أحمد السعيدي
09-26-2006, 10:37 AM
هذه رسالة وصلتني من صديق وهي كما يقول منقولة
ما رأيكم ؟ وهل تجاوز العروض الرقمي المشكلات المطروحة
علم العروض.. لماذا لا يغادر خيمة الخليل؟!
عبدالغني المقرمي
جلست إلى شاعر صديق اقتصر في نتاجه على نمط قصيدة النثر، رغم براعته في اللغة نحوها وصرفها وبلاغتها، وحين سألته: لم لا تغادر هذا النمط الموسيقى إلى أنماط أخرى وأنت قادر على ذلك؟ قال: لقد حاولت قبلا لكنني كنت أقع في أخطاء عروضية، كثيرا ما تسبب لي الإحراج بل لقد اعتبرت هذه الأخطاء بثورا وثآليل تشوه وجه النص، فيظهر دميما قبيحاً، ومن ثم فإن قصيدة النثر هي الفضاء الأوسع للهروب من تلك التشوهات.
كنت أعلم يقينا أن صديقي هذا لا يقول مثل هذا الكلام هروبا، فقلت له: ولكنك قادر على تجاوز هذه الأخطاء بدراسة علم العروض، فهزّ رأسه موافقاً، ثم اتصل بي في اليوم الثاني يسألني عن كتاب ينفع في هذا الجانب، فقلت له: أي كتاب تلقاه فهو مفيد، فمن الصعب تحديد كتاب بعينه خاصة مع ندرة وجود كتب العروض في المكتبات اليمنية، وحين التقينا ثانية كان قد اشترى كتاب (ميزان الذهب في صناعة شعر العرب) للأستاذ (أحمد الهاشمي)، فقال لي متندرا: هل هذا هو علم العروض الذي نصحتني بتعلمه؟ قلت له نعم. قال: يخيل إليّ وأنا أحاول قراءته أنني في دورة تدريبية في علم من علوم البادية أتعلم منها صناعة الخيام، وضروب سير الإبل، و،،و،، لا أمام علم يدرس موسيقية اللغة، فأدركت مغزى قوله هذا، وكان معنا شاعر معروف، فنصح صاحبي بأن يبحث عن كتاب (علم العروض) للدكتور (عبدالعزيز عتيق)، فهو مؤلف عصري متمكن في هذا المجال، ولأن صاحبي مسكون بهذا الموضوع، فقد ذهب من غده باحثا عن عبدالعزيز عتيق حتى لقيه، ولم يلبث بعد أيام أن اتصل بي قائلا: ليس ثمة فرق بين الكتابين، فكلاهما محشو بالمصطلحات البدوية، وكلاهما يسلك نفس الخطاب التقعيدي والتعقيدي، عندها تذكرت أن الناقد السوري الدكتور (كمال أبو ديب)، أصدر كتابا في هذا الشأن، بعنوان (في البنية الإيقاعية للشعر العربي: نحو بديل جذري لعروض الخليل) فتنفست الصعداء، واتصلت بصاحبي للتو، وأخبرته بالأمر، وأصبح من المسلمات لكلينا أن كتاب (أبو ديب) لاشك سيتجاوز تلك العقبة إلى نوع من التبسيط، وسعى كل منا في البحث عن الكتاب حتى عثرت عليه في إحدى المكتبات العامة، وكانت المفاجأة أن كتاب (أبو ديب) يساوي ثلاثة أضعاف كتاب (عبدالعزيز عتيق)، وهو وإن خلا بعض الشيء من تلك المصطلحات الخليلية القاتلة إلا أنه محشو من الغلاف إلى الغلاف بمصطلحات الإيقاع الغربية، إضافة إلى المصطلحات الرياضية، بل أن (أبو ديب) بمقارناته التي عقدها بين الإيقاع العربي، وصنوف من الإيقاعات الغربية قد جعل من كتابه مادة علمية صرفة لا يجيد التعامل معها إلا المتخصصون، وبذلك نأى عن بساطة العرض إلى نوع من استعراض العضلات البحثية التي لا يخرج منها القارئ العربي بطائل.
وظلت مشكلة صاحبي قائمة.....
وستظل مستمرة لأن لب المشكلة هو أن كل علوم العربية توالت فيها محاولات التجديد إلا علم (العروض) الذي ظل بملامحه البدوية ومصطلحاته الصحراوية وكأنه فزاعة في وجه كثيرين من الشعراء الشباب الذين يلجأون إلى ذلك المركب السهل في التعاطي مع الشعر بعيدا عن (وجع الدماغ) في استكناه علم جامد، غليظ الملامح، لا يزال ناصبا خيمته في عرض الصحراء، في عصر تطورت فيه كل العلوم، وخضعت لمشارط النقد والتجديد.
العروض والدرس اللغوي
يمكن القول أن مشكلة علم العروض ألقت بظلالها حتى في أروقة الجامعات والكليات المتخصصة، فالمحاضرات التي يتلقاها الطلاب الجامعيون في علم العروض لا تقدم جديدا في هذا الشأن، فهي نمطية تقليدية، لا تغادر خيمة الخليل، بل والأدهى من ذلك والأمر أن بعض الكليات تعمد إلى تدريس هذه المادة (الثقيلة) مجتزأة في فصل دراسي واحد، وهذا الاختزال الزمني يعني تغاضيا عن أهم أساسيات هذا العلم والدخول مباشرة إلى بحور الشعر، فيواجه الطالب صعوبات الزحافات والعلل، ولا يلبث أن يبدي تذمرا بهذا العلم ووحشة منه، ويصدق فيه قول الشاعر:
ألقاه في اليم مكتوفا وقال له
إياك إياكَ أن تبتلَّ بالماءِ
عروض جديد
الدعوة إلى تجديد هذا العلم أصبحت ضرورة ملحة، ولنا أن نتمثل في عملية التجديد هذه كثيرا من المؤلفات اللغوية في الفروع الأخرى، وأبرزها كتاب (تجديد النحو) للدكتور (شوقي ضيف) رحمه الله، من خلال: إعادة رسم المصطلحات، فعلم العروض يدرس الإمكانات الإيقاعية والموسيقية للغة، ومن ثم فإنه يمكن استبدال كافة مصطلحاته الغريبة النابعة من قلب الصحراء مثل (الوتد- السبب- الصلم- القبض- الوقص) بمصطلحات تنبع من مجال الموسيقى، فمن المؤكد أن الخليل لم يكن يقصد بمصطلحاته تلك إلا رصد الظاهرة الموسيقية على أن يعيد النظر في المصطلح فيما بعد، ولعل وقته المكتض بالمشاغل لم يسعفه إلى ذلك.
كما أن الدرس العروضي يحتاج أيضا إلى إعادة ترتيب، وتبويب بتقديم الأساسيات على صلب المادة والتنقل بين فروع هذا العلم على أساس علمي بالانتقال من البسيط إلى المركب، ومن السهل إلى الصعب، وإعادة المتماثلات إلى نسق واحد بدلا من التفريع الممل، فالزحاف الذي يصل إلى قرابة العشرين نوعا يمكن إعادته إلى ثلاثة أنواع فقط، وكذا علل الزيادة والنقصان، وكذا بحور الشعر، وخاصة بحري (الرجز)، و(الكامل)، وكذا بحري (الهزج) و(مجزوء الوافر).
كما يحتاج هذا العلم إلى حذف كثير من أبوابه التي أوجدها الثراء العلمي في عصر الخليل وهو عصر العلماء والتي لم نعد بحاجة إليها، ومن ذلك تلك البحور المعقدة التي لم ترد لها نماذج معززة بطول مسيرة الشعر العربي، مثل استخدام التفعيلة العروضية (فاعلن) ثماني مرات: أربع في صدر البيت، وأربع في عجزه، فكل كتب العروض تقريبا تورد لهذا القالب الموسيقي شاهدا واحد هو:
جاءنا عامرُ صالحا سالما
بعدما كان ماكان من عامرِ
ويستدعي الأمر حذف بعض البحور الخليلية التي لا تقوم على انسياب إيقاعي واضح، والتي كتبت قصائد نادرة عليها كشواهد لها ليس إلا، ويندر وجودها في الشعر العربي مثل بحر (المنسرح) الذي خلا منه ديوان الشاعر (أحمد شوقي)، وكثير من عمالقة الشعر العربي لصعوبته، وعدم انسيابه الموسيقي.
ولا يقتصر الأمر في كل ذلك على علم العروض بل يتعداه إلى علم (القافية) فهو الآخر محشو بالمصطلحات والألفاظ الغريبة، والتفريعات المملة.
ولا نجافي الحقيقة حين نقول أن علم العروض علم سهل، وأن كثيرين من الشعراء نظموا قصائدهم دون الإطلاع عليه لأنه علم كامن في فطرة القصيدة العربية لكن الدرس العروضي هو الذي عقد المسألة ونأى بها عن فضاء الموسيقى الواسع إلى أسفار بالية حشرت فيها المصطلحات، وتفرّعت فيها المادة حتى أصبحت أشبه بمتاهة في ليل عابس.
إن التنادي إلى تجديد هذا العلم الحيوي لا يحمل في طياته أي إساءة أو تنكر لجهود الخليل بن أحمد الفراهيدي، ولكنه دعوة صادقة إلى عرض هذا العلم بطبق عصري يلائم الزمان والمكان، وتنقيته من كل الحشائش الضارة التي غطت على جمالياته، وإزالة كل الحواجز والسدود التي وقفت عائقا أمام كثير الشباب من محبي الخليل وعلمه الرائع هذا.
ما رأيكم ؟ وهل تجاوز العروض الرقمي المشكلات المطروحة
علم العروض.. لماذا لا يغادر خيمة الخليل؟!
عبدالغني المقرمي
جلست إلى شاعر صديق اقتصر في نتاجه على نمط قصيدة النثر، رغم براعته في اللغة نحوها وصرفها وبلاغتها، وحين سألته: لم لا تغادر هذا النمط الموسيقى إلى أنماط أخرى وأنت قادر على ذلك؟ قال: لقد حاولت قبلا لكنني كنت أقع في أخطاء عروضية، كثيرا ما تسبب لي الإحراج بل لقد اعتبرت هذه الأخطاء بثورا وثآليل تشوه وجه النص، فيظهر دميما قبيحاً، ومن ثم فإن قصيدة النثر هي الفضاء الأوسع للهروب من تلك التشوهات.
كنت أعلم يقينا أن صديقي هذا لا يقول مثل هذا الكلام هروبا، فقلت له: ولكنك قادر على تجاوز هذه الأخطاء بدراسة علم العروض، فهزّ رأسه موافقاً، ثم اتصل بي في اليوم الثاني يسألني عن كتاب ينفع في هذا الجانب، فقلت له: أي كتاب تلقاه فهو مفيد، فمن الصعب تحديد كتاب بعينه خاصة مع ندرة وجود كتب العروض في المكتبات اليمنية، وحين التقينا ثانية كان قد اشترى كتاب (ميزان الذهب في صناعة شعر العرب) للأستاذ (أحمد الهاشمي)، فقال لي متندرا: هل هذا هو علم العروض الذي نصحتني بتعلمه؟ قلت له نعم. قال: يخيل إليّ وأنا أحاول قراءته أنني في دورة تدريبية في علم من علوم البادية أتعلم منها صناعة الخيام، وضروب سير الإبل، و،،و،، لا أمام علم يدرس موسيقية اللغة، فأدركت مغزى قوله هذا، وكان معنا شاعر معروف، فنصح صاحبي بأن يبحث عن كتاب (علم العروض) للدكتور (عبدالعزيز عتيق)، فهو مؤلف عصري متمكن في هذا المجال، ولأن صاحبي مسكون بهذا الموضوع، فقد ذهب من غده باحثا عن عبدالعزيز عتيق حتى لقيه، ولم يلبث بعد أيام أن اتصل بي قائلا: ليس ثمة فرق بين الكتابين، فكلاهما محشو بالمصطلحات البدوية، وكلاهما يسلك نفس الخطاب التقعيدي والتعقيدي، عندها تذكرت أن الناقد السوري الدكتور (كمال أبو ديب)، أصدر كتابا في هذا الشأن، بعنوان (في البنية الإيقاعية للشعر العربي: نحو بديل جذري لعروض الخليل) فتنفست الصعداء، واتصلت بصاحبي للتو، وأخبرته بالأمر، وأصبح من المسلمات لكلينا أن كتاب (أبو ديب) لاشك سيتجاوز تلك العقبة إلى نوع من التبسيط، وسعى كل منا في البحث عن الكتاب حتى عثرت عليه في إحدى المكتبات العامة، وكانت المفاجأة أن كتاب (أبو ديب) يساوي ثلاثة أضعاف كتاب (عبدالعزيز عتيق)، وهو وإن خلا بعض الشيء من تلك المصطلحات الخليلية القاتلة إلا أنه محشو من الغلاف إلى الغلاف بمصطلحات الإيقاع الغربية، إضافة إلى المصطلحات الرياضية، بل أن (أبو ديب) بمقارناته التي عقدها بين الإيقاع العربي، وصنوف من الإيقاعات الغربية قد جعل من كتابه مادة علمية صرفة لا يجيد التعامل معها إلا المتخصصون، وبذلك نأى عن بساطة العرض إلى نوع من استعراض العضلات البحثية التي لا يخرج منها القارئ العربي بطائل.
وظلت مشكلة صاحبي قائمة.....
وستظل مستمرة لأن لب المشكلة هو أن كل علوم العربية توالت فيها محاولات التجديد إلا علم (العروض) الذي ظل بملامحه البدوية ومصطلحاته الصحراوية وكأنه فزاعة في وجه كثيرين من الشعراء الشباب الذين يلجأون إلى ذلك المركب السهل في التعاطي مع الشعر بعيدا عن (وجع الدماغ) في استكناه علم جامد، غليظ الملامح، لا يزال ناصبا خيمته في عرض الصحراء، في عصر تطورت فيه كل العلوم، وخضعت لمشارط النقد والتجديد.
العروض والدرس اللغوي
يمكن القول أن مشكلة علم العروض ألقت بظلالها حتى في أروقة الجامعات والكليات المتخصصة، فالمحاضرات التي يتلقاها الطلاب الجامعيون في علم العروض لا تقدم جديدا في هذا الشأن، فهي نمطية تقليدية، لا تغادر خيمة الخليل، بل والأدهى من ذلك والأمر أن بعض الكليات تعمد إلى تدريس هذه المادة (الثقيلة) مجتزأة في فصل دراسي واحد، وهذا الاختزال الزمني يعني تغاضيا عن أهم أساسيات هذا العلم والدخول مباشرة إلى بحور الشعر، فيواجه الطالب صعوبات الزحافات والعلل، ولا يلبث أن يبدي تذمرا بهذا العلم ووحشة منه، ويصدق فيه قول الشاعر:
ألقاه في اليم مكتوفا وقال له
إياك إياكَ أن تبتلَّ بالماءِ
عروض جديد
الدعوة إلى تجديد هذا العلم أصبحت ضرورة ملحة، ولنا أن نتمثل في عملية التجديد هذه كثيرا من المؤلفات اللغوية في الفروع الأخرى، وأبرزها كتاب (تجديد النحو) للدكتور (شوقي ضيف) رحمه الله، من خلال: إعادة رسم المصطلحات، فعلم العروض يدرس الإمكانات الإيقاعية والموسيقية للغة، ومن ثم فإنه يمكن استبدال كافة مصطلحاته الغريبة النابعة من قلب الصحراء مثل (الوتد- السبب- الصلم- القبض- الوقص) بمصطلحات تنبع من مجال الموسيقى، فمن المؤكد أن الخليل لم يكن يقصد بمصطلحاته تلك إلا رصد الظاهرة الموسيقية على أن يعيد النظر في المصطلح فيما بعد، ولعل وقته المكتض بالمشاغل لم يسعفه إلى ذلك.
كما أن الدرس العروضي يحتاج أيضا إلى إعادة ترتيب، وتبويب بتقديم الأساسيات على صلب المادة والتنقل بين فروع هذا العلم على أساس علمي بالانتقال من البسيط إلى المركب، ومن السهل إلى الصعب، وإعادة المتماثلات إلى نسق واحد بدلا من التفريع الممل، فالزحاف الذي يصل إلى قرابة العشرين نوعا يمكن إعادته إلى ثلاثة أنواع فقط، وكذا علل الزيادة والنقصان، وكذا بحور الشعر، وخاصة بحري (الرجز)، و(الكامل)، وكذا بحري (الهزج) و(مجزوء الوافر).
كما يحتاج هذا العلم إلى حذف كثير من أبوابه التي أوجدها الثراء العلمي في عصر الخليل وهو عصر العلماء والتي لم نعد بحاجة إليها، ومن ذلك تلك البحور المعقدة التي لم ترد لها نماذج معززة بطول مسيرة الشعر العربي، مثل استخدام التفعيلة العروضية (فاعلن) ثماني مرات: أربع في صدر البيت، وأربع في عجزه، فكل كتب العروض تقريبا تورد لهذا القالب الموسيقي شاهدا واحد هو:
جاءنا عامرُ صالحا سالما
بعدما كان ماكان من عامرِ
ويستدعي الأمر حذف بعض البحور الخليلية التي لا تقوم على انسياب إيقاعي واضح، والتي كتبت قصائد نادرة عليها كشواهد لها ليس إلا، ويندر وجودها في الشعر العربي مثل بحر (المنسرح) الذي خلا منه ديوان الشاعر (أحمد شوقي)، وكثير من عمالقة الشعر العربي لصعوبته، وعدم انسيابه الموسيقي.
ولا يقتصر الأمر في كل ذلك على علم العروض بل يتعداه إلى علم (القافية) فهو الآخر محشو بالمصطلحات والألفاظ الغريبة، والتفريعات المملة.
ولا نجافي الحقيقة حين نقول أن علم العروض علم سهل، وأن كثيرين من الشعراء نظموا قصائدهم دون الإطلاع عليه لأنه علم كامن في فطرة القصيدة العربية لكن الدرس العروضي هو الذي عقد المسألة ونأى بها عن فضاء الموسيقى الواسع إلى أسفار بالية حشرت فيها المصطلحات، وتفرّعت فيها المادة حتى أصبحت أشبه بمتاهة في ليل عابس.
إن التنادي إلى تجديد هذا العلم الحيوي لا يحمل في طياته أي إساءة أو تنكر لجهود الخليل بن أحمد الفراهيدي، ولكنه دعوة صادقة إلى عرض هذا العلم بطبق عصري يلائم الزمان والمكان، وتنقيته من كل الحشائش الضارة التي غطت على جمالياته، وإزالة كل الحواجز والسدود التي وقفت عائقا أمام كثير الشباب من محبي الخليل وعلمه الرائع هذا.