07-10-2005, 10:45 PM
المثقف العربي الحديث والمجتمع: تحليل أولي
طرح المسألة:
العلاقة بين المثقف العربي الحديث ومجتمعه هي بالطبع موضوع جدير بدراسة تاريخية مفصلة، وبتحليل بل تحليلات مطولة، غير أنني في هذا المقال سأقتصر على طرح الموضوع من زاوية العلاقة بين المثقف العربي الحديث بصفته "مبدعاً"، أي منتجاً لنتاجات فنية و أدبية، وبين المجتمع بصفته "متلقياً" لهذه النتاجات.
وفي نهاية هذا التحليل الأولي أريد أن أشرح تمييزاً أراه مهماً للغاية لمحلل الثقافة العربية المعاصرة بين مكونين أساسيين لهذه الثقافة وهما: "الثقافة السائدة" و"الثقافة المسيطرة".
ما يلفت انتباه المرء حين يناقش هذا المثقف الذي أتحدث عنه هو أنه غالباً ما يكون غير واع لواقعة هي في الحقيقة أساسية في وضعه وموضعه ألا وهي واقعة اغترابه وانفصاله شبه الكامل عن مجتمعه.
ناقشت مرة أحد الكتاب في قطر عربي أيديولوجيته الرسمية منذ أربعين عاماً ويزيد "تقدمية اشتراكية قومية"، وهذه الأيديولوجيا هي بعينها أيديولوجيا المثقفين النافذين في الصحف و التلفزيون والمسرح والسينما والأدب، وإن كان هذا لا يعني بتاتاً تبعيتهم الآلية للسلطة، إذ من مميزات السلطة في بلادنا على ما يبدو أنها عاجزة كلياً عن إنتاج مثقف موال لها بالمعنى الكامل للموالاة، فهي قد تنتج موظفين يكتبون في الصحف، ولكن هذه الكتابات تظل بعيدة عن كل قيمة فكرية أو فنية، والذي نراه هو وجود مثقف يعبر عن الأيديولوجيا الرسمية بمعناها الشامل المجرد ولكنه بعيد عن الدفاع عن التجسيد السياسي لها، بل كثيراً ما يكون معارضاً سياسياً لها، وفي معظم الحالات يكون في موقع المعارضة الموضوعية التي لم تنتقل لتكون معارضة مجسدة في برنامج سياسي بديل. فمن هذه الناحية قد تقول إنه معارض بالروح لا بالجسد، ولكنك إذا أخذت انسجامه الشامل مع الأيديولوجيا المسيطرة مع معارضته للأشخاص المتحكمين بالسلطة السياسية التي تجسدها يمكن لك أن تقول إنه معارض بالجسد لا بالروح!
قلت للكاتب المذكور: ألا ترى أنكم معشر المثقفين الحديثين مغتربون عن مجتمعكم اغتراباً جذرياً، وأن هذا الاغتراب انعكس في أدبكم فرأينا لغتكم تقطع مع لغة المجتمع الأهلي وكأنها لغة أجنبية بمفاهيمها وقيمها، ورأينا الشخصيات التي تظهر في قصصكم ورواياتكم ومسرحكم وأفلامكم شخصيات لا علاقة لها بالواقع، بل هي شخصيات مصطنعة زائفة تنبئ عن عجز بنيوي عندكم عن التقاط الواقع والتعبير عنه؟
أنكر صاحبي ما ذهبت إليه وزعم أن جل النتاج الأدبي والفني في ذلك البلد هو من النوع الواقعي، أي الذي يعكس الواقع وليس من النوع الذي يستورد الشكل مع المضمون وإن كانت الحروف التي يكتب بها عربية فكأنه "مسلسل تلفزيوني مدبلج"!
ضربت لصاحبي أمثلة كثيرة على الاصطناع في هذا النتاج: إن "علاقات الحب" التي لا بد منها في كل رواية ومسرحية وفيلم تكتب بلغة لا تستعمل في مجتمعنا، وتسيرها قيم غريبة عنه لا أريد بالمناسبة أن أعدها "قيماً لا أخلاقية" بل أريد ببساطة أن أعدها قيماً غير موجودة في مجتمعنا وتتحدث غير لغته المفهومة وإن كانت الكلمات عربية. بل قلت له إن استعمال فعل "أحب" كفعل لازم لوصف العلاقة العاطفية ليس من مألوف لغة المجتمع الأهلي الذي هو متعود أن يضع مفعولاً به لهذا الفعل، والمقصود غالباً به شيء آخر غير تلك العاطفة الرومانسية التي تصورها روايتنا وقصيدتنا الحديثة. (المجتمع الذي ولدت فيه يستعمل فعل "هوي" ويترك استعمال فعل "أحب" للمعاني غير المتعلقة بالعلاقة بين الجنسين).
وليس ذلك فحسب بل إن بعض الأشكال الفنية التي يحتفل بها المثقف العربي في البلد الذي أتكلم عنه أيما احتفال لا علاقة للمجتمع بها بتاتاً أو لا يكاد يكون له علاقة مثل "الفنون التشكيلية" كالرسم والنحت و المسرح (لا يذهب إلى المسرح إلا "المثقفون"، أما إن جئنا إلى المسرح الذي يعرض في التلفاز فالنوع "الكوميدي" منه هو وحده الذي له شعبية والمواطن مستعد أن يراه، وهو النوع الذي لا ينال من المثقف أي احترام، وهو بالفعل غالباً ما يكون مجرد تهريج سطحي بلا هدف ولا فائدة ولا جمال حقيقي).
وهذه الأشكال الفنية لم تنتج عن تطور طبيعي في الثقافة المحلية، بل نتجت عن استيراد كامل واستزراع في النسيج الاجتماعي الذي ظل منذ دخولها، أي منذ قرن وأكثر، يعدها جسماً غريباً لا يتعامل معه ولا يتبادل معه التأثير فهي "ثقافةٌ -جالية" (بتنوين التاء المربوطة في كلمة ثقافة ورفعها) كما أن المثقف نفسه يكاد يكون عضواً في جالية منعزلة لا تتبادل التأثير مع محيطها.
ومع كل ما تقدم فإن رواياتنا ومسلسلاتنا التلفزيونية ومسرحنا وأفلامنا التي كتبها هذا المثقف مليئة بشخصيات الرسام والمسرحي الذي يدخل في علاقات مع مجتمعه ويفهمه مجتمعه ويقدره، فكأنه حلم يقظة من أحلام هذا المثقف، ومع ذلك لنا أن نستغرب أن هذا النوع من الفن يسمى "واقعياً" ولا يشكك أحد في "واقعيته"!
قلت لصاحبي: ليت باحثاً اجتماعياً تجريبياً يدرس بشكل عياني لا بشكل نظري مجرد( أي بشكل معزز بالإحصاءات والطرق المألوفة في علم الاجتماع التجريبي "الإمبيريقي") مدى فهم الجماهير لهذه النتاجات الفنية وموقفها من المنتجين! وأنا أزعم أن هذه الدراسة ستدعم رأيي الذي استخلصته من ملاحظات واقعية لا أوهام فيها للوضع الفعلي لمجتمعنا.
وبناء على دراسات قديمة قام بها الفقير لله، ونشرت ذات يوم في كتاب صدر عام 1995 في بيروت بعنوان "حول الحب والاستلاب"، كنت قد رأيت أن هذه الأنواع الحديثة من الفن، بل الثقافة الحديثة كلها، تشكل بالنسبة للمثقف العربي المستلب "جمالاً" لأنها مغتربة عن المجتمع الأهلي ومنفصلة عنه، وتشكل نوعاً من علامة التميز والانفصال للذي ينتجها وينشرها ويفهمها (أو يدعي فهمها!). إن الثقافة الحديثة أصبحت علامة للانتماء إلى الطرف المسيطر، كما أن "الثقافة التقليدية" أصبحت سمة مميزة للمسيطر عليهم، ومن هنا هي لم تصبح "لا عقلانية" و"متخلفة" بناء على دراسة موضوعية قام بها المثقف الحديث الذي حكم عليها إنها كذلك، بل أصبحت كذلك لأنه يراها بكلمة واحدة "قبيحة"، والمثقف حين يدينها باللاعقلانية والتخلف يقدم "تبريراً بعدياً" لعاطفة احتقار للمجتمع الأهلي مؤسّسة من قبل هي في نهاية التحليل احتقار للذات الحقيقية لهذا المثقف الذي يريد أن ينسلخ منها باتجاه "ذات مثالية" هي ذات المتغلبين! على أن وصف المثقف لها باللاعقلانية والتخلف يحول هاتين الصفتين بسبب الشحنة العاطفية الاحتقارية المرتبطة بهما إلى شتيمتين تفقدان معناهما الأصلي بالتدريج شأن أي شتائم لتصبحان معادلتين في النهاية للكلمة الأصلية (أي كلمة"قبيحة").
ألم تر إلى المثقف الحديث كيف احتفل بالبيانو أكثر مما احتفل بالعود وبالموسيقى الغربية أكثر من العربية؟ وكيف انهالت الأوصاف التي تنعى على الموسيقى العربية اختلافها عن الغربية (فقدان "الهارموني"، الاعتماد على الصوت البشري وندرة الموسيقى الآلية البحتة..إلى آخره)
بل إنني لأزعم أننا في حالة مطربة واحدة هي فيروز يمكن لك أن تميز بين ما يسمعه ابن الشعب من هذه المطربة وما يسمعه المثقف، فابن الشعب قد يسمع "الدلعونا" أو الأنواع الموروثة من الزجل، بينما كل سحر وجمال فيروز الذي اكتسبته عند المثقف العربي الحديث موجود في ذلك الجزء من أغانيها التي استندت في كلماتها إلى اتجاه رومانسي رحباني خاص انفصل عن لغة الأغنية العربية المعروفة ومعانيها، وفي موسيقاها خرج الرحابنة عن مألوف الموسيقى العربية مقتبسين من معين الموسيقى الكلاسيكية الغربية سواء في الجمل الموسيقية أو الإيقاع أو التوزيع الموسيقي (علاوة على مصدر آخر للموسيقى الرحبانية يمكن اعتباره عند المثقفين ذا جمال خاص لانفصاله أيضاً عن مألوف الموسيقى السائدة، وهو الموسيقى الكنسية الأرثوذكسية، ولعلي فقط أشير هنا أن ما تقدم من تحليل لا يعني عدم تقديري بكل موضوعية لعبقرية الأخوين رحباني اللذين هما بآن واحد شاعران كبيران وموسيقيان كبيران. و أمر في غاية الندرة أن تجتمع هاتان الموهبتان في شخص).
هل المثقفون العرب الحديثون هم شريحة اجتماعية؟
قد يستغرب المثقف هذا السؤال، إذ يبدو له من البديهي أن يكون واحداً من أفراد شريحة اجتماعية من شرائح مجتمعنا.
ولعله حين يستغرب السؤال سيخطر بباله واقعة وجود عدد ممن يحمل هذه الصفة "مثقف" يكفي ليكون المثقفون شريحة.
ولكن الشريحة الاجتماعية ليست هي مجرد عدد من الأشخاص الذين لديهم صفة مشتركة، ولكنها وفق تعريف أراه دقيقاً "مجموعة من الأشخاص الذين يقومون في المجتمع بوظيفة واحدة تجعلهم في حالة تبادل مستمر طويل للتأثر والتأثير مع بقية مكونات النسيج الاجتماعي".
فحتى لو كان الأشخاص يقومون بوظيفة مهمة في المجتمع المعني ولكنهم لا يتبادلون التأثر والتأثير معه فإنهم لا يشكلون في رأيي شريحة اجتماعية، ومن الأمثلة على ذلك أن الخبراء السوفييت الذين تواجد منهم ذات يوم في مصر وقت بناء السد العالي والتعاون العسكري بين مصر والاتحاد السوفييتي عدد كبير نسبياً لم يكوّنوا شريحة اجتماعية مصرية! مثلهم مثل القوات الأمريكية في العراق الآن التي هي رغم عددها الكبير ليست شريحة اجتماعية عراقية!
وبالمثل فإن أي أقلية منعزلة توجد في مجتمع ما لا تشكل شريحة حتى تدخل في علاقات تأثر وتأثير مع بقية مكونات النسيج الاجتماعي، وبالذات أذكر من هذه المكونات المكون الثقافي، بحيث أننا لو تصورنا أن هذه الشريحة هاجرت في يوم واحد من بلد المجتمع المعني فإن هذه الهجرة ستظهر لها آثار في النسيج الاجتماعي وتترك فراغاً وظيفياً فيه.
تصور أن الجالية الصينية في سوريا مثلاً غادرتها في ساعة واحدة فهل ستترك فراغاً في النسيج الاجتماعي السوري؟
جوابي هو : لا! ومن هنا كانت هذه الجالية لا تشكل شريحة اجتماعية في المجتمع السوري.
لنتخيل الآن أن الصينيين في ماليزيا فعلوا الشيء نفسه وعادوا إلى الصين في ساعة واحدة فهل سيتركون فراغاً وظيفياً في المجتمع الماليزي؟
الجواب: نعم! وهو ما يدلنا على أن الصينيين هم حقاً شريحة من شرائح المجتمع الماليزي.
لنأت الآن إلى المثقف العربي الحديث ولنسأل السؤال نفسه: أرأيتم لو أن جل ما عندنا من رسامين ونحاتين ومسرحيين وشعراء حديثين غادروا بلادنا في ساعة واحدة فهل سيحس بغيابهم أحد يا ترى؟ هل سيتشكل في النسيج الاجتماعي فراغ وتختل وظيفة ضرورية من وظائف البنية الاجتماعية؟
تشهد على وجود هذا المثقف وتفاعله مع مجتمعه مبيعات دواوين الشعر الحديث واللوحات والقصة التجريبية!
الثقافة السائدة والثقافة المسيطرة:
أطروحتي الرئيسية في تحليل الثقافة العربية المعاصرة تقول باختصار إن هذه الثقافة قد اكتملت في مطلع القرن العشرين الميلادي عملية انقسامها إلى مكونين أساسيين: "ثقافة سائدة" و "ثقافة مسيطرة"، أما الثقافة السائدة فهي ثقافة الأغلبية المجتمعية وأما الثقافة المسيطرة فهي ثقافة النخب الحاكمة التي تميزت منذ البداية وحتى الآن بالانفصال عن ثقافة الأغلبية وبالعداء لها.
نشأت الثقافة المسيطرة أساساً بصفتها النموذج الثقافي البديل الذي يهدف إلى ترويض المجتمع الأهلي وقولبته ليتلاءم مع متطلبات الحكم الاستعماري أولاً ثم "الحكم الوطني" لاحقاً.
ولكن هذه الثقافة تحولت إلى أيديولوجيا لنخب معارضة و"يوتوبيا" لمجتمع محدث بديل يرجى منه أن يتجاوز الهوة بيننا وبين المجتمعات الصناعية المتقدمة، وأنا أعد هذا النموذج الثقافي المعارض جزءاً من الثقافة المسيطرة لأسباب عديدة: إنه أولاً نصير للثقافة التي تسيطر على مستوى الكرة الأرضية، وهو ثانياً يتفق مع الثقافة المسيطرة للسلطة في مسلماتها الكبرى البانية، وهو ثالثاً لا يتردد عند اللزوم في تأييد السلطة التي يعارضها ضد المجتمع وهذه الحقيقة يجد القارئ عليها أمثلة عديدة في أقطار عربية كثيرة.
وسبب تحول جزء من منتجي الثقافة المسيطرة ومروجيها إلى معارضين يكمن في سببين: الأول عجز الحكومات التي ورثت عهد الاستعمار عن تحقيق أي من أهداف النضال الوطني المعلنة فلم يتحقق إنهاء للتبعية الاقتصادية والسياسية، وعجزت هذه الحكومات حتى عن القضاء على الأمية الأبجدية، فكانت الأيديولوجيات البديلة التي ولدت في الربع الثاني من القرن العشرين مشاريع سلطة بديلة وصلت إلى الحكم فعلاً اعتباراً من بداية الخمسينات.
والسبب الثاني هو الانبهار الاستلابي أمام نموذج الحضارة المسيطرة عالمياً، وهو النموذج الذي يجعل المثقف لا يقنع بإنجازات التحديث السلطوية ويأخذ عليها دوماً عجزها عن تحقيق النظام الحديث على النموذج الذي يناصره(اشتراكي-لبرالي-بل لفترة معينة وجد مناصرون حتى للنمط الفاشي).
وأياً كان نوع الثقافة المسيطرة فإن الظاهرة المميزة التي يراها الباحث هي أن المجتمع الأهلي لم يتحول إلى الآن التحول النوعي الذي ترجوه هذه الثقافة، بل ظل على مسلماته المؤسِّسة الكبرى. وحتى جماهير "الأحزاب والمنظمات التقدمية" ومناصروها تجدهم غالباً يؤيدون شعاراتها السياسية التي لا تناقض مسلّمات ثقافتهم السائدة وأسسها الجوهرية (من نوع الوحدة العربية مثلاً أو تحرير فلسطين أو والعدالة الاجتماعية) ولكنهم في النقاط الحاسمة يظلون "تقليديين"، وإن الفقير لله كاتب هذه السطور لا ينسى كيف مر مرة في نهاية الثمانينات في رمضان بموقع لمنظمة فلسطينية يقول قادتها إنها ماركسية فوجد جميع الكوادر صائمين!
وملاحظات مثل هذه الأخيرة هي التي دفعت بعض "التحديثيين الجذريين" شأن الأستاذ ياسين الحافظ إلى أن يعد بعض الحركات اليسارية العربية المشرقية حركات دينية "تمركست" في الشكل، وفي البناء الفوقي للقيادة والإعلام، لا في المضمون الحقيقي لبنية أعضائها العقلية (ولو عاش حتى زمان الانتفاضة لوجد مصادقة على هذا الرأي في سلوك الكوادر الصغار لهذه المنظمات في فلسطين).
إن "الثقافة المسيطرة" تحاول بوسائل سلطوية أن تفرض أنماطها السلوكية على الجموع (من نوع فرض نزع الحجاب في تونس وتركيا وفرض نزعه في بعض المهن والأعمال في البلاد الأخرى) غير أنها أيضاً تعتمد على وسائل إعلامية لتغيير "السلوك التقليدي". وتقدم القنوات الفضائية أمثلة على هذه المحاولات المحمومة، وفي اعتقادي أن هذه المحاولات لم تنجح على صعيد تغيير المعتقدات الأساسية للناس ولكنها نجحت إلى حد لا بأس به في جانب واحد على الأقل وهو تغيير الذوق الجمالي عند قطاعات اجتماعية مهمة(كما في حالة تغيير الأزياء في بلاد الشام للجنسين وجعل الموضة الغربية نموذجاً جمالياً للنساء حتى المحجبات منهن اللواتي ينزعن لارتداء الثياب الغربية في مجالسهن الخاصة أو في البيت).
لا شك في أن تغييراً جوهرياً في السلوك الحضاري لإنساننا هو مهم أهمية حاسمة وجودية، وعليه يتوقف بقاء هذه الثقافة العظيمة أو زوالها، ولكن السؤال هو عن نوع التغيير وهدفه وفي هذه النقطة يختلف التأصيليون عن الاستلابيين!
يريد الاستلابيون قلب البنية العقدية والقيمية والسلوكية رأساً على عقب، بحيث تتطابق مع المثل الأعلى الاستلابي، وبحيث يخرج المجتمع من جلده ليرتدي جلداً غريباً يزول فيه كل تميز وهوية خاصة، مما يجعل العالم نسخة واحدة لا تنوع فيها ولا اختلاف.
ويريد التأصيليون تغيير السلوك الحضاري، وبهذا المعنى تغيير منظومة الثقافة السائدة، بصورة تجعل المجتمع متماسكا،ً غير قابل للتقسيم العمودي الذي نراه خطراً داهماً في أيامنا هذه وفي أقطارنا كلها، فعالاً نشيطاً غير متواكل قادراً على الاعتماد على نفسه، لا مكان فيه للكسل والتواكل، قادراً على حمل رسالته العقدية والحضارية الخالدة للعالم بشكلها الحقيقي الإنساني الذي يريد الصلاح للبشرية لا الإفساد في الأرض، والمنطلق من محبة الناس الذين هم عيال الله وليس من كراهيتهم ومحاولة قتلهم بدعوى الاختلاف العقدي معهم!
والنتاجات الثقافية لكلا التيارين لا تشكلها الرغبات الجمالية الشكلية المجردة، بل يشكلها أساساً هذا التوجه إلى تشكيل المتلقي وفقاً لنموذج قيمي مرغوب فيه يريده المنتج الثقافي. اقرأ أي "قصيدة حديثة" من قصائد الفاعلين في الثقافة العربية المسيطرة، وستجد أنهم يصدرون في هذه القصائد عن هذا الوعي المناقض للثقافة الأهلية، والراغب في تحطيمها. وكذلك الأمر في نتاجاتهم الأخرى من قصة ومسرح وسينما بل ورسم ونحت أيضاً.
ومن المؤسف أن النتاج الثقافي التأصيلي في المقابل يشكو من ضعف بنيوي شديد، وضآلة كمية ونوعية في الإنتاج، بحيث هو مُرضٍ في نطاق الفكر المجرد أكثر مما هو مُرضٍ في نطاق الأدب والفن، ولهذا أسباب تستحق النقاش والبحث من المهتمين، ولعلي إن شاء الله أعود إليها في مقال آخر.
طرح المسألة:
العلاقة بين المثقف العربي الحديث ومجتمعه هي بالطبع موضوع جدير بدراسة تاريخية مفصلة، وبتحليل بل تحليلات مطولة، غير أنني في هذا المقال سأقتصر على طرح الموضوع من زاوية العلاقة بين المثقف العربي الحديث بصفته "مبدعاً"، أي منتجاً لنتاجات فنية و أدبية، وبين المجتمع بصفته "متلقياً" لهذه النتاجات.
وفي نهاية هذا التحليل الأولي أريد أن أشرح تمييزاً أراه مهماً للغاية لمحلل الثقافة العربية المعاصرة بين مكونين أساسيين لهذه الثقافة وهما: "الثقافة السائدة" و"الثقافة المسيطرة".
ما يلفت انتباه المرء حين يناقش هذا المثقف الذي أتحدث عنه هو أنه غالباً ما يكون غير واع لواقعة هي في الحقيقة أساسية في وضعه وموضعه ألا وهي واقعة اغترابه وانفصاله شبه الكامل عن مجتمعه.
ناقشت مرة أحد الكتاب في قطر عربي أيديولوجيته الرسمية منذ أربعين عاماً ويزيد "تقدمية اشتراكية قومية"، وهذه الأيديولوجيا هي بعينها أيديولوجيا المثقفين النافذين في الصحف و التلفزيون والمسرح والسينما والأدب، وإن كان هذا لا يعني بتاتاً تبعيتهم الآلية للسلطة، إذ من مميزات السلطة في بلادنا على ما يبدو أنها عاجزة كلياً عن إنتاج مثقف موال لها بالمعنى الكامل للموالاة، فهي قد تنتج موظفين يكتبون في الصحف، ولكن هذه الكتابات تظل بعيدة عن كل قيمة فكرية أو فنية، والذي نراه هو وجود مثقف يعبر عن الأيديولوجيا الرسمية بمعناها الشامل المجرد ولكنه بعيد عن الدفاع عن التجسيد السياسي لها، بل كثيراً ما يكون معارضاً سياسياً لها، وفي معظم الحالات يكون في موقع المعارضة الموضوعية التي لم تنتقل لتكون معارضة مجسدة في برنامج سياسي بديل. فمن هذه الناحية قد تقول إنه معارض بالروح لا بالجسد، ولكنك إذا أخذت انسجامه الشامل مع الأيديولوجيا المسيطرة مع معارضته للأشخاص المتحكمين بالسلطة السياسية التي تجسدها يمكن لك أن تقول إنه معارض بالجسد لا بالروح!
قلت للكاتب المذكور: ألا ترى أنكم معشر المثقفين الحديثين مغتربون عن مجتمعكم اغتراباً جذرياً، وأن هذا الاغتراب انعكس في أدبكم فرأينا لغتكم تقطع مع لغة المجتمع الأهلي وكأنها لغة أجنبية بمفاهيمها وقيمها، ورأينا الشخصيات التي تظهر في قصصكم ورواياتكم ومسرحكم وأفلامكم شخصيات لا علاقة لها بالواقع، بل هي شخصيات مصطنعة زائفة تنبئ عن عجز بنيوي عندكم عن التقاط الواقع والتعبير عنه؟
أنكر صاحبي ما ذهبت إليه وزعم أن جل النتاج الأدبي والفني في ذلك البلد هو من النوع الواقعي، أي الذي يعكس الواقع وليس من النوع الذي يستورد الشكل مع المضمون وإن كانت الحروف التي يكتب بها عربية فكأنه "مسلسل تلفزيوني مدبلج"!
ضربت لصاحبي أمثلة كثيرة على الاصطناع في هذا النتاج: إن "علاقات الحب" التي لا بد منها في كل رواية ومسرحية وفيلم تكتب بلغة لا تستعمل في مجتمعنا، وتسيرها قيم غريبة عنه لا أريد بالمناسبة أن أعدها "قيماً لا أخلاقية" بل أريد ببساطة أن أعدها قيماً غير موجودة في مجتمعنا وتتحدث غير لغته المفهومة وإن كانت الكلمات عربية. بل قلت له إن استعمال فعل "أحب" كفعل لازم لوصف العلاقة العاطفية ليس من مألوف لغة المجتمع الأهلي الذي هو متعود أن يضع مفعولاً به لهذا الفعل، والمقصود غالباً به شيء آخر غير تلك العاطفة الرومانسية التي تصورها روايتنا وقصيدتنا الحديثة. (المجتمع الذي ولدت فيه يستعمل فعل "هوي" ويترك استعمال فعل "أحب" للمعاني غير المتعلقة بالعلاقة بين الجنسين).
وليس ذلك فحسب بل إن بعض الأشكال الفنية التي يحتفل بها المثقف العربي في البلد الذي أتكلم عنه أيما احتفال لا علاقة للمجتمع بها بتاتاً أو لا يكاد يكون له علاقة مثل "الفنون التشكيلية" كالرسم والنحت و المسرح (لا يذهب إلى المسرح إلا "المثقفون"، أما إن جئنا إلى المسرح الذي يعرض في التلفاز فالنوع "الكوميدي" منه هو وحده الذي له شعبية والمواطن مستعد أن يراه، وهو النوع الذي لا ينال من المثقف أي احترام، وهو بالفعل غالباً ما يكون مجرد تهريج سطحي بلا هدف ولا فائدة ولا جمال حقيقي).
وهذه الأشكال الفنية لم تنتج عن تطور طبيعي في الثقافة المحلية، بل نتجت عن استيراد كامل واستزراع في النسيج الاجتماعي الذي ظل منذ دخولها، أي منذ قرن وأكثر، يعدها جسماً غريباً لا يتعامل معه ولا يتبادل معه التأثير فهي "ثقافةٌ -جالية" (بتنوين التاء المربوطة في كلمة ثقافة ورفعها) كما أن المثقف نفسه يكاد يكون عضواً في جالية منعزلة لا تتبادل التأثير مع محيطها.
ومع كل ما تقدم فإن رواياتنا ومسلسلاتنا التلفزيونية ومسرحنا وأفلامنا التي كتبها هذا المثقف مليئة بشخصيات الرسام والمسرحي الذي يدخل في علاقات مع مجتمعه ويفهمه مجتمعه ويقدره، فكأنه حلم يقظة من أحلام هذا المثقف، ومع ذلك لنا أن نستغرب أن هذا النوع من الفن يسمى "واقعياً" ولا يشكك أحد في "واقعيته"!
قلت لصاحبي: ليت باحثاً اجتماعياً تجريبياً يدرس بشكل عياني لا بشكل نظري مجرد( أي بشكل معزز بالإحصاءات والطرق المألوفة في علم الاجتماع التجريبي "الإمبيريقي") مدى فهم الجماهير لهذه النتاجات الفنية وموقفها من المنتجين! وأنا أزعم أن هذه الدراسة ستدعم رأيي الذي استخلصته من ملاحظات واقعية لا أوهام فيها للوضع الفعلي لمجتمعنا.
وبناء على دراسات قديمة قام بها الفقير لله، ونشرت ذات يوم في كتاب صدر عام 1995 في بيروت بعنوان "حول الحب والاستلاب"، كنت قد رأيت أن هذه الأنواع الحديثة من الفن، بل الثقافة الحديثة كلها، تشكل بالنسبة للمثقف العربي المستلب "جمالاً" لأنها مغتربة عن المجتمع الأهلي ومنفصلة عنه، وتشكل نوعاً من علامة التميز والانفصال للذي ينتجها وينشرها ويفهمها (أو يدعي فهمها!). إن الثقافة الحديثة أصبحت علامة للانتماء إلى الطرف المسيطر، كما أن "الثقافة التقليدية" أصبحت سمة مميزة للمسيطر عليهم، ومن هنا هي لم تصبح "لا عقلانية" و"متخلفة" بناء على دراسة موضوعية قام بها المثقف الحديث الذي حكم عليها إنها كذلك، بل أصبحت كذلك لأنه يراها بكلمة واحدة "قبيحة"، والمثقف حين يدينها باللاعقلانية والتخلف يقدم "تبريراً بعدياً" لعاطفة احتقار للمجتمع الأهلي مؤسّسة من قبل هي في نهاية التحليل احتقار للذات الحقيقية لهذا المثقف الذي يريد أن ينسلخ منها باتجاه "ذات مثالية" هي ذات المتغلبين! على أن وصف المثقف لها باللاعقلانية والتخلف يحول هاتين الصفتين بسبب الشحنة العاطفية الاحتقارية المرتبطة بهما إلى شتيمتين تفقدان معناهما الأصلي بالتدريج شأن أي شتائم لتصبحان معادلتين في النهاية للكلمة الأصلية (أي كلمة"قبيحة").
ألم تر إلى المثقف الحديث كيف احتفل بالبيانو أكثر مما احتفل بالعود وبالموسيقى الغربية أكثر من العربية؟ وكيف انهالت الأوصاف التي تنعى على الموسيقى العربية اختلافها عن الغربية (فقدان "الهارموني"، الاعتماد على الصوت البشري وندرة الموسيقى الآلية البحتة..إلى آخره)
بل إنني لأزعم أننا في حالة مطربة واحدة هي فيروز يمكن لك أن تميز بين ما يسمعه ابن الشعب من هذه المطربة وما يسمعه المثقف، فابن الشعب قد يسمع "الدلعونا" أو الأنواع الموروثة من الزجل، بينما كل سحر وجمال فيروز الذي اكتسبته عند المثقف العربي الحديث موجود في ذلك الجزء من أغانيها التي استندت في كلماتها إلى اتجاه رومانسي رحباني خاص انفصل عن لغة الأغنية العربية المعروفة ومعانيها، وفي موسيقاها خرج الرحابنة عن مألوف الموسيقى العربية مقتبسين من معين الموسيقى الكلاسيكية الغربية سواء في الجمل الموسيقية أو الإيقاع أو التوزيع الموسيقي (علاوة على مصدر آخر للموسيقى الرحبانية يمكن اعتباره عند المثقفين ذا جمال خاص لانفصاله أيضاً عن مألوف الموسيقى السائدة، وهو الموسيقى الكنسية الأرثوذكسية، ولعلي فقط أشير هنا أن ما تقدم من تحليل لا يعني عدم تقديري بكل موضوعية لعبقرية الأخوين رحباني اللذين هما بآن واحد شاعران كبيران وموسيقيان كبيران. و أمر في غاية الندرة أن تجتمع هاتان الموهبتان في شخص).
هل المثقفون العرب الحديثون هم شريحة اجتماعية؟
قد يستغرب المثقف هذا السؤال، إذ يبدو له من البديهي أن يكون واحداً من أفراد شريحة اجتماعية من شرائح مجتمعنا.
ولعله حين يستغرب السؤال سيخطر بباله واقعة وجود عدد ممن يحمل هذه الصفة "مثقف" يكفي ليكون المثقفون شريحة.
ولكن الشريحة الاجتماعية ليست هي مجرد عدد من الأشخاص الذين لديهم صفة مشتركة، ولكنها وفق تعريف أراه دقيقاً "مجموعة من الأشخاص الذين يقومون في المجتمع بوظيفة واحدة تجعلهم في حالة تبادل مستمر طويل للتأثر والتأثير مع بقية مكونات النسيج الاجتماعي".
فحتى لو كان الأشخاص يقومون بوظيفة مهمة في المجتمع المعني ولكنهم لا يتبادلون التأثر والتأثير معه فإنهم لا يشكلون في رأيي شريحة اجتماعية، ومن الأمثلة على ذلك أن الخبراء السوفييت الذين تواجد منهم ذات يوم في مصر وقت بناء السد العالي والتعاون العسكري بين مصر والاتحاد السوفييتي عدد كبير نسبياً لم يكوّنوا شريحة اجتماعية مصرية! مثلهم مثل القوات الأمريكية في العراق الآن التي هي رغم عددها الكبير ليست شريحة اجتماعية عراقية!
وبالمثل فإن أي أقلية منعزلة توجد في مجتمع ما لا تشكل شريحة حتى تدخل في علاقات تأثر وتأثير مع بقية مكونات النسيج الاجتماعي، وبالذات أذكر من هذه المكونات المكون الثقافي، بحيث أننا لو تصورنا أن هذه الشريحة هاجرت في يوم واحد من بلد المجتمع المعني فإن هذه الهجرة ستظهر لها آثار في النسيج الاجتماعي وتترك فراغاً وظيفياً فيه.
تصور أن الجالية الصينية في سوريا مثلاً غادرتها في ساعة واحدة فهل ستترك فراغاً في النسيج الاجتماعي السوري؟
جوابي هو : لا! ومن هنا كانت هذه الجالية لا تشكل شريحة اجتماعية في المجتمع السوري.
لنتخيل الآن أن الصينيين في ماليزيا فعلوا الشيء نفسه وعادوا إلى الصين في ساعة واحدة فهل سيتركون فراغاً وظيفياً في المجتمع الماليزي؟
الجواب: نعم! وهو ما يدلنا على أن الصينيين هم حقاً شريحة من شرائح المجتمع الماليزي.
لنأت الآن إلى المثقف العربي الحديث ولنسأل السؤال نفسه: أرأيتم لو أن جل ما عندنا من رسامين ونحاتين ومسرحيين وشعراء حديثين غادروا بلادنا في ساعة واحدة فهل سيحس بغيابهم أحد يا ترى؟ هل سيتشكل في النسيج الاجتماعي فراغ وتختل وظيفة ضرورية من وظائف البنية الاجتماعية؟
تشهد على وجود هذا المثقف وتفاعله مع مجتمعه مبيعات دواوين الشعر الحديث واللوحات والقصة التجريبية!
الثقافة السائدة والثقافة المسيطرة:
أطروحتي الرئيسية في تحليل الثقافة العربية المعاصرة تقول باختصار إن هذه الثقافة قد اكتملت في مطلع القرن العشرين الميلادي عملية انقسامها إلى مكونين أساسيين: "ثقافة سائدة" و "ثقافة مسيطرة"، أما الثقافة السائدة فهي ثقافة الأغلبية المجتمعية وأما الثقافة المسيطرة فهي ثقافة النخب الحاكمة التي تميزت منذ البداية وحتى الآن بالانفصال عن ثقافة الأغلبية وبالعداء لها.
نشأت الثقافة المسيطرة أساساً بصفتها النموذج الثقافي البديل الذي يهدف إلى ترويض المجتمع الأهلي وقولبته ليتلاءم مع متطلبات الحكم الاستعماري أولاً ثم "الحكم الوطني" لاحقاً.
ولكن هذه الثقافة تحولت إلى أيديولوجيا لنخب معارضة و"يوتوبيا" لمجتمع محدث بديل يرجى منه أن يتجاوز الهوة بيننا وبين المجتمعات الصناعية المتقدمة، وأنا أعد هذا النموذج الثقافي المعارض جزءاً من الثقافة المسيطرة لأسباب عديدة: إنه أولاً نصير للثقافة التي تسيطر على مستوى الكرة الأرضية، وهو ثانياً يتفق مع الثقافة المسيطرة للسلطة في مسلماتها الكبرى البانية، وهو ثالثاً لا يتردد عند اللزوم في تأييد السلطة التي يعارضها ضد المجتمع وهذه الحقيقة يجد القارئ عليها أمثلة عديدة في أقطار عربية كثيرة.
وسبب تحول جزء من منتجي الثقافة المسيطرة ومروجيها إلى معارضين يكمن في سببين: الأول عجز الحكومات التي ورثت عهد الاستعمار عن تحقيق أي من أهداف النضال الوطني المعلنة فلم يتحقق إنهاء للتبعية الاقتصادية والسياسية، وعجزت هذه الحكومات حتى عن القضاء على الأمية الأبجدية، فكانت الأيديولوجيات البديلة التي ولدت في الربع الثاني من القرن العشرين مشاريع سلطة بديلة وصلت إلى الحكم فعلاً اعتباراً من بداية الخمسينات.
والسبب الثاني هو الانبهار الاستلابي أمام نموذج الحضارة المسيطرة عالمياً، وهو النموذج الذي يجعل المثقف لا يقنع بإنجازات التحديث السلطوية ويأخذ عليها دوماً عجزها عن تحقيق النظام الحديث على النموذج الذي يناصره(اشتراكي-لبرالي-بل لفترة معينة وجد مناصرون حتى للنمط الفاشي).
وأياً كان نوع الثقافة المسيطرة فإن الظاهرة المميزة التي يراها الباحث هي أن المجتمع الأهلي لم يتحول إلى الآن التحول النوعي الذي ترجوه هذه الثقافة، بل ظل على مسلماته المؤسِّسة الكبرى. وحتى جماهير "الأحزاب والمنظمات التقدمية" ومناصروها تجدهم غالباً يؤيدون شعاراتها السياسية التي لا تناقض مسلّمات ثقافتهم السائدة وأسسها الجوهرية (من نوع الوحدة العربية مثلاً أو تحرير فلسطين أو والعدالة الاجتماعية) ولكنهم في النقاط الحاسمة يظلون "تقليديين"، وإن الفقير لله كاتب هذه السطور لا ينسى كيف مر مرة في نهاية الثمانينات في رمضان بموقع لمنظمة فلسطينية يقول قادتها إنها ماركسية فوجد جميع الكوادر صائمين!
وملاحظات مثل هذه الأخيرة هي التي دفعت بعض "التحديثيين الجذريين" شأن الأستاذ ياسين الحافظ إلى أن يعد بعض الحركات اليسارية العربية المشرقية حركات دينية "تمركست" في الشكل، وفي البناء الفوقي للقيادة والإعلام، لا في المضمون الحقيقي لبنية أعضائها العقلية (ولو عاش حتى زمان الانتفاضة لوجد مصادقة على هذا الرأي في سلوك الكوادر الصغار لهذه المنظمات في فلسطين).
إن "الثقافة المسيطرة" تحاول بوسائل سلطوية أن تفرض أنماطها السلوكية على الجموع (من نوع فرض نزع الحجاب في تونس وتركيا وفرض نزعه في بعض المهن والأعمال في البلاد الأخرى) غير أنها أيضاً تعتمد على وسائل إعلامية لتغيير "السلوك التقليدي". وتقدم القنوات الفضائية أمثلة على هذه المحاولات المحمومة، وفي اعتقادي أن هذه المحاولات لم تنجح على صعيد تغيير المعتقدات الأساسية للناس ولكنها نجحت إلى حد لا بأس به في جانب واحد على الأقل وهو تغيير الذوق الجمالي عند قطاعات اجتماعية مهمة(كما في حالة تغيير الأزياء في بلاد الشام للجنسين وجعل الموضة الغربية نموذجاً جمالياً للنساء حتى المحجبات منهن اللواتي ينزعن لارتداء الثياب الغربية في مجالسهن الخاصة أو في البيت).
لا شك في أن تغييراً جوهرياً في السلوك الحضاري لإنساننا هو مهم أهمية حاسمة وجودية، وعليه يتوقف بقاء هذه الثقافة العظيمة أو زوالها، ولكن السؤال هو عن نوع التغيير وهدفه وفي هذه النقطة يختلف التأصيليون عن الاستلابيين!
يريد الاستلابيون قلب البنية العقدية والقيمية والسلوكية رأساً على عقب، بحيث تتطابق مع المثل الأعلى الاستلابي، وبحيث يخرج المجتمع من جلده ليرتدي جلداً غريباً يزول فيه كل تميز وهوية خاصة، مما يجعل العالم نسخة واحدة لا تنوع فيها ولا اختلاف.
ويريد التأصيليون تغيير السلوك الحضاري، وبهذا المعنى تغيير منظومة الثقافة السائدة، بصورة تجعل المجتمع متماسكا،ً غير قابل للتقسيم العمودي الذي نراه خطراً داهماً في أيامنا هذه وفي أقطارنا كلها، فعالاً نشيطاً غير متواكل قادراً على الاعتماد على نفسه، لا مكان فيه للكسل والتواكل، قادراً على حمل رسالته العقدية والحضارية الخالدة للعالم بشكلها الحقيقي الإنساني الذي يريد الصلاح للبشرية لا الإفساد في الأرض، والمنطلق من محبة الناس الذين هم عيال الله وليس من كراهيتهم ومحاولة قتلهم بدعوى الاختلاف العقدي معهم!
والنتاجات الثقافية لكلا التيارين لا تشكلها الرغبات الجمالية الشكلية المجردة، بل يشكلها أساساً هذا التوجه إلى تشكيل المتلقي وفقاً لنموذج قيمي مرغوب فيه يريده المنتج الثقافي. اقرأ أي "قصيدة حديثة" من قصائد الفاعلين في الثقافة العربية المسيطرة، وستجد أنهم يصدرون في هذه القصائد عن هذا الوعي المناقض للثقافة الأهلية، والراغب في تحطيمها. وكذلك الأمر في نتاجاتهم الأخرى من قصة ومسرح وسينما بل ورسم ونحت أيضاً.
ومن المؤسف أن النتاج الثقافي التأصيلي في المقابل يشكو من ضعف بنيوي شديد، وضآلة كمية ونوعية في الإنتاج، بحيث هو مُرضٍ في نطاق الفكر المجرد أكثر مما هو مُرضٍ في نطاق الأدب والفن، ولهذا أسباب تستحق النقاش والبحث من المهتمين، ولعلي إن شاء الله أعود إليها في مقال آخر.