أولاً : البنية اللغوية :بناء القصيدة
إن اللغة الشعرية تقيم علاقات جديدة بين الإنسان والأشياء ، وبين الأشياء والأشياء ، وبين الكلمة والكلمة .
ولما كانت تعبيرية جمالية انفعالية تستخدم للتعبير عن أحاسيس واتجاهات وإثارتها عند الآخرين([1])..
فالسياب في (أنشودة المطر) يملك تلك اللغة التي يضع بها المتلقي في عمق التجربة لا على سطحها ..
فالكلمات فيها تتخذ وزناً أثقل من الوزن الذي تحمله الكلمات نفسها عندما نصادفها في الكلام العادي ، مثل : لَجّ ، نشيج ، كركر ، دثار ... وغيرها .
ولما كان استعمال مفردات معينة لدى شاعر معين يشير إلى أن حالة نفسية خاصة وراء هذا الاستعمال ، كان لكلّ شاعر معجمه الشعري ، والمعجم هو الشاعر نفسه ..
ومعجم السياب أبرز ما يميزه هنا هو جملة المشبه والمشبه به ، وهو بتعبير أحدهم ملئ بأدوات التشبيه وأحرف النداء ، وعكازات لغوية([2]) لا حصر لها .. على سبيل المثال :
عيناك غابتا نخيل ساعة السحر ..
كأن أقواس السحاب تشرب الغيومْ ..
فيرجع الصدى كأنه النشيجْ ..
كأنها تهمّ بالشروق ..
كالحب .. كالأطفال ..
يا خليج .. يا واهب المحار والردى ..
وإذا كان هناك من اتهم السياب بأنه شاعر يطير بجناح واحد لتدني مستواه الثقافي ، فيكفي القول إنه استطاع في هذه القصيدة أن يصور لنا مشاعره وأحاسيسه ، وليس فقط ينقلها نقلاً مباشراً .. استطاع أن ينتقي الألفاظ ذات الإيحاءات الأعمق سبراً في الفكر والحسّ ..
ورغم أن الإفصاح عما يموج في النفس من معانٍ ، صعب على اللغة أحياناً ، إلا أن الشاعر يملك كفاءة وموهبة ، ويعي الطرق السليمة في التعبير والصياغات الفنية([3]).
فضلاً عن توظيفه للتقطيع اللفظي ، ومهارات الكتابة التي تساعد في تكثيف اللغة ، كعلامات الترقيم مثلاً .
" ولكي يتمّ تحويل آلام الدم إلى حبر كما يقول إليوت " ، لا بدّ من صنعة وإننا نلمحها هنا عند السياب في انتقائه لألفاظٍ ترجمت الدم والألم إلى حبر يدلّ عليه ، مستخدماً ألفاظ الغربة مثلاً ، كـ : نومة اللحود ، القدر ، دم دثار ، الوحيد بالضياع ، كالدم المراق كالجياع ، تنشج ، تئنّ ..
وألفاظ الطبيعة مثل : تورق الكروم ، كالأقمار في نهر ، الظلام والضياء ، أقواس السحاب تشرب الغيوم ، ضباب ، كالبحر ، النجوم ... وغيرها كثير ، فضلاً عن المطر .. وألفاظ الصوت ، فإنها تعكس عمق تجربة الشاعر الانفعالية بتكثيف شعوري([4]) ودلالي معاً ، مثل : كركر الأطفال ، أصيح بالخليج : يا خليج .. فيرجع الصدى كأنه النشيج ، رعشة البكاء ، يهذي ..
ومن الظواهر أيضاً في هذه القصيدة : ظاهرة التكرار ، فالتكرار فضلاً عن كونه خصيصة أساسية في بنية النصّ الشعري ، فإن له دوراً دلالياً على مستوى الصيغة والتركيب ، فهو أحد الأضواء اللاشعورية التي يسلطها الشعر على أعماق الشاعر فيضيئها([5]).
وهذا واضح في تكرار لفظة المطر ..
و : يا خليج ، يا واهب اللؤلؤ والمحار والردى ..
و : حمراء أو صفراء من أجنة الزهر ..
و : كلّ دمعة من الجياع والعراة ..
و : كلّ قطرة تراق من دم العبيدْ
فهي ابتسام في انتظار مبسم جديد
أو حلمة توردت على فم الوليدْ
في عالم الغد الفتي واهب الحياة !!
rrr
([1]) الاغتراب في الشعر العراقي ، محمد راضي ، ص67 .
([2]) المرجع السابق ، ص70 .
([3]) من إجراءات النقد العربي الحديث ، د. محمد الحارثي ، ص33 .
([4]) الاغتراب في الشعر العراقي ، ص94 .
([5]) قضايا الشعر المعاصر ، نازك الملائكة ، ص43 .
المفضلات