خشان خشان
06-25-2014, 01:39 AM
http://www.islamtoday.net/bohooth/services/saveart-19-4795.htm
د. الخلوف: في عصر الضجيج تدنت الذائقة
محمد الحناحنة
حين تحاور الشاعر الطبيب عمر خلوف، فإنه يأخذك إلى دفء كلماته، وأحاسيسه الشعرية المرهفة مع موازنة في تأصيل علمه وكتاباته المتميزة في بحور الشعر العربي، وهو يؤمن كذلك بضرورة إعادة الأمن إلى روح الأمّة الإسلاميّة، كي تتربّع الكلمة على عرشها، ويعود للنقد قيمته في تقويم الأدب والارتقاء به، وعلى هامش ندوة الوفاء الأسبوعية بالرياض، جاء هذا الحوار وارفاً بكثير من القطوف الدانية ...
لنعد إلى الذاكرة الأولى، وإلى النبض الشعري الأول، وإلى بدايات اهتمامك بعلم العروض، متى وكيف كان ذلك؟
لقد ولدت في بيت شعر وأدب، وترعرعت في "مضافةٍ" كانت بمثابة صالون أدبي يومي، أستمع فيه إلى روائع الشعر الأصيل، وإلى سيرة عنترة بن شداد، وإلى شعراء مدينتي الذين كانوا يعمرون مضافتنا بأشعارهم وأسمارهم.
وفي أوائل السبعينيات الميلادية(وهي مرحلة الدراسة الثانوية) كان مِرْجَل الشعر في مرحلة الجيشان الأولى، حينها أحسست بمارده يتمطّى تحت اللّسان، وشعرت بالحاجة إلى كتابة الشعر، وذلك على الرغم من عدم اكتمال أدواته لديّ.
لك كتابات متميزة في عروض الشعر، فكيف تحوّلت إليه من علم لا يكاد يمتّ إليه بصلة، وهو دراساتك العليا في الطب البيطري؟
كانت بداية الاهتمام بعلم العروض أقدم من الدراسة العلمية، وذلك في المرحلة الثانوية كما ذكرت، عندما شعرت بالحاجة إليه لاستكمال أدواتي الشعرية، ولم يكن عندي من العروض إلا ما يقدّمه كتاب الأدب والنصوص لطالبٍ في القسم العلمي. حينها كان لقائي مع الكتاب الأول في علم العروض لقاءً عنيدًا، حاولت أن أذلّل هذا العلم لنفسي، ثم انقطعت علاقتي مع درس العروض ما يزيد على عشر سنوات، لتتجدد مرةً أخرى، في محاولة لتذليله لغيري. لقد وجدتُ نفسي فجأة أخوض غمار معركة طويلة الأمد، لا تزال رحاها منذ عشرين عاماً، ولا أظنّها ستتوقف عن الدوران بقيّة العمر. لكنني -بحمد الله- استطعت أن أغرس بعض راياتي في أرض العروض، وذلك بما أخرجته حتى الآن في هذا الحقل الموحش.
أنت طبيب، ولكنك تهدهد الشعر والأحاسيس المرهفة. ترى هل من تعارض بين مهنتك وشعرك؟
الشعر موهبة قبل أن يكون اكتساباً، والطب اكتساب قبل أن يصير مهنة، ولا أجد تعارضًا بين الشعر والعلم، بل ربما كانت الأحاسيس المرهفة لدى الطبيب الشاعر دافعًا له على إتقان طبه، والارتقاء به إلى درجات الشعر. لقد أفدتُ –أديبًا- من تحصيلي العلمي؛ قدرةً على التفكير المنظّم، والصياغة المحكمة. كما أفدت –أكاديميًا- من تحصيلي الأدبي قدرةً على التعبير السليم، والبيان الواضح، والترجمة العلمية الصحيحة.
كيف توجز للقارئ بحوثك في علم العروض، وكشوفك فيه؟
كانت البداية في تأمل خصائص البُنى العروضية الخليلية المختلفة، والنظر في كيفية افتراقها على الرغم من انتمائها إلى ذات الإيقاع الشعري، حيث قمت –بناءً على ذلك- بوضع قوائم احتمالية لكل إيقاع على حدة، ثم بدأت مسحًا شاملاً لمعظم دواوين الشعر العربي القديم والحديث، فوجدت لمعظم قوائمي الاحتمالية شواهدها الشعرية الصحيحة، مما جعلني أطمئن إلى سلامة الطريقة التي اتبعتها في إعداد تلك القوائم. لقد تجاوزت البُنى العروضية لبحر الرجز مثلاً جميع البُنى الخليلية لبحور الشعر العربي مجتمعة. وقد جمعت معظم هذه البُنى الجديدة في كتاب (الحماسة العروضية).
وخلال هذا العمل تكشف أمامي العديد من خصائص الإيقاع الشعري، فوضعت كتابًا شاملاً في علم العروض أسميته: (العروض العربي؛ تحديد وتجريد وتجديد)، وطوّرت فيه طريقة علمية ميسرة لتقطيع البيت الشعري لمعرفة بحره، أصدرتها في كتاب (فن التقطيع الشعري)، وأصّلت في كتاب آخر (لبحر الدوبيت) و (بحر السلسلة) تأصيلاً جديداً غير مسبوق، وأثبت من الإيقاعات الشعرية المستحدثة ما أسميته (البحر اللاحق)، وقد وجدت (البحر المتدارك) يشتمل على بحر آخر مختلف عنه كل الاختلاف هو (بحر الخبب) ففصلته عنه، كما فصلت ما يسمى (مخلّع البسيط) عن البسيط، وأثبته بحرًا قائمًا بذاته اسمه (المخلّع)، وقد جمعتُ هذه البحور الستة في كتاب تحت الطبع أسميته (بحور لم يؤصلها الخليل)، وبذلك أصبح مجموع البحور المستخدمة عندنا واحدًا وعشرين بحرًا مختلفًا. وكان من بدهيات ذلك أيضًا أن اطّلعت على معظم الدراسات القديمة والحديثة في هذا الباب، فجاء من نتائج ذلك كتاب: (دراسات عروضية رائدة)، الذي يتعرض لمعظم هذه الدراسات بالعرض والنقد، ويقترح شيئًا جديدًا في كيفية نشوء البُنى العروضية المختلفة.
ما رأيك بالتطور الحديث الذي طرأ على إيقاع الشعر العربي، وذلك بالتحول إلى شعر التفعيلة وقصيدة النثر؟
ليس الشعر (التفعيلي) إلا شكلاً من أشكال الإيقاع العربي، استُلّ من الأوزان العربية المعروفة. فهو يستخدم ذات الجملة الإيقاعية (التفعيلة) المستخدمة في تشكيل أوزان الشعر العربي. والفارق بين الطريقتين فارق شكلي ليس إلا.
ولكنني أشير إلى حقيقة يغفل عنها معظم شعراء التفعيلة، وهي أن إيقاع التفعيلة الواحدة هو إيقاع ساذج بسيط، تتكرر فيه الجملة الإيقاعية على طول القصيدة (لاسيما القصائد المدوّرة). وشعراء التفعيلة لا يستخدمون من الإيقاعات المعروفة سوى سبع جمل إيقاعية على أعلى الاحتمالات. فخسر هؤلاء بذلك عدداً كبيراً من إيقاعات الشعر العربي المركّبة، التي لا يصح الكتابة عليها بطريقة الشعر الحر، كإيقاع البحر الطويل والبسيط والخفيف والمنسرح والمخلّع والمديد والمجتث والمضارع والمقتضب، وهي أنضج وأسمى من الإيقاعات الساذجة كما يعرف ذلك من له أدنى معرفة بعلوم الموسيقى. بل هي في رأينا ما يميّز شعرنا العربي عما سواه!
أما ما يسمونه "قصيدة النثر"، فهي من أشكال الكتابة النثرية، ولا تمتّ إلى الشعر بصلة، مهما حُمّل فيها الكلام من المعاني الشعرية. ولا نحجر على العقول في اختيار الشكل الفني للكتابة، إلا أن ما يسوء العربيّ؛ إغراق شعراء اليوم في الغموض المقصود لذاته، الذي يتنافى مع لغة البيان؛ مما أفقد الشاعر العربي الحديث معظم قرائه.
يخطر لي أحيانًا هذا السؤال: إذا كان الحضور أو مستمعو الشعر وقارئوه لا يميّزون بين نصّ شعريّ قائم على وزن عروضي وآخر لا يمتلك هذا الوزن، فما هي القيمة الجماليّة التي يحققها الوزن العروضي؟ ماذا تقول في تطور الذائقة الإيقاعية أو الموسيقية في الشعر؟
في عصر الضجيج، تدنّت الذائقة الإيقاعية للشعر لدى الشاعر ذاته، فما بالك بذائقة القارئ أو السامع! ويهولك اليوم غلبة المثقفين الذين يستحيل عليهم قراءة القصيدة العربية، حتى ليخطئون بها على المنابر والمحافل والإذاعات. ومع ذلك يبقى الإحساس بجمال الإيقاع الشعري لدى إلقائه سحرًا لا يقاوم حتى لدى هؤلاء، مما يدلّ على أن موسيقى الشعر العربي أمر فطري متأصّل في نفس الإنسان العربي –شاعرًا ومتذوقًا للشعر- لا يمكن أن يُضاف إلى الشعر من خارجه. ولو كانت هذه الموسيقى قانونًا عروضيًا جاهزًا لما استطاع الشاعر الجاهلي أن يكتب عليها بيتًا واحدًا. إن إيقاع الشعر كإيقاع الموسيقى التي يتفاعل معها الطفل رقصًا وغناءً، دون أدنى معرفة بقواعدها، ولقد أثبتت بعض الدراسات الحديثة أن غير العربي لَيَشعر بتلك القيمة الجمالية للشعر العربي لدى سماعه.
ما زال النقد الأدبي شبه غائب أمام أنواع كثيرة من النصوص، بم تعلل ذلك؟ وما العلاج لهذه المسألة؟
لست ناقدًا أدبيًا، وأنا بعيد عن مسائل النقد، ولا أمتلك لما تقول علاجًا ناجعًا. ولكن المسألة في رأيي المتواضع تتعلق بما آلت إليه حالة الأمة عامة من النكوص الاجتماعي والأخلاقي أمام الغزو الغربي الشرس، وفتنة الضعيف بالقوي، حالة أصابت الكثيرين بالإحباط واليأس من جدوى الكلمة، ولا أرى لذلك من علاج سوى قيام المؤسسات ذات التأثير ، ببث روح الثقة وإعادة الأمن إلى روح الأمة، عندها ستتربع الكلمة على عرشها، ويعود للنقد قيمته في التقويم والارتقاء بهذه الكلمة.
نريد قراءة ديوانك الشعري الأول قبل أن يصدر، ما الذي يطرحه؟ وكيف تنظر إليه؟
إن نظرة سريعة على إنتاجي المطبوع أو المخطوط يشير إلى طغيان الجانب البحثي العروضي على الجانب الإبداعي. فليس لي من الشعر سوى ديوان صغير غير مطبوع، جمعت فيه معظم قصائدي الأولى والمتأخرة، ولذلك فأنت واجد فيه تفاوتًا بين قصائده، زمانيًا ومكانيًا، وضعفًا وتماسكًا. وأنا متردّد كثيرًا في طباعته، ليس من الناحية المادية، ولكن لشعوري الأكيد بعزوف الناس عن القراءة عمومًا، وعن الشعر خصوصًا. أسأل الله العظيم أن يعيد لهذه الأمة مجدها الزاهر، وأن يزيح عنها هذه الغمّة الطاغية.
هل من كلمة أخيرة؟
إن المكتبة العربية بحاجة إلى الكتاب الذي يقدِّم العروض علمًا خاليًا من الصنعة الطاغية التي اكتسحت في طريقها كلَّ البساطة، وكلّ الجمال الذي كان يجب أن يقوم عليه هذا العلم، المرادف لموسيقى الشعر، كتابٍ يجعل من هذا العلم فنًا ميسورًا على محبّي الشعر، ذلك الفن الجميل، ويبتعد عن جفاء العروض وتقعّره في استخدام المصطلحات الغامضة، والفرضيات الغريبة، ويقدمه لطالبه غضًّا طريًا كما الشعر، ليزرع في نفسه الأسس التي قامت عليها أوزان الشعر العربي فطرةً صقلها الشعر نفسه قبل العروض، ويأخذ بيده برفقٍ نحو الهدف الذي وضع من أجله علم العروض، ويضع له قدمه في المكان الصحيح قبل أن يتعلّم السير وحده، متخبطًا في متاهاته التي أنشأها واضعوه، فلا يصل نهاية الطريق إلا المجالد الصبور، الذي تأبى له نفسه العودة من طريق كان قد بدأه.
وتضم المكتبة العربية عددًا كبيرًا جدًا من كتب العروض القديمة والحديثة. إلا أن معظمها كتب تقليدية جامدة على ذات النهج القديم، بكل تبويباته وتفريعاته ومصطلحاته ومتاهاته، وإن كتابًا واحدًا منها ليغني القارئ عمّا سواه. ويستغرب المرء كيف يجتـرّ أحدهم مادة العروض تمامًا كما وضعها الخليل ومن جاء بعده، ثم لا يستحي من نسبة ذلك إلى نفسه! والعروض ليس صعبًا بذاته، ولا بحثًا في الطلاسم والأحاجي، ويجب ألاّ يكون سرًّا عصيًا على أحد، أو خاصًا بالعروضيين. وسيصدر لي قريبًا كتاب: (كن شاعرًا) وهو كتاب تعليمي يبسّط العروض، أردت أن أقدم فيه الإيقاع الشعري فنّا هيّنًا ليّنًا، بعيدًا عن جفاء العلم وجفافه. ويتدرج مع طالبه خطوة فخطوة.
د. الخلوف: في عصر الضجيج تدنت الذائقة
محمد الحناحنة
حين تحاور الشاعر الطبيب عمر خلوف، فإنه يأخذك إلى دفء كلماته، وأحاسيسه الشعرية المرهفة مع موازنة في تأصيل علمه وكتاباته المتميزة في بحور الشعر العربي، وهو يؤمن كذلك بضرورة إعادة الأمن إلى روح الأمّة الإسلاميّة، كي تتربّع الكلمة على عرشها، ويعود للنقد قيمته في تقويم الأدب والارتقاء به، وعلى هامش ندوة الوفاء الأسبوعية بالرياض، جاء هذا الحوار وارفاً بكثير من القطوف الدانية ...
لنعد إلى الذاكرة الأولى، وإلى النبض الشعري الأول، وإلى بدايات اهتمامك بعلم العروض، متى وكيف كان ذلك؟
لقد ولدت في بيت شعر وأدب، وترعرعت في "مضافةٍ" كانت بمثابة صالون أدبي يومي، أستمع فيه إلى روائع الشعر الأصيل، وإلى سيرة عنترة بن شداد، وإلى شعراء مدينتي الذين كانوا يعمرون مضافتنا بأشعارهم وأسمارهم.
وفي أوائل السبعينيات الميلادية(وهي مرحلة الدراسة الثانوية) كان مِرْجَل الشعر في مرحلة الجيشان الأولى، حينها أحسست بمارده يتمطّى تحت اللّسان، وشعرت بالحاجة إلى كتابة الشعر، وذلك على الرغم من عدم اكتمال أدواته لديّ.
لك كتابات متميزة في عروض الشعر، فكيف تحوّلت إليه من علم لا يكاد يمتّ إليه بصلة، وهو دراساتك العليا في الطب البيطري؟
كانت بداية الاهتمام بعلم العروض أقدم من الدراسة العلمية، وذلك في المرحلة الثانوية كما ذكرت، عندما شعرت بالحاجة إليه لاستكمال أدواتي الشعرية، ولم يكن عندي من العروض إلا ما يقدّمه كتاب الأدب والنصوص لطالبٍ في القسم العلمي. حينها كان لقائي مع الكتاب الأول في علم العروض لقاءً عنيدًا، حاولت أن أذلّل هذا العلم لنفسي، ثم انقطعت علاقتي مع درس العروض ما يزيد على عشر سنوات، لتتجدد مرةً أخرى، في محاولة لتذليله لغيري. لقد وجدتُ نفسي فجأة أخوض غمار معركة طويلة الأمد، لا تزال رحاها منذ عشرين عاماً، ولا أظنّها ستتوقف عن الدوران بقيّة العمر. لكنني -بحمد الله- استطعت أن أغرس بعض راياتي في أرض العروض، وذلك بما أخرجته حتى الآن في هذا الحقل الموحش.
أنت طبيب، ولكنك تهدهد الشعر والأحاسيس المرهفة. ترى هل من تعارض بين مهنتك وشعرك؟
الشعر موهبة قبل أن يكون اكتساباً، والطب اكتساب قبل أن يصير مهنة، ولا أجد تعارضًا بين الشعر والعلم، بل ربما كانت الأحاسيس المرهفة لدى الطبيب الشاعر دافعًا له على إتقان طبه، والارتقاء به إلى درجات الشعر. لقد أفدتُ –أديبًا- من تحصيلي العلمي؛ قدرةً على التفكير المنظّم، والصياغة المحكمة. كما أفدت –أكاديميًا- من تحصيلي الأدبي قدرةً على التعبير السليم، والبيان الواضح، والترجمة العلمية الصحيحة.
كيف توجز للقارئ بحوثك في علم العروض، وكشوفك فيه؟
كانت البداية في تأمل خصائص البُنى العروضية الخليلية المختلفة، والنظر في كيفية افتراقها على الرغم من انتمائها إلى ذات الإيقاع الشعري، حيث قمت –بناءً على ذلك- بوضع قوائم احتمالية لكل إيقاع على حدة، ثم بدأت مسحًا شاملاً لمعظم دواوين الشعر العربي القديم والحديث، فوجدت لمعظم قوائمي الاحتمالية شواهدها الشعرية الصحيحة، مما جعلني أطمئن إلى سلامة الطريقة التي اتبعتها في إعداد تلك القوائم. لقد تجاوزت البُنى العروضية لبحر الرجز مثلاً جميع البُنى الخليلية لبحور الشعر العربي مجتمعة. وقد جمعت معظم هذه البُنى الجديدة في كتاب (الحماسة العروضية).
وخلال هذا العمل تكشف أمامي العديد من خصائص الإيقاع الشعري، فوضعت كتابًا شاملاً في علم العروض أسميته: (العروض العربي؛ تحديد وتجريد وتجديد)، وطوّرت فيه طريقة علمية ميسرة لتقطيع البيت الشعري لمعرفة بحره، أصدرتها في كتاب (فن التقطيع الشعري)، وأصّلت في كتاب آخر (لبحر الدوبيت) و (بحر السلسلة) تأصيلاً جديداً غير مسبوق، وأثبت من الإيقاعات الشعرية المستحدثة ما أسميته (البحر اللاحق)، وقد وجدت (البحر المتدارك) يشتمل على بحر آخر مختلف عنه كل الاختلاف هو (بحر الخبب) ففصلته عنه، كما فصلت ما يسمى (مخلّع البسيط) عن البسيط، وأثبته بحرًا قائمًا بذاته اسمه (المخلّع)، وقد جمعتُ هذه البحور الستة في كتاب تحت الطبع أسميته (بحور لم يؤصلها الخليل)، وبذلك أصبح مجموع البحور المستخدمة عندنا واحدًا وعشرين بحرًا مختلفًا. وكان من بدهيات ذلك أيضًا أن اطّلعت على معظم الدراسات القديمة والحديثة في هذا الباب، فجاء من نتائج ذلك كتاب: (دراسات عروضية رائدة)، الذي يتعرض لمعظم هذه الدراسات بالعرض والنقد، ويقترح شيئًا جديدًا في كيفية نشوء البُنى العروضية المختلفة.
ما رأيك بالتطور الحديث الذي طرأ على إيقاع الشعر العربي، وذلك بالتحول إلى شعر التفعيلة وقصيدة النثر؟
ليس الشعر (التفعيلي) إلا شكلاً من أشكال الإيقاع العربي، استُلّ من الأوزان العربية المعروفة. فهو يستخدم ذات الجملة الإيقاعية (التفعيلة) المستخدمة في تشكيل أوزان الشعر العربي. والفارق بين الطريقتين فارق شكلي ليس إلا.
ولكنني أشير إلى حقيقة يغفل عنها معظم شعراء التفعيلة، وهي أن إيقاع التفعيلة الواحدة هو إيقاع ساذج بسيط، تتكرر فيه الجملة الإيقاعية على طول القصيدة (لاسيما القصائد المدوّرة). وشعراء التفعيلة لا يستخدمون من الإيقاعات المعروفة سوى سبع جمل إيقاعية على أعلى الاحتمالات. فخسر هؤلاء بذلك عدداً كبيراً من إيقاعات الشعر العربي المركّبة، التي لا يصح الكتابة عليها بطريقة الشعر الحر، كإيقاع البحر الطويل والبسيط والخفيف والمنسرح والمخلّع والمديد والمجتث والمضارع والمقتضب، وهي أنضج وأسمى من الإيقاعات الساذجة كما يعرف ذلك من له أدنى معرفة بعلوم الموسيقى. بل هي في رأينا ما يميّز شعرنا العربي عما سواه!
أما ما يسمونه "قصيدة النثر"، فهي من أشكال الكتابة النثرية، ولا تمتّ إلى الشعر بصلة، مهما حُمّل فيها الكلام من المعاني الشعرية. ولا نحجر على العقول في اختيار الشكل الفني للكتابة، إلا أن ما يسوء العربيّ؛ إغراق شعراء اليوم في الغموض المقصود لذاته، الذي يتنافى مع لغة البيان؛ مما أفقد الشاعر العربي الحديث معظم قرائه.
يخطر لي أحيانًا هذا السؤال: إذا كان الحضور أو مستمعو الشعر وقارئوه لا يميّزون بين نصّ شعريّ قائم على وزن عروضي وآخر لا يمتلك هذا الوزن، فما هي القيمة الجماليّة التي يحققها الوزن العروضي؟ ماذا تقول في تطور الذائقة الإيقاعية أو الموسيقية في الشعر؟
في عصر الضجيج، تدنّت الذائقة الإيقاعية للشعر لدى الشاعر ذاته، فما بالك بذائقة القارئ أو السامع! ويهولك اليوم غلبة المثقفين الذين يستحيل عليهم قراءة القصيدة العربية، حتى ليخطئون بها على المنابر والمحافل والإذاعات. ومع ذلك يبقى الإحساس بجمال الإيقاع الشعري لدى إلقائه سحرًا لا يقاوم حتى لدى هؤلاء، مما يدلّ على أن موسيقى الشعر العربي أمر فطري متأصّل في نفس الإنسان العربي –شاعرًا ومتذوقًا للشعر- لا يمكن أن يُضاف إلى الشعر من خارجه. ولو كانت هذه الموسيقى قانونًا عروضيًا جاهزًا لما استطاع الشاعر الجاهلي أن يكتب عليها بيتًا واحدًا. إن إيقاع الشعر كإيقاع الموسيقى التي يتفاعل معها الطفل رقصًا وغناءً، دون أدنى معرفة بقواعدها، ولقد أثبتت بعض الدراسات الحديثة أن غير العربي لَيَشعر بتلك القيمة الجمالية للشعر العربي لدى سماعه.
ما زال النقد الأدبي شبه غائب أمام أنواع كثيرة من النصوص، بم تعلل ذلك؟ وما العلاج لهذه المسألة؟
لست ناقدًا أدبيًا، وأنا بعيد عن مسائل النقد، ولا أمتلك لما تقول علاجًا ناجعًا. ولكن المسألة في رأيي المتواضع تتعلق بما آلت إليه حالة الأمة عامة من النكوص الاجتماعي والأخلاقي أمام الغزو الغربي الشرس، وفتنة الضعيف بالقوي، حالة أصابت الكثيرين بالإحباط واليأس من جدوى الكلمة، ولا أرى لذلك من علاج سوى قيام المؤسسات ذات التأثير ، ببث روح الثقة وإعادة الأمن إلى روح الأمة، عندها ستتربع الكلمة على عرشها، ويعود للنقد قيمته في التقويم والارتقاء بهذه الكلمة.
نريد قراءة ديوانك الشعري الأول قبل أن يصدر، ما الذي يطرحه؟ وكيف تنظر إليه؟
إن نظرة سريعة على إنتاجي المطبوع أو المخطوط يشير إلى طغيان الجانب البحثي العروضي على الجانب الإبداعي. فليس لي من الشعر سوى ديوان صغير غير مطبوع، جمعت فيه معظم قصائدي الأولى والمتأخرة، ولذلك فأنت واجد فيه تفاوتًا بين قصائده، زمانيًا ومكانيًا، وضعفًا وتماسكًا. وأنا متردّد كثيرًا في طباعته، ليس من الناحية المادية، ولكن لشعوري الأكيد بعزوف الناس عن القراءة عمومًا، وعن الشعر خصوصًا. أسأل الله العظيم أن يعيد لهذه الأمة مجدها الزاهر، وأن يزيح عنها هذه الغمّة الطاغية.
هل من كلمة أخيرة؟
إن المكتبة العربية بحاجة إلى الكتاب الذي يقدِّم العروض علمًا خاليًا من الصنعة الطاغية التي اكتسحت في طريقها كلَّ البساطة، وكلّ الجمال الذي كان يجب أن يقوم عليه هذا العلم، المرادف لموسيقى الشعر، كتابٍ يجعل من هذا العلم فنًا ميسورًا على محبّي الشعر، ذلك الفن الجميل، ويبتعد عن جفاء العروض وتقعّره في استخدام المصطلحات الغامضة، والفرضيات الغريبة، ويقدمه لطالبه غضًّا طريًا كما الشعر، ليزرع في نفسه الأسس التي قامت عليها أوزان الشعر العربي فطرةً صقلها الشعر نفسه قبل العروض، ويأخذ بيده برفقٍ نحو الهدف الذي وضع من أجله علم العروض، ويضع له قدمه في المكان الصحيح قبل أن يتعلّم السير وحده، متخبطًا في متاهاته التي أنشأها واضعوه، فلا يصل نهاية الطريق إلا المجالد الصبور، الذي تأبى له نفسه العودة من طريق كان قد بدأه.
وتضم المكتبة العربية عددًا كبيرًا جدًا من كتب العروض القديمة والحديثة. إلا أن معظمها كتب تقليدية جامدة على ذات النهج القديم، بكل تبويباته وتفريعاته ومصطلحاته ومتاهاته، وإن كتابًا واحدًا منها ليغني القارئ عمّا سواه. ويستغرب المرء كيف يجتـرّ أحدهم مادة العروض تمامًا كما وضعها الخليل ومن جاء بعده، ثم لا يستحي من نسبة ذلك إلى نفسه! والعروض ليس صعبًا بذاته، ولا بحثًا في الطلاسم والأحاجي، ويجب ألاّ يكون سرًّا عصيًا على أحد، أو خاصًا بالعروضيين. وسيصدر لي قريبًا كتاب: (كن شاعرًا) وهو كتاب تعليمي يبسّط العروض، أردت أن أقدم فيه الإيقاع الشعري فنّا هيّنًا ليّنًا، بعيدًا عن جفاء العلم وجفافه. ويتدرج مع طالبه خطوة فخطوة.