فهذا النص على بعده مما نحن بصدده إلا أنه يشير إلى قدم الاعتقاد بوجود علاقة ما
بين الأحرف والأرقام بغض النظر عن طبيعة تلك العلاقة وتجلياتها والغاية من إدراكها
وكيفية استثمارها.
كما يؤكد تأثر القدامى في دراسة تلك العلاقة بالفلسفة اليونانية والأفكار الغنوصية
والمعتقدات الضاربة في القدم، يظهر هذا في تقسيم الحروف تقسيما طبائعيا (ماء،
هواء، تراب، نار) كما يظهر في اعتقادهم بسريان الحياة في الحروف.
إن الأحرف في نظرهم لم تكن وصيلة تعبير فحسب، لكنها كانت تتضمن أسرارا
وتنطوي على قوة اتصال كونية كما كانت وسيلة كشف ذاتية أيضا، ولا ينبغي أن نفهم الكشف هنا فهما تسليميا كما يريد أبو العباس البوني ومن ورائه المتصوفة والحكماء الروحانيين، بل علينا أن نفهم الأمر بطريقة مختلفة، إذ لا بد أن يكون لهذا الكشف أو ذاك أساس منطقي استقر أولا في نفس الكاشف واستوعبه عقله الباطني، وقد يكون هذا الكشف نتيجة تأمل عميق أو تجربة بحثية اكتملت أو لم تكتمل، وهنا قد يوجد مدخل للمعجم الرقمي؛ حيث يكشف لنا بعضا من هذه الغوامض التي ظلت غوامض وأسرارا حتى الساعة، واكتفى من يؤمن بها من البحث والتدقيق بنسبتها إلى عالم ما ورائي؛ ليظل على إيمانه ولا يتطرق إلى نفسه الشك بعد أن عجز عن الفهم، وأنا أعني هنا صغار الأتباع من المتصوفة، ولا أعني الفلاسفة والحكماء الكبار الذين لا يصدرون إلا عن معرفة وإن اختلفنا معهم حولها، كيف لا وابن عربي ومن في طبقته من كبار المثقفين على مستوى الإنسانية لا على مستوى الحضارة العربية أو الشرقية فحسب.


أعتذر عن الإطالة وعن كوني شرقت وغربت بالحديث؛ ربما لأنني أردت إثرائه بشيء مما دار في نفسي بعد إذ لم أجد لدي ما أضيفه إلى ما تفضلت به أستاذي العزيز خشان، فالموضوع جديد وعميق، ولقد أحسنت ما شئت حين أشرت في نهاية بحثك إلى إمكانية قيام أبحاث جزئية تتناول مسائل بعينها مستعينة بالبحث المعجمي الرقمي.


ودمت موفقا ومشرقا ومثريا.