أولاً : باب تعاقب الألفاظ لتعاقب المعاني :
نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعينقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعينقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

ذكر ابن جني في هذا الباب أنّ أكثر كلام العرب عليه ، وإن كان غفلاً مسهواً عنه .
والحقيقة أنّ ما طرحه من الأمثلة على هذا لا يكفي لإثبات اطراد هذه الظاهرة في اللغة ، ومن ثَمّ القول بأنّه من خصائصها ، وبخاصة في لغة لها سعتها كالعربية .
وفضلاً عن هذا ، فإنه بالعودة إلى عنوان هذا الباب وباب (الإمساس) ، فإنّ هذين العنوانين قد وردا تحت معنى التناسب أو التآلف أو التوفيق أو المراعاة عند البلاغيين ، كابن سنان ، والخطيب ، وابن الأثير ..
فابن سنان يقول - مثلاً - : " أما تناسب الألفاظ من طريق المعنى فإنها تتناسب على وجهين : أحدهما : أن يكون معنى اللفظين متقارباً ، والثاني : أن يكون أحد المعنيين مضادّاً للآخر أو قريباً من المضادّ ، فأما إذا خرجت الألفاظ عن هذين القسمين فليست بمتناسبة "([1]).
ووردا كذلك عند علماء اللغة ، كابن فارس تحت عنوان : (أجناس الكلام في الاتفاق والافتراق)([2]).
ثم هما قد وردا بتوسّع نقلاً عن كثيرٍ من العلماء عند السيوطي تحت باب
(معرفة الأضداد) .
والذي يظهر في هذا الباب رغم أنه قدم فيه الألفاظ على المعاني وقال بتعاقب الألفاظ لتعاقب المعاني ، إلا أنه أثناء عرضه للأمثلة في هذا الباب يتفاوت في تقديم اللفظ وتأخيره ، فنجده - مثلاً - يقول في جلف وجرم : هما متقاربان معنى ، متقاربان لفظاً !!.
ويقول - أيضاً - : " وقالوا : الغدر ، كما قالوا : الختل .. ثم يعقب قائلاً :
" والمعنيان متقاربان ، واللفظان متراسلان " !!. أو يقول : " المعنيان متقاربان " ، ثم يقول : " والهمزة أخت العين " في الأز والهزّ !!.
ويقول : " لتقارب اللفظ والمعنى " ، أي : معاً ، فلا يقدم أحدهما على الآخر([3]).
وهو يصرُّ في هذا الباب على تعاقب اللفظ لتعاقب المعنى ، ويورد من أمثلته : العسف والأسف ، فرغم تقارب اللفظين ، إلا أن المعنيين غير متقاربين .. وسأفصّل هذا فيما بعد .
فهذا التعاقب الذي يقصده ما هو إلا جزء مما سماه ابن فارس : (الاتفاق والافتراق) .
وما قال به المبرد في كتاب (ما اتفق لفظه واختلف معناه) كما أورد هذا السيوطي .
فهذا الباب والذي يليه فقد يندرج تحتهما اتفاق اللفظين واختلاف المعنيين ، واختلاف اللفظين والمعنى واحد ، واختلاف اللفظين لاختلاف المعنيين .. وهذا عند المبرد .
أما ابن فارس فأدرج تحت هذا الباب - الاتفاق ، الافتراق - اختلاف اللفظ واتفاق المعنى ، واتفاق اللفظ واختلاف المعنى ، واتفاق اللفظين وتضادّ المعنى ، وتقارب اللفظين والمعنيين ، واختلاف اللفظين وتقارب المعنيين ، وتقارب اللفظين واختلاف المعنيين([4]).
ثم إن السيوطي نقل عن المبرد أنّ هذا الضرب كثير جداً - أي : الاتفاق والافتراق - ، وهذا يتعارض مع قول ابن جني في أنّ هذا الباب الذي يقصده هو كثيرٌ أيضاً في كلام العرب ، رغم أنّه جزء مما جاء عند المبرد .
وعقد الثعالبي فصلاً سماه : (في تقارب اللفظين واختلاف المعنيين)([5]).
هذا ، فضلاً عن الباب الذي عقده ابن قتيبة في كتابه (مشكل القرآن) ، والذي يسبق ابن جني في هذا ..
وبناءً على ذلك ، فالذي يظهر أن ابن جني إنما هو يتوخى الغرابة في التعبير ، وهذا وارد في معظم كتابه ؛ إذ هو يتأنق في أسلوبه ، وقد يتكلّف أحياناً .
والذي يظهر ثانياً عند تأمل هذا العنوان الذي طرحه ومدى ملاءمته لمضمونه ، نجد أنه لا يقصد تعاقب الألفاظ لتعاقب المعاني ؛ لأنّه - كما سبق الحديث عن ذلك - قد يقدّم المعاني على الألفاظ ، وأحياناً أخر يجمعهما معاً عند عرضه للأمثلة والتعقيب عليها .
والذي يؤوّل لهذا أنّه اختار تقديم اللفظ في العنوان ؛ لأنّ هذا منهج اتبعه في عرض عناوين كتابه من باب الترتيب والتنظيم ، وإلا فإن المسألة نسبية .
ومما يؤخذ عليه في هذا الباب : أنّ كثيراً من أمثلته يظهر أنها تجانب ما يقصده أحياناً .
فمثلاً في قوله : " شرب ، كما قالوا : جلف " ، وعلّل هذا ؛ " لأنّ شارب الماء مغنٍ له كالجلف للشيء " ، ولم يزد على هذا التعليل ؛ مما يُشعر بضعفه ؛ إذ شتان بين الشرب والجلف ، وإذا كانت الأحرف متقاربة في النطق ، فإن المعنى مختلف ، وما أوجده من تقارب إنما هو تمحُّل .
فالجلف هو استئصال ، فهل يسمى شرب الماء استئصالاً ؟؛ إذ لا يُستأصل إلا ما له جذر أو مما هو في حكمه ، فأي جذر للماء حتى يُستأصل ؟!.
وكذلك قوله : " ألته حقه ، كما قالوا : عانده " ، فأيّ معنى متقارب بين اللفظين ؟!.
أيّ معنى بين نقصان الحقّ وبين هذه المعاندة التي قد لا تدخل في الزيادة أو النقصان ، إنما الثبات على حالٍ واحدة .
ومما هو محيّرٌ أيضاً : ما عقده بين : زأر ، وسعل ..
فهل معنى (زأر) بمعنى (سعل) ؟.
فإذا كان يقصد الغاية منهما فهذا ممكن ..
إنما هناك فروق دقيقة بين المعنيين ، وليس في هذه الكلمتين فقط ، إنما غالب ما أورده من كلمات ملتمساً المقاربة بين معانيها ، فبينها من الفروق ما بينها !!.
فهو حينما يحاول أن يقارب بين اللفظين دائماً ، ويقول مثل : العين أخت الحاء ، والهمزة أخت الهاء .. فإنه مبني على هذا التقارب في اللفظ تقاربٌ في المعنى ، وقد لا يكون هناك تقارب لِما سبق من التعليل ، وهو تلك الفروق الدقيقة بين المعاني .
وإذا كان هناك تقارب في الاشتقاق الصغير فلا يُجزم به في الاشتقاق الكبير ؛ لأنّ المدققين من علماء اللغة لم يشترطوا في الاشتقاق الكبير وجود التناسب في المخارج بين الأحرف المختلفة ، لكن مع ذلك توسّعوا في تعريف هذا الاشتقاق ومفهومه ، وجعلوه بحيث يتناول إبدال حرف من آخر مطلقاً ، وافقه في المخرج أو لم يوافقه فيه ، بشرط حصول التناسب المعنوي بين اللفظين([6]).
ومما هو ملفت ويستوقف في هذا الباب : هو قوله : " وقالوا : جاع يجوع ، وشاء يشاء ، والجائع مريد للطعام لا محالة ، ولهذا يقول المدعو إلى الطعام إذا لم يجب : لا أريد ، ولستُ أشتهي ، ونحو ذلك ، والإرادة هي المشيئة ... "([7]).
فإذا كانت تلك من (ج و ع) والأخرى من (ش ى ا) ، والجيم أخت الشين ، والواو أخت الياء ، والغين أخت الهمزة ، فإنني حاولت أن أربط بين المعنيين ، أو أن أجد ترابطاً ، لم أستطع !!.
فهل من يجوع بإرادته ؟.
وإذا كان هو مريد للطعام .. نعم !!.
فهل جاع بمعنى أراد ؟.
إنّ الجوع هو ضدّ الشبع ..
ووهي بمعنى عطش ، واشتاق في معنى (جاع إليه)([8]).
وما هو ملفت أيضاً هو قوله : " وقد تقع المضارعة في الأصل الواحد بالحرفين ، نحو قولهم : السحيل ، والصهيل ، وهذان أصلان ، لا أصل واحد ..
لكن ربما هذه من سقطات العلماء ، ولولا أنه لا يعي أنها أصلان ، وإنما قد غفل فقط لما ذكر في (ص151) أثناء حديثه عن الربط بين لفظة جعد وشحط ، قوله : وذاك من تركيب (ج ع د) ، وهذا من تركيب (ش ح ط) ، فدلّ هذا على علمه ، وما مضى يُعدّ من غفلات العلماء .. " .



rrr


([1]) سرّ الفصاحة ، لابن سنان ، ص199 .

([2]) انظر : الصاحبي ، ص206 ، مفصّلاً .

([3]) الخصائص ، لابن جني 2/149 .

([4]) المزهر ، للسيوطي ، ص388 .

([5]) فقه اللغة وسرّ العربية ، للثعالبي ، ص345 .

([6]) دراسات في فقه اللغة ، محمد الأنطاكي ، ص337 .

([7]) الخصائص 2/151 .

([8]) القاموس المحيط ، للفيروز آبادي ، باب العين ، فصل الجيم .