-
لم يكتب للدراسات اللغوية العربية أن تنمو فيما بعد القرن الخامس الهجري فلقد كان كل جهد يبذل بعد ذلك القرن إما في سبيل الشرح وإما في سبيل التعليق وإما في سبيل التحقيق والتصويب ،أما العمل المبتكر والذهن المبدع فقد قضى عليهما ظهور العنصر التركي على مسرح السياسة واستبداده بأمر الخلافة وضيق أفقه في الفكر وقلة حماسه للعلم وتلك ظاهرة ظلت تتضح في العالم العربي والإسلامي بعد آخر وتشترى باطراد حتى انتهت آخر الأمر بما سموه إقفال باب الاجتهاد .
وكان معنى ذلك إضفاء الشرعية على التقليد والتماس النجاة في ظل أعواده اليابسة التي غرسها الشؤم في صحراء الجهل ويبابه ،كيف لاومن قلد عالمًا لقى الله سالمًا!
ولم تعد البصرة والكوفة وبغداد ومكة المدينة والقاهرة ودمشق والقيروان من عواصم الابتكار في الخلافة تنبض بالحياة كما كانت في أيامها الخوالي حين كان العلماء في كل فرع من فروع الدراسة سدنة على الفكر الخلاق وحين كان العالم المتحضر في ذلك الوقت يرى هذه العواصم قبلة الفكر الخلاق وكان النحاة واللغويون من بين هؤلاء العلماء أرفعهم صوتًا وأجرأهم عقلا وآصلهم فكرًا وأثبتهم على الطريق قدمًا.
ولكن الظروف التي دعت إلى نشاة الدراسات اللغوية العربية كانت العامل الرئيسي في تحديد مسار هذه الدراسات وفلسفة منهجها ،فلقد نشأت دراسة اللغة العربية الفصحى علاجًا لظاهرة كان يخشى منها على اللغة والقرآن وهي التي سموها "ذيوع اللحن" وعلى الرغم من أن تسمية هذه الظاهرة المذكورة لا تشير إلا إلى خطأ في ضبط أواخر الكلمات بعدم إعطائها العلامات الإعرابية الملائمة أشعر بميل شديد إلى الزعم بأن الاخطاء اللغوية التي شاعت على ألسنة الموالي وأصابت عدواها ألسنة بعض العرب لم تكن مقصورة على هذا النوع من أنواع الأخطاء.
فأكبر الظن أن هذا الذي سموه لحنًا كان يصدق على أخطاء صوتية كالذي يشير إليه مغزى تسمية اللغة العربية الفصحى "لغة الضاد" ويفصلها ما يروى من نوادر الموالي كأبي عطاء السندي وسعد الزندخاني وغيرهما .
كما كان يصدق على الخطأ الصرفي الذي يتمثل في تحريف بنية الصيغة أو الإلحاق أو الزيادة ،وعلى الخطأ النحوي الذي يتعدى مجال العلامة الإعرابية أحيانًا إلى مجالات الرتبة والمطابقة وغيرهما
وعلى الخطأ المعجمي الذي يبدو في اختيار كلمة أجنبية دون كلمة عربية لها المعنى نفسه .
ويصدق على جميع هذه الأنواع من الخطأ أنها أخطاء في المبنى أولا وأخيرًا ولو أدت في النهاية إلى خطأ في المعنى لم يكن نتيجة خطأ في القصد .
من هنا اتسمت الدراسات اللغوية العربية بسمة الاتجاه إلى المبنى أساسًا ولم يكن قصدها إلى المعنى إلا تبعًا لذلك وعلى استحياء ،وحين قامت دراسة "علم المعاني" في مرحلة متأخرة عن ذلك في تاريخ الثقافة العربية ،ومن هنا رأينا عبد القاهر في دلائل الإعجاز يتكلم في النظم والبناء والترتيب والتعليق وكلها أمور تتصل بالتراكيب أكثر مما تتصل بالمعاني المفردة.

المصدر(اللغة العربية معناها ومبناها)

http://shamela.ws/browse.php/book-9970#page-7

لـــ: تمام حسان

.