السلام عليكم
وجدت من المفيد نشر مقالة محمد بنيس في احتضار اللغة العربية :
في احتضار اللغة العربية
>محمد بنيس الحياة 2005/05/6
كان يرغـب في تمـزيق شعر رأسـه. يشده بأصابع اليـديـن مجتمعة ويجـذب. عضلات الوجه متوترة. وكلماته لا تتوقف. “ما معنى احتضار اللغة العربيـة، يا محمـد؟ كيف تجرؤ على قول كهذا؟” ثم أضاف من غير تردد: “هذا شيء فاقـد لكل معنى. يا أخي محمد، يا محمـد، بالله علـيك. العربيـة تحتضر؟ هـذا هـو الجنون”. كان يردّ على ما جاء في حـديثي عن مصير اللـغة العربية بعد قـرن ونصف قـرن من التحديث. ملاحظتي لم تكن جـديدة. هي من بين ملاحظاتي التي أهتدي بها في أفعال وكتابات. العربية. عربيـتي. تحتضر. في المغرب والمغرب العربي. وفي بلاد عـربية مشرقية.
جدل مفتوح عن اللغة في زمنـــنا وعن اللغة العربية تحديداً. لم نعد في ذلك الزمن المتباهي بالديمـومة، بالعربية الخالدة، كما بالعروبة الخالدة. العـربية أكبر من العروبة وتاريخـها أطول مـن تاريخ العـروبة. لكن العـروبة مضت بسرعة مثلما أتت بسرعة. وتبقى العربية في حالة احتضار. موت مؤجّــل. ذلك الاحتضار الذي نعيشه يومياً في حياتنا، ولا نحتاج لمن يـدلنا علـيه. في الحياة اليومية لكل واحد منا نستـطيع الوصول إلى هـذه الملاحظة من دون عناء. ساعات النهار كافية لأن ترى. وتلاحظ. هـذه اللغة في حالة احتـضار.
ليـس في قول كهذا اختـراع. أو ليـس فيه تجنّ على لغة عربية، كما يمكن أن تصوغه عبارة مستـقـيمة. لستُ من أهل العبارات المستقــيمة. فالعربية تحتضر أوضح بالنسبة لي من عبارات لا يسري فيها نفَـس المتكـلم. تلك هي اللغة. والعـربية. والاحتضار. عالم من الكلمات يحوّل المعاني عن طريقـها المعتاد لقـول ما لا نتجرأ على قـولــه، على رغـم أن الزمـن لا يطـلب منا تباهـياً. هي هُـنا. معنا. فــينا. ونحن نعايــن احتضارها. وما العجب في الملاحظة والجرأة على الجهر بما نلاحظ؟ سؤال ربما كان في غير محله، ما دام السـؤال نفسـه أصبح منسياً في حياتنا الثقافـية. بل إن طـرح السؤال لا يفيد في تصويب رأي ولا في الحث على العودة إلى الوقائع، لعلنا نتأكد على الأقــل.
بين جملتـين قصيرتـين عن زمنـنا وعن اللغة. وأنت ترى أن العربية تحتضر. في بيتك وعلى يد أبنائـك. أقصد على يد عائلـتك التي تتسمى في لغتك بيتَ العرب المـوسّع وعلى يد من تعلموا هـذه اللغة ثم تركوهـا تهْــوي. إلى قعـر الهجران. في حياة كنا نعتـقد بأنها عـربية. ولا أدري بمَ يُمكن لي أن أسـميها اليوم. تلك اللـغة. العربـية. والاحتضار. والصديق القـديم الذي يرغب في تمزيـق شعره لأنني قلت بعبارة غير مستقيمة ما لا يـراه هـو، المؤمن بالعروبة المنتصرة على الأعداء. ولربما كنتُ أحدهــم، في زمن لا ينـذر بمثل ما أقول أنا. والعـياذُ بالله.
حديث عن الزمن واللغة في عهد العـولمة. وهـو يمكن أن يظـل مفتوحاً على تناول قضايا حياتـنا الثقـافـية. كل مرة كنت أصطدمُ بنفْــسي التي تلاحظ ما لا أحبذ ملاحظـته. وهي تنازعني في الحـديث. لا تقـولي. هكذا أفضل أن أخاطـبها حـيناً وأن أناجـيها حيناً. بينــهما الوقائع. والألــم الذي لا يفارق الملاحظة. ثم أنت لا بد من أن تقـول ما تلاحظ. تقول أو تكتب. من الأحسن أن أكتب. آنذاك لا أكـون مُلـزَماً بالصمت لأنني أمام من أخـشاه. أخـشى سطوة كلماته. العروبة المنتـصرة. والعـربية التي تفـتح قــارات الحياة.
من الأحسـن، إذاً، أن أكتب. وله، ذلك الصديق، أن يقـرأ أو لا يقــرأ. وهو في الحقيقة لا يقـرأ. يسعد بالكلام. يالجلـوس إلى طاولة والكلام. ما أحلى الكلام. إلى طاولة. والمارة اللامبالـون. هي الحكمة في زمن العولـمة. الجلوس في المقهى المفضل من أجل أن تتكلم مع نفسـك. لن تجـد من يكلمك. كل جالس هـو جالـس مع نفسه. يكلمها بما لا يتكـلم مع غيره. الأسـواق. الهـواتف النـقالة. المباريات الرياضية. والاحتـفال بالأعياد الوطنية. مجلـس للكلام إلى طاولة. وأنت لا تكلم إلا من لا يزعجــك.
ربما كنت من هؤلاء المزعجــين، الذين لا يتحفّـظون في قول ما تلاحظه النفـس. الحواس من قبيلة النفـس. وهي جميعاً تتآلـف في الملاحظة. لغة عربية تحتضر. ذلك ما ألاحظه في الأيام التي تمر ونحنُ لا نَعــدّ مسـاءً ولا صباحاً. هي أيام تنــتفي فيها لغتك العربيـة. في المؤســسة كما في الفضاءات التي هي فضاءات اللـغة. المـدرسـة. الجامـعة. الكتابـة. الوثائـق الرسـمية. الإعـلام. التـداول المكتوب. الإعلانات. لا حق للغة العربية في الكلام. هناك في جميع هذه الفضاءات. لغات أخرى، بحسب الأفضلية السياسـية والاقتصادية، أو بحسب المنفعة والامتياز. لغات تتحرك في اتجاه ما ينفع وما يضمن الامتـياز. وأنت تلاحظ.
ما الذي يصعب تصديقه وأنت تلاحـظ؟ هـذا السـؤال بسيط جداً ولا يتطلب اجتهاداً من نوع استـثنائي. أيصعب تصديقُ أن العربية أصبحت شبه مفـتقدة في التـعليم ، أو في الكـتابة، أو في المؤسـسة الرسـمية والمؤسـسات الاقتصادية والتجارية والإعلاميـة؟ فيـمَ تتجسـد الصعوبة؟ في البحث عن الكلمات الصالحـة للوصـف أم فـي الفكرة التي لنا عن الوقـائع؟ سؤالان لا يفــيدان أننا نتجنّى على واقعة بقدر ما يفيدان أننا لا نخفـي الوقائع عن الكلـمات. هـو ذا الأمر، الذي يواجـهنا ونحـن نسأل من يرفـض أن نقول إن هناك احتضاراً للغة العربية في حياتـنا العامـة والشخـصية.
أسئلة عن وقائع يومية في فضاءاتنا. نتحاشى ما هو أبعد من هذه الفضاءات، التي هي المكان الطبيعي لوجود اللغة المكتوبة وتداولها. بها أفرق بين ممارسة اللغة اليومية المنطوقة وبين اللغة المكتوبة. في التفريق بينهما نكون قريبـين من الوقائع في جميع اللغات الحية في العالـم. تفـريق لا بد منه، تجنباً لأصولية لغوية تزعم أن هناك لغة واحـدة وحياة واحـدة لكل لغـة، وهو ما لا ينطـبق على حياة اللـغات.
مسألة احتضار العربية يعرفـها جميع الآبـاء الذين يختارون لأبنائهم التعليم الأجنبي أو المدارس الخاصة. منـذ الابتدائي. لا أريـد هنا الخلط بين الواقع العلمي وبين اللغات في العالم. ذلك شأن التعليـم العالي والبحـث العلـمي. لكنني أقصد هؤلاء الآباء الذين يختارون عن قناعة مـدارس التعليم الأجنبي، حرصاً منهم على مستقـبل أبنائـهم. وفي اللغات الأجنبـية يكمن هـذا المستقـبل. لم لا نصدق هـذه الواقـعة؟ لا أحكم عليها بالصواب أو الخطأ، بل ألاحـظها. ثم ما العيب في ملاحظة الحياة الاقتصادية التي لـم تعـد تحـتاج إلى العـربية؟ العربية عائـق من عـوائق المعاملات المباشرة على الصعيد الوطني والدولي. هكذا يقـولـون. والخطاب السياسي الرسـمي؟ أما زلنا نشـك في أنه قبل كل شيء خطاب يقـوم على لغـات أجنبية؟
من الصعب نسيان هذه الوقائع العامة والنفور من تصديقـها. كل هذا يحدث في سياق فكرة العـروبة. وهي اليوم فكرة لا وجود لها في الواقـع العيني. لا وجود لعالـم عـربي ولا لعروبة. الجامـعة العربية لا تعني بعد هـذا شـيئاً. فلـيست هي التي تسمّي العالمَ العربيّ ولا هي المقـررة في مصير فكرة العروبة. الجميع يعلم أن الجامعة العربية مؤسسة ذات وضع سـياسي رمـزي. وهي لذلك تفتقـد القـدرة على التسمية وعلى تقرير مصير التسمية. لسنوات طويلة كانت تلك حالتها. والإصلاح الذي يمضي ويعود هـو ما لا يصدر عن المؤسـسة نفـسها.
لهذا السياق الأصغر سـياق أوسع، هـو اليوم سياق العـولمـة. من يتنـكر لفعل العــولمة في تدمير العـديد من لغات العالم فهـو مخادعٌ لنفـسه. لقد أثبتت دراسات علمية أن هناك العـديد من اللغات تندثر سنة بعد سنـة، بسـرعة فائقة. نحن نرى فقط بعـض اللغات المنطوقـة التي أصبحت تريد التمتع بوضعـية اللغة المكـتوبة. ولكننا في مقابل ذلك لا نرى ما هـو أقـوى، أي العديـدَ من اللغات التي تندثـر، سنة بعد سنـة.
عندما نَقـبل بالملاحظة فنحن نقـبل بنتائج الملاحـظة. إذ لا يمكن الإقـدام على الملاحظة ثم إنكار ما نلاحـظ. تناقـض أولي. ونحن علينا تجنب السقـوط في الكـلام الذي يتهرب من اتباع الطريق المعتمدة في الاستـقصاء. لذلك فإن لغات عـدة هي اليـوم تندثر بسـرعة. منها لغات أوروبيـة نفـسها كانت منطوقـة. التلفــزيون وحده يقـوم يومياً بمهمة القـضاء على لغات. فالحديث بلغـة واحدة في التلـفـزة لا يترك مجالاً للغات التي لا تحظى بالتقديم والمشـاهــدة. لغات تنقرض، على يد التلفـزة، أو في سبيلها إلى الانقراض. ولم يعد الأمر يتطلب حملات تطهيـرية. التلفـزة تقوم بالمهمة التي كانت الجيوش الإيديـولوجية تتقــن تنفيــذها.
لغات أوروبية تندثر. في فرنسا وإيطاليا وإسبانيا وألمانيا وإنكلترا. هذه الدول ذات السلطة الكبرى للتلفزة وللمدرسة أيضاً. وأنا هنا لا أقـدم هـذه النماذج للمقـارنة بينها وبين العربية. لا. هـذه المعلومة تخص الملاحظة العامة التي تنصب على انـدثار لغات من العالم. أقول الانـدثار ولربما كان هناك ما يمنع لغةً من الاندثار تماماً، على نحو ما كان يحدث في القديم. فالغزو الإسباني لأميركا اللاتينية لم يقطع، كما نعلم، لغات الهنود الحمر من جذورها تماماً.
وهـي اللغة العربيـة. تحتضر. فـي سياقـين، محلي ودولي. من المتيسـر علينا الانتـقال من الاعـتقاد في سـيادة العربية وانتصاراتها إلى ملاحظة احتضارها إن نحن تخلّـيْـنا عن الفكرة المسـبقة التي نملكها عن العربية في المغـرب والمغـرب العربي أو في عـموم العالم العربـي. هو انتقال ضروري من الإيديـولوجيات إلى الملاحظة التي تصل إلى حد تدمير كل إيديولوجيا قوميـة ترفـض الوقــائع. ما لنا لا نحتكم إلى الملمـوس؟ سـؤال مستخلص من المعـرفة العلمية ذاتها. ليس هناك ما هـو أقوى من الملمـوس الذي يتجـدد في حواســك. الملاحظة هي التي تجـدده في ليلك ونهارك. وأنت تلاحظ أو تفكـر في الذي تلاحـظ.
أعلمُ أن هناك حدوداً ليس من المسموح للمثقـف العربي تخطيها. حدود وضعها لنا إيديولوجيون، هم حفَــدَة الفقـهاء. وهي حدود رفع اللـواء. في كل مرة، دفاعاً عن الخالد فيـنا وفي لغتنا وثقافـتنا. ولا مانع عندي من أن يكون بيـننا من يرفعـون اللواء بالحماسة الرشـيقة للكلـمات. عندما نجلس إلى طاولة ونتكلــم. العـربية المنتصرة. لك أن تردد العـبارة في نفسك وعلى المـلأ الذي يمر بك ولا يـراك. هو وأنت على جانبي طريقــين لا تتنـاظران. جبلٌ فاصل بينــكما. جبل الوقائع. ولا تحزنْ على ما لم تلاحظ، لأنـك في نفسـك مطمـئن إلى الفتوحات التي تحقـقـها العربية في حياتـك العربية، من بلد إلى بلد، من المغرب إلى المشـرق. ولا خوف عليك مما أصاب العربيـة, وهي تحتضر في الجهة المحجوبة عن بصـرك.
بين المسموح وغير المسموح به تكون الكتابــة مشروعـاً لإثبات ما تلاحظه النفـس. هناك. في المكان الذي يجب أن تكون فيه. إنك من يلاحـظ ومن له أن يثبت ما يلاحظ. احتضار العربية في سياق جهــوي وسياق دولي. فلا يفطن المقـتنع، السعيد بالانتصار إلى ما هي عليه عربيــته في بيته وعلى يـد أبنائه. هي الملاحظـة اليومية التي تؤلـم عندما نـرى ولا نصمت على ما نرى. بـين الصمت والتصريح سـلالـةٌ مـن المثقـفين. هناك في كل زمن كانت السلالة تفعــل فعلها. والذين يتوهّــمون أن العربية في حـياة منتصرة لهُــمْ ما يتوهّــمون.
قبل أو بعد. ما يعنيني هو هذا التـناقــض الغريب بين أن نعـيش حياة لغتنا العربية وبين منعـنا من التصريح بما هي عليه اليـوم. لم يعد الأمر يتطلب بطـولة ولا تضحية. ثمـة وقائع تحثــنا على أن نـرى. هذا هــو الأسـبق. نرى ونلاحظ. أما أن ننقـضّ على الناطق بما يلاحظ، محاكمةً له بفكرة مغلوطة، والتـوق إلى الإجــهاز عليه، فهـو لا يفــيد في معرفة وضعية العـربية ولا في الدفـاع عنها. القول باحتضار العربية هو الفعل الأول للمقـاومة. في الكتابة. والـرأي. شهادة على أنــنا لا نقـبل احتضار لغة عربية، هي ما لي في تسـمية الذات والآخر والأشياء والعالــم.
المفضلات