وبعد عرض القضية وحجج الفريقين ، وبإنعام النظر في الأساليب التي أجازوا فيها الجزم والتي منعوه فيها ، نحو : " لا تدنُ من الأسد تسلمْ " ، و " لا تدنُ من الأسد يأكلْك "، نجد أنْ لا فرق بينهما في التركيب ، فكلاهما يتكون من عناصر أساسية هي : أداة النهي ، والفعل ، وجار ومجرور ، والجواب ، وكلاهما نهي يترتب عليه جلب مصلحة أو دفع ضرر ، وهذا هو وجه الاختلاف بينهما ، فالمنع إذن ليس من جهة اللفظ ، وإنما من جهة المعنى ، والمتكلم عندما ينهى شخصاً إما أن يبين له عواقب الطاعة ، أو أن يبين له عواقب المعصية ، فإن أراد إقناعه نهاه ورغبه في الأمور الحسنة التي تترتب على الامتثال ؛ نحو:" لا تعص الله تدخل الجنة " و " لا تكذبْ تنجُ " و " لا تهملْ واجبك تنجح ".
و إنْ رآه في خطر نهاه وحذره من المخاطر التي تترتب على عدم الامتثال ، ويكون همه هو درء الخطر عنه وتخويفه . ولنا أن نتخيل حالة الرعب والتوتر والاضطراب التي يكون عليها من رأى شخصاً أو طفلاً يهم بعمل يترتب عليه خطر ؛ أينهاه مبيناً حسنات الامتثال ، أم ينهاه مبينًا المخاطر؟
لا شكّ أنّ الحالة النفسية للمتكلم لها تأثير في تحديد الأسلوب الذي يُعبّر به عما يدور في نفسه ، ففي الغالب ينهاه مبينًا المخاطر التي تترتب على عدم الامتثال ، لأنّ همّه هو درء الخطر عنه ، فيقول له : " لا تقتربْ من النار تحترق " و " لا تكسلْ تندمْ " و " لا تمسكْ الزجاج يقطعْ يدك " .
ولو تدبرنا الاستخدام اللغوي في وقتنا الحاضر ، وجدناه يجري هذا المجرى، وعلى هذا جاء ت النصوص السابقة التي احتج بها الكسائي ومن وافقه .
والكسائيّ – كما هو معروف – علم من أعلام النحو ، وهو إمام المذهب الكوفيّ ، وأحد القراء السبعة ، فما أجازه لابد أن يكون عن ُبعْدِ نظرٍ ، وله وُجْهةٌ في ذلك .(81)
وقال الرضي (82) " وليس ما ذهب إليه الكسائيُّ ببعيد لو ساعده نقل " وقد ساعده النقل بالنصوص السابقة التي وردت .
وحجّة المانعين هي عدم استقامة المعنى بتقدير " إنْ لا " . فإذا عرفنا أنَّ تقدير الشرط أمرٌ وهميٌّ افتراضيٌّ وضعه النحويون لتسويغ الجزم في جواب الطلب ولم تتكلم به العرب ، ولم تظهره في كلامها ، وعلة المنع هي من جهة المعنى عند تقدير : " إنْ لا " ، ويترتب على النهي إمّا الطاعة وإمّا المعصية ؛ إذن ِلمَ لا نقدر التقدير الذي يناسب المعنى ويحدّده السياق ؟ ويتم ذلك بالاستغناء عن "لا" تلك التي يفسد معها المعنى- فيما ذكروا- فيكون التقدير في نحو " لا تدنُ من الأسدِ تسلمْ ": إنْ لا تدنُ تسلمْ، وفي نحو " لا تدن من الأسد يأكلك " : إن تدن يأكلْك – وهو ما قاله الإمام السهيلي في بعض توجيهاته (83) – فالمعنى الذي يشتمل عليه أسلوب النهي المجاب عنه يتضمن طاعة يترتب عليها أمر حسن ، أو معصية يترتب عليها أمر سيء ، فالمهم إن معنى الجزاء الذي هو شرط في جزم الجواب متحقق في التركيب في كلتا الجملتين على اعتبارات معنوية مختلفة ، وبالتقدير المناسب للمعنى الذي قصده المتكلم .
يقول السيوطي (84) : " ينبغي أنْ يُقدّرَ المُقدَّرُ من لفظِ المذكورِ مهما أمكن ... فإذا مَنع من تقدير المذكور مانعٌ معنويٌّ أو صناعيّ قُدِّر مالا مانع له".
ويقول ابن جني في ( باب تجاذب المعاني والإعراب) (85) : "...وذلك أنّك تجد في كثير من المنثور، والمنظوم الإعراب والمعنى متجاذبين : هذا يدعوك إلى أمر ، وهذا يمنعك منه ، فمتى اعتورا كلاماً ما أمسكت بعروة المعنى ، وارتحت لتصحيح الإعراب" .
وإذا أردنا أنْ نحتفظ بلفظ الفعل الأساسي ، وبمعنى الطلب نقدر في الأول " لا تدنُ من الأسدِ [ إنْ لا تدنُ ] تسلمْ " ، وفي الثاني " لا تدنُ من الأسد [ إنْ تدنُ ] يأكلْك " ، ويساعد على هذا التقدير قيام القرينة المعنوية فلا داعي للتمسّك باشتراط تقدير " لا " الناهية في جملة الشرط – إذا وُجدت القرينة المعنوية – كما لم يشترطوا تقدير أدوات الطلب الأخرى ؛ نحو " أيْنَ بيتك أزرْك ؟ " و" ألا تنزلُ عندنا تصبْ خيراً " و " ليتَ لي مالاً أنفقْ منه ".
كما أنَّ " لا " الناهية ستتحول عن أصلها بدخول " إنْ " الشرطية عليها وستصبح نافية .
ومن هنا ندرك سبب اختيار أكثر النحويين المذهب الثالث في عامل الجزم، وهو شرط مقدر ، كما ندرك سبب قول كثير منهم أن يكون تقديره بعد الطلب ؛ قال السيرافي : " ولفظ الأمر والاستفهام لا يدل على هذا المعنى ، والذي يكشفه الشرط ، فوجب تقديره بعد هذه الأشياء "(86) .
لذا فالرأي هو جواز الجزم فيما ورد من النصوص على البدلية وعلى الجزاء .
فإذا كانوا قد أجازوا الجزم في النصوص التي وردت وخرَّجوه على البدلية، فلم لا يجيزون القياس على تلك النصوص ؟
وإذا أجازوا القياس على تلك النصوص ، وخرَّجوه على البدلية أليس من الأولى أنْ يُجاز على الجزاء ما دامت القرائن تبين المعنى ؟! أليس من الأولى أنْ نعود إلى رأي الكسائي الذي يُجيزه على الجواب ؟وبينَ المعنيينِ فرقٌ بيّنٌ .
وليس حمل قراءة الحسن على ما ذهب إليه الجمهور - على جودته - بمانع من أن تحمل على ما ذهب إليه الكسائي ؛ فهو أيضاً جيّد في أداء المعنى .
وإجازة هذا على قلة، وللقادر على التمييز بين دلالات التراكيب، ولا مانع عندئذ من الحمل عليه عندما يكون الحمل عليه أولى .
المفضلات