض عليه حتى في عملية انفلاته .تقول: "ولن نقع في قصيدة سعادة، الطائرة هذه، على حِمْل أخفّ من الكون! سرّها في هذا، أنّها تضمر الفضاء بنظرة، والمكان بغفوة، والزمن بذكرى.. لكأنّها تقيم لنفسها عالماً ذاتياً موازياً للعالم الخارجي، تأخذ فيها مفرداته اعتبارها من كونها أكثر تماهياً مع وجدان الشاعر- هذا الذي سيعيد تركيب حياته كي تشبه النسيم- فنرى كيف تحلّ فيها الكيمياء مطرح الفيزياء، والذاكرة مطرح الجغرافيا، والنقطة مطرح الكون، والغبار مطرح الحياة، وكون البال مطرح كون الحقيقة.." في حين ظل الشاعر السوري حسين السليمان بعيدا عن عملية القبض هاته إذ له نظرة مغايرة لمفهوم الشعر .فهو يرى "هناك بالفعل نمو والنمو ليس شعرا بل هو التفاف وترابط بنى. إنه الخلق البطيء الذي يريد زمنا للولادة يبني المادة لبنة لبنة، لكن الشعر كما أدركه ليس كذلك إنه طاقة وصاعقة تفتح المدارك بالغصب. والملاحظة في نصوص العمل أن القارئ يعمل الخيال ويعمل العقل للوصول إلى ما تريده المقاطع وهذا مادة درس غريبة الشكل عن الشعر الذي هو وحي يهبط في النفس بالثقل يتغلغل من دون حساب."

إن ما يجب توضيحه هنا أن الشعر لا يمنح ذاته بسهولة، وشعر وديع سعادة من هذا النوع، انه يتطلب قارئا مشاركا في صناعة القصيدة مندمجا في كونها الشعري فاعلا قبل أن يكون منفعلا بها فحسب.ومن تأتي قيمة هذا الشعر الذي يكتبه بقلبه ووجدانه وبخياله وتخييله ، وبفلسفته اللانسقية واللايقينية في ذات الآن .

إن مقطعا شعريا متعدد الدلالات والرؤى ومتوحد البنيات وموزعها لا يمكن أن يصدر إلا عن شاعر حقيقي، يرتجف الوجدان لدى قراءته.

يقول وديع سعادة :

"واقفٌ هنا، حيث يعبر الجسرُ وليس الماشون عليه

يكفي أن أقف، لكي أصل.

يعبر الجسرُ بي ويعرف وجهتي، يعرف أن لا وجهة لي إلاّ الوقوف

المدى في عيني والأرض في قدمي

وإن احتجتُ إلى رفاق، هم تحت جفني

يتقلَّص الكونُ حتى يصير حدقتي

ويدي تطْلق خرافها إلى كون، مراعيه رؤية

يكفي أن تنظر حتّى تشبع

ويكفي ألاّ تنظر، لئلاّ تجوع."

إن هذا المقطع الشعري المنفلت من الاستعارات العتيقة والمؤسس لاستعاراته الخاصة ، الاستعارات التي يحيا بها في كونه الذاتي البعيد عن كل قيود التقليد وأمثاله من المقاطع الشعرية المتواجدة في الديوان والمشيدة لعوالمها الخصبة ،هو ما دفع بالشاعرة آمال نوار وهي تقرأه بعشق لأنه قريب من العوالم الشعرية التي تجد نفسها حاضرة في لهيبها النوري، تعرف الشعر في تلقائية ذات بعد شاعري جميل بقولها : الشعر ليس صوراً جميلة واستعارات ومجازات فقط. إنه أكثر من ذلك بكثير وأعمق بكثير، بمعنى أن توفر العناصر السالفة في قصيدة ما من دون تلك الحالة الأصلية السابقة عليها، لا يجعل مما نكتبه شعراً، لكنّ العكس صحيح، فالقصيدة الصادرة عن ذلك النبع الأول، اجل هي شعر وتقطّر شعراً، حتى ولو كانت متخففة من أي بذخ لغوي أو تقنية عالية في الشكل.

أما الشاعر حسين السليمان فهو يقول عن الشاعر الحقيقي ما يلي :" الشاعر، إن لم يرتعش حين كتابة القصيدة وإن لم يحس بدماء أخرى تجري في عروقه وهو يخط الكلمات فعليه أن يدرك أن مايكتبه لا يمت لمادة الشعر بشيء."

إن ما أريد تأكيده من خلال قراءتي لهذا الديوان "تركيب آخر لحياة وديع سعادة"،وهي قراءة لا أخفي بتاتا أنها عاشقة لشعره كما هو حال قراءة الشاعرة آمال نوار، أن هذا الشاعر كان يرتعش بالفعل وهو يشيد كونه الشعري الباذخ هذا .ودليلي ، إذا احتاج النهار إلى دليل ،قوله الشعري الرائع :

"وَضَعَ قدمه على النقطة الأخيرة للحافَّة وراح يغنّي /للخطوة التالية."

وختاما يمكن القول إن مسألة التلقي الشعري تدخل فيها عوامل متعددة ومتشابكة لم نشر إليها، وإما وقفنا على منظورين مختلفين تجاه شعر شاعر مشهود له بالقول الشعري المتميز وبالأفق التخييلي الهائل .ومسألة إثارة مثل هذه النقاشات النقدية الأدبية حول التجارب الشعرية الحداثية المعروفة ، مسألة غاية في الأهمية فهي تفتح الرؤى وتجعلها ترى بعضها البعض في مرايا متعددة وليس في مرآة واحدة أريد لها أن تكون دائما مصقولة .

المصدر http://ejabat.google.com/ejabat/thre...9496da8f5cadc2