خشان خشان
05-04-2015, 08:37 AM
http://majdoubabdelali.blogspot.com/search?updated-min=2014-01-01T00:00:00-08:00&updated-max=2015-01-01T00:00:00-08:00&max-results=18
"شعراء" آخر الزمان
بسم الله الرحمن الرحيم
"شعراء" آخر الزمان
(1)
من مظاهر انحطاط الأدب في هذا الزمان، وفي الشعر بصفة خاصة، أن بعض الناس يُمسي إنسانا عاديا، فيُصبح "شاعرا"، ينشر له الناشرون، وينوّه به الناقدون، ويتحدث عنه الصحافيون!!
هكذا، وبلا مقدمات، ولا مقومات، ولا معرفة بالقواعد الضرورية، ولا امتلاك للمعارف والأدوات اللازمة، يحلمُ أحدُهم أنه أصبح شاعرا-قلت: يَحْلُمُ، أيْ يرى في المنام- وعندما يستفيق من نومه، يعتقد أنه أصبح شاعرا بالفعل، فيمسك بقلمه، ويُبَسْمِل، ثُمّ يُخرْبش خربَشات على الورق، أيِّ ورق، وإن كان من نوع (كلينيكس)، بتشتيت كلمات على أسطر بطريقة عبثية، قد لا يجمعها معنى محسوس ولا تصوير معقول، وبلغة قد تَرِكّ إلى درجة من السخف لا يُطاق، فإذا "الدفقةُ الشعرية" قد تشكّلت، و"الإبداعُ" قد تَمّ، و"القصيدةُ" قد اكتملت. وقد تسمع، عن هذا الحالم المنتحل المُخَرْبِش، بعد أسابيع أو أشهر، أنه أصدر ديوانَه الأول، ثم بعد أسابيع أو أشهر أخرى، ديوانه الثاني، وهكذا، حتى تقرأ عنه، غدا أو بعد غد، أنه من كبار "الشعراء"!!
هذه الصورة الكاريكاتورية الساخرة تبين حقيقة ما بات عليه الإبداع الشعري في زماننا، حيث تسلط على الميدان مدعون حالمون منتحلون، ومنهم نصّابون محترفون، فبات بإمكان كلِّ من هب ودب أن يقول "الشعر"، ما دام الأمر لا يحتاج إلى معرفة، ولا يتطلب آلات، ولا يقتضي التزاما بقواعد وحدود ومعايير.
لقد بشّرت نابتةُ الحداثيِّين، منذ النصف الأول من القرن الماضي، بـ"شعر" لا يُحوج إلى أصل ولا إلى نسب ولا سلف، ولا يقتضي موهبة ولا دربة ولا مهارة، ولا يفرض احترام القواعد المقرّرَة في التعبير والبيان، ولا يشترط التقيُّدَ بقيود الصناعة وخصائصها ومتطلباتها. وها هي ذي البشرى اليوم تؤتي أكلها المرّ، بجائحات تجتاح المواهب والقرائح والأذواق، وبجدب يصيب الأمة العربية في علمها الأول، وهو الشعر، الذي لم يكن لها، في جاهليتها، علمٌ أصحّ منه، كما جاء في طبقات ابن سلام الجمحي.
وقد يسألني سائل أن آتيَ هنا ببعض الأمثلة من هذا الكلام الذي يسمونه "شعرا حديثا". وجوابي أن معظم ما يُنشر اليوم باسم الشعر الحديث هو من هذا الطراز، أمّا الاستثناءات فهي من القلة، بحيث لا تكاد تراها في هذا الخضمّ الهائج المائج من الإسفاف والرداءة والإنشاء الصبيانيّ.
لقد قوّض الحداثيّون المتطرفون صرحَ القريض، ومَسخوا السليقةَ العربية بما أحدثوا فيها من تشويهات وتحريفات، حتى بات حِمى الشعر مستباحا لمَنْ لا شغل له، ولكلِّ فاشل يبحث عن شيء يُخفي به فشله. وفي ركابِ هذا التقويض والمسخ والتزوير، نشط "نقاد آخر الزمان"، بين مُقرِّظ للتفاهة، ومنوِّه بالغثاثة، ورافعٍ للرداءة إلى قمة الإبداع.
لقد تمّ الانحرافُ عن الأصل السليقي، وإلغاءُ قواعد الصناعة وأدواتها وسائر مستلزماتها الأساسية المعرفية والفنية. وما هي إلا عقود معدوداتٌ حتى تحول هذا الانحرافُ، بفعلِ إيديولوجيا الهدم والمسخ والعبث، وبفعل وسائل الإعلام والطبع والنشر الهائلة، إلى أصل مؤصَّل، له شرعيّتُه التي لا تُدفع، وله منابرُه وأعلامه وإنتاجه الذي غزا الأذواق والأفكار، حتى غدا جزءا من الغزو الثقافي والأدبي والفني، الذي عمّ أمتنا العربية الإسلامية، وفي قلبها ناشئةُ الشباب، في المدارس والجامعات.
وفي الدراسة العميقة والشاملة للباحثة البريطانية (فرنسيس ستونور ساندرز)، التي نشرتها، سنة 1999، بعنوان (من يؤدي أجر الزّمّار؟ (سي.أي.يي) والحرب الثقافية الباردة) (Who Paid the piper? CIA and the Cultural Cold word)-
في هذه الدراسة الأكاديمية المتميزة فضحٌ، بالأسماء والأرقام والتواريخ، لسياسات الغزو الثقافي والأدبي والفني، التي كانت تتبعها الولايات المتحدة، معتمدة أساسا على ذراعها الاستخباراتي، المشهور اختصارا بـ(CIA). وفي هذه الدراسة، يظهر أن موجة الحداثية التي اجتاحت أمتنا منذ نهاية النصف الأول من القرن الماضي، وخاصة في مضمار الفنون والآداب، إنما كانت موجة مصنوعة وموجهة، تكمن وراءها أيدي خفية تدير خطة مدبرة، هدفها إخضاع الأمم والأفكار والمشاعر والأذواق.
(2)
كلامٌ مبتدَع سخيفٌ يسوِّقُه منشِئوه وشركاؤهم في المسخ والتزوير والتخريب الحداثي على أنه إبداعٌ شعري حديث، لكنه "شعر" بغير قراء، إلا من ألجأته الضرورةُ أو كان مُكرَها وقلبُه كاره، وصدرُه ضائق، وذوقه عائف.
مَن يقرأ اليوم لهؤلاء "الشعراء" المنتحِلين المزورين؟
كم يبلغ عدد مبيعات ما يسمى بـ"دواوين"
هؤلاء العابثين؟
وهل استطاعوا أن يفرضوا بدعتهم على الذائقة العربية؟
وهل تجد من الناشئة من يحفظ شيئا من "دواوينهم"؟
وهل تجد لهم ذكرا خارج مختبرات الفحص والدرس والتقويم؟
وهل هم موجودون إلا بالمناسبات والأمسيات والحفلات-على طريقةِ مهرجانات التخدير-التي يتم إخراجها على صورة تسلط الأضواء على المجاهيل، وتُجمّل وجه المقبوحين، وتسعى بكل جهد لتركز في العقول والقلوب والأذواق أن "الشعر الحداثي" قضاء وقدر، وما علينا إلا أن نقبل به، راضين أو كارهين، وإن كنا نجد صعوبات جمةً في هضمه والاقتناع برؤاه ومقولاته واستشرافاته، وأطروحاتِ زعمائه ورعاته والذائدين عن حماه؟
في جملة، لقد جمعت هذه "البدعة" الحداثية التي يسمونها "شعرا حديثا" كلَّ الصفات والخصائص والأسباب، التي تجعلها بدعة منفرة، وعملا لا يمكن أن يقبل عليه أحد، إلا من كان مِن العصابة، أو تدفعه إلى التعاطف معها مصلحةٌ من المصالح، العاجلة أو الآجلة. وأذكر أن وصف "البدعة" ليس من عندي، وإنما اقتبسته من نازك الملائكة، التي استعملته لإنكار التجاوزات والتحريفات والرداءات التي تردّت فيها صناعةُ الشعر باسم "قصيدة النثر"، أو "النثيرة"، أو "الشعر المنثور"، أو غيرها من الأسماء التي صنعها النقد الحداثي، وروج لها نقادُ آخر الزمان على أوسع نطاق.
"أنقذونا مِن هذا الشعر"، زفرةٌ لم يطق أن يحبسها في صدره طويلا واحدٌ من أبناء البيت الحداثي اللاديني، ورأسٌ من رؤوس الشعر الحداثي، وهو محمود درويش. زفرةٌ تمثل شهادةَ (شاهد من أهلها) على الحضيض الذي وصل إليه الشعر في ثمانينيات القرن الماضي.
أما اليوم، بعد أن عمّ البلاء وطَمّ، فيمكن أن نقول، بلا أدنى تردد، إن السيلَ قد تجاوز الزبى، بعد أن أصبح الميدان نهبا لكل بطّال لا يجد عملا مفيدا يشتغل به.
"شعر"-زعموا أنه حديث- لا يحمل أي رسالة، ولا له غرض مضموني محدد، وإنما هو لغو من الكلام يتبعه لغو، يقرؤه اللاغون من نقاد آخر الزمان-وهم أعضاء في العصابة الحداثية- ويحللونه ويقدمونه على أنه "شعر" بديع، يتميز بكذا وكذا من الصفات، ويرمي إلى كذا وكذا من المعاني والغايات، إلى آخر ما نقرؤه من لغو وعبث في "نقد" نقاد آخر الزمان، ليس لهم في ذلك من مستند ولا أصل ولا معيار إلا أنفسهم وأهواؤهم وما يحفظونه من آراء أساتذتهم في التزوير والتشويه والتخريب.
"شعر"-زعموا أنه حداثي- خال من أي تشكيل فني بديع، يفتقر إلى مقومات التصوير الشعري الجميل. وإنما هي مفردات مضمومة إلى مفردات، في تشكيل عبثي، ونظام لا يقوم على أي أساس إلا هوى النفس وطيشها ونزقها وادعاءها وتطاولها وتجرؤها.
"شعر"-زعموا أنه إبداع- متحلِّل من كل قواعد الصناعة وضوابطها ولوازمها، وفي مقدمة هذه اللوازم، التي لا يكون الشعر شعرا إلا بتوافرها، الوزنُ. فقد ردد نقاد آخر الزمان ما حفظوه من انحرافات معلميهم على أنه "الحقائق" التي ما بعدها حقائق، وقالوا إن الوزن ليس من لوازم الإبداع الشعري العربي، وطعنوا في تراث عمره أكثر من أربعة عشر قرنا، ورفضوه، وشككوا في أصوله ورسوخ أساسه ومصداقيته التي ما تزال تزكيها وتثبتها وتؤكدها قرون طويلة من الممارسة الشعرية العالية، ودواوين ما لا يحصى من الشعراء، بمختلف مستوياتهم.
وهل يبقى لنا من شعر بعد سقوط أعمدته الثلاثة: الرسالة والغرض، والتصوير والبيان، والوزن والتطريب والتنغيم؟
وهل يبقى لنا، بعد إلغاء هذه الأعمدة، شيءٌ سوى الخواء والجدب والبوار؟
هل يكون شعرٌ بلا وزن، ولا مضمون، ولا تصوير، إلا عند الأدعياء من عصابة "القرد الفنان ونقاد آخر الزمان"؟
هل يكون شعرٌ بلا قراء؟
هل يكون شعرٌ لا يُبلِّغ شيئا، ولا يحرك شيئا، ولا يساوي شيئا؟
أين هي في هذا "الشعر" الدعيّ الشواردُ من التشبيهات والاستعارات والكنايات؟
أين هي في هذا "الشعر" المزور السوائرُ من الحكم والأمثال؟
أين هي في هذا "الشعر" اللقيطِ النوادرُ من الصور والمجازات والتخييلات؟
أين هي في هذا "الشعر" المنبوذ لذاذاتُ الأوزان السائغة، والأنغام الساحرة، والألحان الفاتنة، والأجراس الجاذبة المطربة؟
أين هي في هذا "الشعر" المسخ الروائعُ من التعبيرات الشفيفة، والمفردات العذبة، والأسلوب السهل الممتنع الآسر؟
أين هو الشعرُ في هذا المخلوق المشوه، الذي يسمونه شعرا حداثيا؟
لقد بات هذا "الشعر الحداثي" المبتدَع اليوم بلا قراء، بل بات "أصلا تجاريا" مسجَّلا لمصلحة عصابات تحتكر فينا الحديث باسم الثقافة والفن والإبداع، لا تنتج إلا الرداءة والغثاثة والإسفاف.
وبعد، فما أسهلَ أن تُخضع أمةً بعد أن يتمّ لك إفسادُ ذوقها، وتمييع أخلاقها، وتشويه مشاعرها، وتزوير وعواطفها، وإضعاف لغتها، تفكيرا وتعبيرا وإبداعا.
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.
"شعراء" آخر الزمان
بسم الله الرحمن الرحيم
"شعراء" آخر الزمان
(1)
من مظاهر انحطاط الأدب في هذا الزمان، وفي الشعر بصفة خاصة، أن بعض الناس يُمسي إنسانا عاديا، فيُصبح "شاعرا"، ينشر له الناشرون، وينوّه به الناقدون، ويتحدث عنه الصحافيون!!
هكذا، وبلا مقدمات، ولا مقومات، ولا معرفة بالقواعد الضرورية، ولا امتلاك للمعارف والأدوات اللازمة، يحلمُ أحدُهم أنه أصبح شاعرا-قلت: يَحْلُمُ، أيْ يرى في المنام- وعندما يستفيق من نومه، يعتقد أنه أصبح شاعرا بالفعل، فيمسك بقلمه، ويُبَسْمِل، ثُمّ يُخرْبش خربَشات على الورق، أيِّ ورق، وإن كان من نوع (كلينيكس)، بتشتيت كلمات على أسطر بطريقة عبثية، قد لا يجمعها معنى محسوس ولا تصوير معقول، وبلغة قد تَرِكّ إلى درجة من السخف لا يُطاق، فإذا "الدفقةُ الشعرية" قد تشكّلت، و"الإبداعُ" قد تَمّ، و"القصيدةُ" قد اكتملت. وقد تسمع، عن هذا الحالم المنتحل المُخَرْبِش، بعد أسابيع أو أشهر، أنه أصدر ديوانَه الأول، ثم بعد أسابيع أو أشهر أخرى، ديوانه الثاني، وهكذا، حتى تقرأ عنه، غدا أو بعد غد، أنه من كبار "الشعراء"!!
هذه الصورة الكاريكاتورية الساخرة تبين حقيقة ما بات عليه الإبداع الشعري في زماننا، حيث تسلط على الميدان مدعون حالمون منتحلون، ومنهم نصّابون محترفون، فبات بإمكان كلِّ من هب ودب أن يقول "الشعر"، ما دام الأمر لا يحتاج إلى معرفة، ولا يتطلب آلات، ولا يقتضي التزاما بقواعد وحدود ومعايير.
لقد بشّرت نابتةُ الحداثيِّين، منذ النصف الأول من القرن الماضي، بـ"شعر" لا يُحوج إلى أصل ولا إلى نسب ولا سلف، ولا يقتضي موهبة ولا دربة ولا مهارة، ولا يفرض احترام القواعد المقرّرَة في التعبير والبيان، ولا يشترط التقيُّدَ بقيود الصناعة وخصائصها ومتطلباتها. وها هي ذي البشرى اليوم تؤتي أكلها المرّ، بجائحات تجتاح المواهب والقرائح والأذواق، وبجدب يصيب الأمة العربية في علمها الأول، وهو الشعر، الذي لم يكن لها، في جاهليتها، علمٌ أصحّ منه، كما جاء في طبقات ابن سلام الجمحي.
وقد يسألني سائل أن آتيَ هنا ببعض الأمثلة من هذا الكلام الذي يسمونه "شعرا حديثا". وجوابي أن معظم ما يُنشر اليوم باسم الشعر الحديث هو من هذا الطراز، أمّا الاستثناءات فهي من القلة، بحيث لا تكاد تراها في هذا الخضمّ الهائج المائج من الإسفاف والرداءة والإنشاء الصبيانيّ.
لقد قوّض الحداثيّون المتطرفون صرحَ القريض، ومَسخوا السليقةَ العربية بما أحدثوا فيها من تشويهات وتحريفات، حتى بات حِمى الشعر مستباحا لمَنْ لا شغل له، ولكلِّ فاشل يبحث عن شيء يُخفي به فشله. وفي ركابِ هذا التقويض والمسخ والتزوير، نشط "نقاد آخر الزمان"، بين مُقرِّظ للتفاهة، ومنوِّه بالغثاثة، ورافعٍ للرداءة إلى قمة الإبداع.
لقد تمّ الانحرافُ عن الأصل السليقي، وإلغاءُ قواعد الصناعة وأدواتها وسائر مستلزماتها الأساسية المعرفية والفنية. وما هي إلا عقود معدوداتٌ حتى تحول هذا الانحرافُ، بفعلِ إيديولوجيا الهدم والمسخ والعبث، وبفعل وسائل الإعلام والطبع والنشر الهائلة، إلى أصل مؤصَّل، له شرعيّتُه التي لا تُدفع، وله منابرُه وأعلامه وإنتاجه الذي غزا الأذواق والأفكار، حتى غدا جزءا من الغزو الثقافي والأدبي والفني، الذي عمّ أمتنا العربية الإسلامية، وفي قلبها ناشئةُ الشباب، في المدارس والجامعات.
وفي الدراسة العميقة والشاملة للباحثة البريطانية (فرنسيس ستونور ساندرز)، التي نشرتها، سنة 1999، بعنوان (من يؤدي أجر الزّمّار؟ (سي.أي.يي) والحرب الثقافية الباردة) (Who Paid the piper? CIA and the Cultural Cold word)-
في هذه الدراسة الأكاديمية المتميزة فضحٌ، بالأسماء والأرقام والتواريخ، لسياسات الغزو الثقافي والأدبي والفني، التي كانت تتبعها الولايات المتحدة، معتمدة أساسا على ذراعها الاستخباراتي، المشهور اختصارا بـ(CIA). وفي هذه الدراسة، يظهر أن موجة الحداثية التي اجتاحت أمتنا منذ نهاية النصف الأول من القرن الماضي، وخاصة في مضمار الفنون والآداب، إنما كانت موجة مصنوعة وموجهة، تكمن وراءها أيدي خفية تدير خطة مدبرة، هدفها إخضاع الأمم والأفكار والمشاعر والأذواق.
(2)
كلامٌ مبتدَع سخيفٌ يسوِّقُه منشِئوه وشركاؤهم في المسخ والتزوير والتخريب الحداثي على أنه إبداعٌ شعري حديث، لكنه "شعر" بغير قراء، إلا من ألجأته الضرورةُ أو كان مُكرَها وقلبُه كاره، وصدرُه ضائق، وذوقه عائف.
مَن يقرأ اليوم لهؤلاء "الشعراء" المنتحِلين المزورين؟
كم يبلغ عدد مبيعات ما يسمى بـ"دواوين"
هؤلاء العابثين؟
وهل استطاعوا أن يفرضوا بدعتهم على الذائقة العربية؟
وهل تجد من الناشئة من يحفظ شيئا من "دواوينهم"؟
وهل تجد لهم ذكرا خارج مختبرات الفحص والدرس والتقويم؟
وهل هم موجودون إلا بالمناسبات والأمسيات والحفلات-على طريقةِ مهرجانات التخدير-التي يتم إخراجها على صورة تسلط الأضواء على المجاهيل، وتُجمّل وجه المقبوحين، وتسعى بكل جهد لتركز في العقول والقلوب والأذواق أن "الشعر الحداثي" قضاء وقدر، وما علينا إلا أن نقبل به، راضين أو كارهين، وإن كنا نجد صعوبات جمةً في هضمه والاقتناع برؤاه ومقولاته واستشرافاته، وأطروحاتِ زعمائه ورعاته والذائدين عن حماه؟
في جملة، لقد جمعت هذه "البدعة" الحداثية التي يسمونها "شعرا حديثا" كلَّ الصفات والخصائص والأسباب، التي تجعلها بدعة منفرة، وعملا لا يمكن أن يقبل عليه أحد، إلا من كان مِن العصابة، أو تدفعه إلى التعاطف معها مصلحةٌ من المصالح، العاجلة أو الآجلة. وأذكر أن وصف "البدعة" ليس من عندي، وإنما اقتبسته من نازك الملائكة، التي استعملته لإنكار التجاوزات والتحريفات والرداءات التي تردّت فيها صناعةُ الشعر باسم "قصيدة النثر"، أو "النثيرة"، أو "الشعر المنثور"، أو غيرها من الأسماء التي صنعها النقد الحداثي، وروج لها نقادُ آخر الزمان على أوسع نطاق.
"أنقذونا مِن هذا الشعر"، زفرةٌ لم يطق أن يحبسها في صدره طويلا واحدٌ من أبناء البيت الحداثي اللاديني، ورأسٌ من رؤوس الشعر الحداثي، وهو محمود درويش. زفرةٌ تمثل شهادةَ (شاهد من أهلها) على الحضيض الذي وصل إليه الشعر في ثمانينيات القرن الماضي.
أما اليوم، بعد أن عمّ البلاء وطَمّ، فيمكن أن نقول، بلا أدنى تردد، إن السيلَ قد تجاوز الزبى، بعد أن أصبح الميدان نهبا لكل بطّال لا يجد عملا مفيدا يشتغل به.
"شعر"-زعموا أنه حديث- لا يحمل أي رسالة، ولا له غرض مضموني محدد، وإنما هو لغو من الكلام يتبعه لغو، يقرؤه اللاغون من نقاد آخر الزمان-وهم أعضاء في العصابة الحداثية- ويحللونه ويقدمونه على أنه "شعر" بديع، يتميز بكذا وكذا من الصفات، ويرمي إلى كذا وكذا من المعاني والغايات، إلى آخر ما نقرؤه من لغو وعبث في "نقد" نقاد آخر الزمان، ليس لهم في ذلك من مستند ولا أصل ولا معيار إلا أنفسهم وأهواؤهم وما يحفظونه من آراء أساتذتهم في التزوير والتشويه والتخريب.
"شعر"-زعموا أنه حداثي- خال من أي تشكيل فني بديع، يفتقر إلى مقومات التصوير الشعري الجميل. وإنما هي مفردات مضمومة إلى مفردات، في تشكيل عبثي، ونظام لا يقوم على أي أساس إلا هوى النفس وطيشها ونزقها وادعاءها وتطاولها وتجرؤها.
"شعر"-زعموا أنه إبداع- متحلِّل من كل قواعد الصناعة وضوابطها ولوازمها، وفي مقدمة هذه اللوازم، التي لا يكون الشعر شعرا إلا بتوافرها، الوزنُ. فقد ردد نقاد آخر الزمان ما حفظوه من انحرافات معلميهم على أنه "الحقائق" التي ما بعدها حقائق، وقالوا إن الوزن ليس من لوازم الإبداع الشعري العربي، وطعنوا في تراث عمره أكثر من أربعة عشر قرنا، ورفضوه، وشككوا في أصوله ورسوخ أساسه ومصداقيته التي ما تزال تزكيها وتثبتها وتؤكدها قرون طويلة من الممارسة الشعرية العالية، ودواوين ما لا يحصى من الشعراء، بمختلف مستوياتهم.
وهل يبقى لنا من شعر بعد سقوط أعمدته الثلاثة: الرسالة والغرض، والتصوير والبيان، والوزن والتطريب والتنغيم؟
وهل يبقى لنا، بعد إلغاء هذه الأعمدة، شيءٌ سوى الخواء والجدب والبوار؟
هل يكون شعرٌ بلا وزن، ولا مضمون، ولا تصوير، إلا عند الأدعياء من عصابة "القرد الفنان ونقاد آخر الزمان"؟
هل يكون شعرٌ بلا قراء؟
هل يكون شعرٌ لا يُبلِّغ شيئا، ولا يحرك شيئا، ولا يساوي شيئا؟
أين هي في هذا "الشعر" الدعيّ الشواردُ من التشبيهات والاستعارات والكنايات؟
أين هي في هذا "الشعر" المزور السوائرُ من الحكم والأمثال؟
أين هي في هذا "الشعر" اللقيطِ النوادرُ من الصور والمجازات والتخييلات؟
أين هي في هذا "الشعر" المنبوذ لذاذاتُ الأوزان السائغة، والأنغام الساحرة، والألحان الفاتنة، والأجراس الجاذبة المطربة؟
أين هي في هذا "الشعر" المسخ الروائعُ من التعبيرات الشفيفة، والمفردات العذبة، والأسلوب السهل الممتنع الآسر؟
أين هو الشعرُ في هذا المخلوق المشوه، الذي يسمونه شعرا حداثيا؟
لقد بات هذا "الشعر الحداثي" المبتدَع اليوم بلا قراء، بل بات "أصلا تجاريا" مسجَّلا لمصلحة عصابات تحتكر فينا الحديث باسم الثقافة والفن والإبداع، لا تنتج إلا الرداءة والغثاثة والإسفاف.
وبعد، فما أسهلَ أن تُخضع أمةً بعد أن يتمّ لك إفسادُ ذوقها، وتمييع أخلاقها، وتشويه مشاعرها، وتزوير وعواطفها، وإضعاف لغتها، تفكيرا وتعبيرا وإبداعا.
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.