05-30-2005, 09:23 AM
إذا سرق الشريف
نصوص أسىء فهمها
المقال المذكور هنا كنت نشرته سابقاً في صحيفة وفي بعض المنتديات.
وأعيد نشره في هذا الموضع لاعتقادي بوجود بعض الفائدة فيه!
أولاً: مفاهيم أسيء فهمها وقضايا نظرية متعلقة:
قال أبو الطيب:
لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى حتى يراق على جوانبه الدم
وقال:
وإذا لم يكن من الموت بد فمن العجز أن تموت جبانا
ويقول البيت العظيم المنسوب إلى السموءل:
إذا المرء لم يدنس من اللؤم عرضه فكل رداء يرتديه جميل
في بيت المتنبي حكمة، أي هي تقرير لواقع عام، هذه الحكمة تقول إن الشرف لا تمكن صيانته بدون دماء وعلى هذه الحكمة يوافق أغلب المعاصرين ظانين أنهم مع أبي الطيب على رأي واحد ولكن لننظر ملياً لنرى إن كان في الأمر التباس أم لا:
ما هو "الشرف"؟ سيجيبنا المعاصر: الشرف هو: 1-النزاهة والأمانة. 2-بالنسبة للمرأة: الحفاظ على الأخلاق المتعارف عليها في المجتمع في ميدان العلاقة مع الجنس الآخر تحديداً.
كما يرى القارىء إذا فهمنا "الشرف" بالمعنىً الأول لم يعد للبيت معنى معقول إذ ما معنى القول إن النزاهة (أو الأمانة) لا تسلم من الأذى حتى تراق على جوانبها الدماء! أما بالمعنى الثاني "للشرف" فأي نعم! للبيت معنى وأي معنى!
أما أبو الطيب عليه رحمة الله فلم يقصد أياً من المعنيين وإنما قصد معنىً أحسب أن أغلب القراء لن يصدقه حين يقرؤه الآن وهو "رفعة النسب" فهو يريد أن يقول إن النسب الرفيع لا يكفيه أنه نسب رفيع ليبقى سالماً من الأذى بل لا بد له من أن يبذل من دونه الدم.
وهذا النسب الرفيع له علاقة وطيدة بمفهوم "الكرم" فالكريم هو شخص يملك جملة من الصفات المحمودة التي تعاد غالباً إلى أصله أي إلى رفعة الآباء والأجداد. ومن المفيد في هذا البحث دوماً، كما يرى القارىء، أن نذكر مع كل مفهوم مفهومه النقيض فعكس "الكريم" ليس هو "البخيل" كما هو الأمر في الاستعمال المعاصر الذي يستعمل كلمة "كريم" بمعنى "جواد" بل عكس "الكريم" هو "اللئيم" وهو شخص يمتلك جملة من الصفات الذميمة غالباً ما ترتبط عند العرب بدناءة الأصل.
وبالمناسبة الربط بين الأخلاق الحميدة ورفعة الأصل والأخلاق الذميمة ودناءته لم يزل موجوداً عندنا إلى الآن.
ويقول المتنبي:
إذا أنت أكرمت الكريم ملكته وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا
نسوق هذا البيت هنا فقط للتأكيد على قولنا بأن عكس الكرم هو اللؤم وهذا أمر بديهي للعارفين بالتراث ولكنني مضطر لشرحه لقلة هؤلاء في عصرنا وإن كثر مدعوا المعرفة.
ونعود إلى مفهوم "الشرف" فنذكر القارىء بأن هذا المفهوم له أيضاً مفهوم معاكس فما هو عكس "الشريف"؟ وليأخذ القارىء هذا السؤال كاختبار لمعلوماته في المفاهيم التراثية: إن عكسه هو "الوضيع" وقد يستخدم "الضعيف" في مقابل "الشريف" في بعض السياقات التي يقصد فيها التركيز على امتلاك الشريف للقوة على حين يكون الوضيع ضعيفاً عادةًً. وفي الاشتقاق الأصلي للشريف نجد الشرفة: أعلى الشيء والشرف كل نشز من الأرض وجبل مشرف: عال كما نرى في "لسان العرب" وفيه: الشرف الحسب بالآباء ويقال رجل شريف ورجل ماجد له آباء متقدمون في الشرف.
فهل يكون اللص مثلاً هو عكس الشريف؟ الجواب: لا! فقد يكون الشريف بالمفهوم التراثي لصاً وهذا أمر غريب ولكنني أذكّر أن "الشريف" هو أساساً رفيع النسب أما أي صفات أخلاقية إيجابية قد تنسب إلى رفعة النسب فهي صفات غير ضرورية ولا مضطردة.
وقد أهم قريشاً أمر المرأة المخزومية التي سرقت فوسطوا أسامة بن زيد رضي الله عنه عند النبي عليه الصلاة والسلام لكي لا يقطع يدها فقال لهم عليه السلام: "إنما أهلك الذين قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد".
ونلاحظ في الحديث أن "الضعيف" جاء بمقابل "الشريف" والأغلب أن يجيء بمقابله "الوضيع" وذكر الضعيف هنا للإيحاء بأنه بسبب ضعفه تمكن إقامة الحدود عليه وليس هكذا يريد الإسلام فهو لا يميز بين قوي وضعيف أو كما قال أبو بكر رضي الله عنه: القوي عندي ضعيف حتى آخذ منه الحق. وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لأبي موسى: آس بين الناس في وجهك وعدلك ومجلسك حتى لا يطمع شريف في حيفك ولا ييأس ضعيف من عدلك.
في "القاموس المحيط": في حسبه ضعة: انحطاط ولؤم وخسة. والقارىء اللبيب يستطيع أن يلاحظ هذه المتلازمات الناتجة عن منظومة متماسكة من المفاهيم التي جاء الإسلام ليغيرها "إن أكرمكم عند الله أتقاكم" وكيف نفهم هذه الآية بالمناسبة؟ لا يمكن فهمها إلا بصفتها رداً على المفهوم الجاهلي المستمر مع الأسف الذي يجعل كرم العنصر هو الأصل والأساس. ومن البديهي أن الآية لا تتحدث عن "الكرم" بالمعنى المعاصر أي "الجود".
وفي البيت المنسوب إلى السموءل الذي ذكرناه حديث عن "العرض" وكيف يدنس وتقرير أن المرء عندما لا يدنس عرضه من اللؤم فما همّ أي رداء يرتديه فكل رداء عند ذلك جميل. ولا بد لفهم هذا البيت من فهم كل من "اللؤم" و "العرض":
كما قلنا "اللؤم" هو المفهوم النقيض "للكرم" فهو يحتوي على جملة من الصفات الذميمة التي أصلها في المفهوم الراسخ دناءة الأصل وفي لسان العرب: اللؤم: ضد العتق والكرم، واللئيم: الدنيء الأصل الشحيح النفس.
وقد رأينا في بيت المتنبي: "إذا أنت أكرمت.." كيف نسبت إلى الكريم خصلة الوفاء وإلى نقيضه اللئيم صفة نكران الجميل والبيت بالمناسبة يتحدث عن قوم أسرهم سيف الدولة ثم عفا عنهم:
وما قتل الأحرار كالعفو عنهم ومن لك بالحر الذي يحفظ اليدا
إذا أنت أكرمت..
وبهذه المناسبة أيضاً لا يفوتنا أن نرى أصل كلمة" حر" بمعنى مقابل "عبد" وما يرتبط بهذين المفهومين من أخلاق استعملها المتنبي بالذات في هجائياته الشهيرة لكافور:
من أية الطرق يأتي مثلك الكرم أين المحاجم ياكافور والجلم؟
وهذا البيت يشرحه في بيتين من قصيدته الشهيرة "عيد بأية حال.."
أولى اللئام كويفير بمعذرة في كل لؤم وبعض العذر تفنيد
وذاك أن الفحول البيض عاجزة عن الجميل فكيف الخصية السود!
السموءل يقول إن المرء لا يهمه الثوب ما دام عرضه لم يدنس من اللؤم وقد تكلمنا عن اللؤم قليلاً فلننتقل إلى مفهوم "العرض"
من المعروف أن علماء الأصول قد عدوا خمساً من الضروريات وهي "الدين" و"النفس" و"المال" و"النسل" و"العقل" وزاد بعضهم ضرورة سادسة هي "العرض" وقال الغزالي وغيره إن هذه الخمس مراعاة في كل ملة. ولحفظ النسل شرع الإسلام حد الزنى أما حفظ العرض فشرع له حد القذف وتعزيرات مختلفة. وفي الحديث الشريف: كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه. كيف يتجلى الاعتداء على العرض؟ يتجلى في النميمة مثلاً فالاعتداء على العرض يتضمن أي ذم للإنسان خلافاً للمفهوم المعاصر لمفهوم "الاعتداء على العرض" الذي لا يتضمن إلا معنى الاعتداء على الأخلاق المختصة بموضوع العلاقات بين الجنسين.
العرض في "لسان العرب": عرض الرجل حسبه، وقيل نفسه وقيل خليقته المحمودة وقيل ما يمدح به أو يذم ويقال أكرمت عنه عرضي أي صنت عنه نفسي. ومن الطريف أن نذكر هنا أن موضوع قيمة النسب ليس بعيداّ عن مفهوم العرض أيضاً عند بعض اللغويين فقد قال أبو عبيد: شتم فلان عرض فلان: معناه ذكر أسلافه وأباءه بالقبيح. أياً كان الأمر فالعرض بعيد كل البعد عن الاختصاص بموضوع الالتزام بالأخلاق الجنسية وإلا فكيف نفهم حديث أبي ضمضم: اللهمّ إني تصدقت بعرضي على عبادك! وشرح هذا الحديث في لسان العرب كالتالي: أي تصدقت على من ذكرني بما يرجع إليّ عيبه وقيل: أي بما يلحقني من الأذى في أسلافي.
وفي الحديث الشريف: ليّ الواجد يحل عقوبته وعرضه(لي من لوى يلوي). ومعناه أن الغني إذا استدان وماطل في أداء الدين حلّ للحاكم أن يعاقبه وحلّ للمدين أن يذكره بين الناس بما يكره فيصفه مثلاً بالظلم وسوء القضاء والأصل أن ذلك غيبة لا تجوز فجازت لما فعله. ولأذكر هنا أن هذا الحديث يدل على أن النساء لا يدخلن قطعاً في مفهوم العرض ولسن حتى جزءاً منه وإلا لم يذكر النبي عليه الصلاة والسلام أن لي الواجد يحل عرضه، هكذا على العموم بلً توجب عليه أن يستثني النساء فيقول مثلاً يحل عرضه إلا نساءه!
وأنا حين أكتب هذه السطور أكتبها على كره مني فكل هذه المعلومات هي بديهية للجيل السابق من قراء التراث العربي غير أني وجدت نفسي ملزماً بذكرها ليس فقط لكثرة الاستعمال الجاهل للنصوص القديمة الشعرية والدينية أيضاً في عصرنا بل لسبب هو بعد أسوأ وهو انتشار مدعي معرفة التراث وتجارة تحقيق كتب التراث على أرضية جاهلة تشوه النصوص وانتشار "المسلسلات التاريخية" في التلفزيون التي يخطئ فيها أبو الطيب وامرؤ القيس في القواعد ويكسران الأوزان بلا حسيب ولا رقيب وأخيراً للسبب الهام الذي هو علاقة الموضوع بالنظرية العامة للتفاهم كما سيرى القارئ إن شاء الله.
على كل حال، وبالعود إلى البيت الخالد المنسوب إلى السموءل، يخبرنا الشاعر القديم أن على الإنسان أن يكون كريماً وهذا ما يجب أن يهمه وليس المظهر هو ما ينبغي أن يهمه وفي هذا درس يا ليتنا نتعلمه!
نأتي الآن إلى بيت أبي الطيب الشهير والمروي في عصرنا خطأً والبيت الأصلي:
وإذا لم يكن من الموت بد فمن العجز أن تموت جبانا
والمشهور عند المعاصرين وضع "العار" مكان "العجز" فيصبح البيت هكذا:
وإذا لم يكن من الموت بد فمن العار أن تموت جبانا
ولو صحت رواية المعاصرين لما كان للبيت معنى عظيم إذ أن الجبن عار على كل حال سواء أكان من الموت بد أم لم يكن بل على هذه الرواية لا يكون ثمة تناسب بين الشرط وجوابه إذ أن الشرط الذي هو حالة حتمية الموت لا ينتج عنه العار في الموت والمرء جبان وأما الصواب فهو الرواية الأولى "فمن العجز" وسر تحريف المعاصرين غير الموفق لها هو تغير دلالة "العجز" هذا التغير جعل بيت المتنبي ببساطة غير مفهوم.
"العجز" في الاستعمال اللغوي القديم هو ضد "الحزم" وحديث "الحزم" هو حديث ذو شجون، شأنه شأن حديث "الشرف" و"الكرم" و"العرض" و"اللؤم"، ومفهوم "المروءة" الذي سنتكلم عنه بعد قليل.
لا يذكر الحزم في استعمالنا المعاصر حتى تذكر العصا إن كان الحديث في التربية وحتى تذكر السياط والمشانق إن كان الحديث في أساليب الحكم!ولم يكن هذا هو مراد أجدادنا بالحزم فقد جرى للحزم ما جرى للشرف والعرض وتأمل!
الحزم عند أجدادنا معناه حسن التدبير فقد يكون الحزم إذن في عدم ضرب الطفل الذي نربيه كما قد يكون الحزم في ضربه فتحديد أي السلوكين هو "الحزم"يأتي بعد النظر في السؤال:أيهما يؤدي الغرض المطلوب؟
وفي "لسان العرب" :الحزم:ضبط الإنسان لأمره والأخذ فيه بالثقة.وروى الحديث:الحزم أن تستشير أهل الرأي وتطيعهم.
ومن مطالعاتي في التراث وجدتهم يستعملون خصلة "الحزم" بما هي حسن التدبير والتصرف بجدية وحساب كضد لخصلة "التضييع"التي هي إهمال الأمر.
وحين يهتم المرء بالأمر ويحسن تدبيره فهو"حازم"وأما حين يهمله ويسيء تدبيره فهو"عاجز" وقال ابن أبي ربيعة وهو يتحدث بالمناسبة عن حبيبته هند وليس عن سلطانه:إنما العاجز من لا يستبد! فهو يرى أن عدم الاستبداد من سوء التدبير على أن يكون الاستبداد مرة واحدة:
ليت هنداًأنجزتنا ما تعد وشفت أنفسنا مما تجد
واستبدت مرة واحدة إنما العاجز من لا يستبد!
وقال عبد الملك بن مروان:ما حمدت نفسي على محبوب ابتدأته بعجز، ولا لمتها على مكروه ابتدأته بحزم!وللقارئ أن يتولى بنفسه تفسير هذا القول منتبهاً إلى المعنى القديم لكلمتي"الحزم" و"العجز".
أبو الطيب إذن يريد أن يقول: ليس من الحكمة أن تموت جباناً ما دام الموت لا بد منه،فالقضية قضية حسن حساب ولو لم يكن الموت محتوماً على الإنسان لكان التعرض له من سوء التدبير ولكان الشجعان قوماً أغبياء!:
ولو ان الحياة تبقى لحي لعددنا أضلنا الشجعانا!
وإذا لم يكن من الموت بد فمن العجز أن تموت جبانا
وأخيراً سأتكلم عن مفهوم قديم تغير مدلوله هو مفهوم "المروءة"
قال عبد الملك بن مروان وقد ذكر أحد "مّسيحة الجوخ" في مجلسه أن مصعباً بن الزبير-خصمه اللدود-كان يشرب الخمر"لو علم مصعب أن الماء يضر بمروءته ما شربه!"
ومن الشروط الشرعية في من يتولى منصب القاضي ومن يتولى الشهادة أيضاً أن لا يرتكب أعمالاً تخل بالمروءة.
من هنا قبل أهل المغرب شهادة من يمشي في الشارع كاشف الرأس ولم يقبلها أهل الشام ذلك أن كشف الرأس لم يكن عيباً في المغرب فلم يكن كشفه يخل بالمروءة وعلى عكس ذلك كان حال أهل الشام آنذاك.
فالمروءة أن يفعل الإنسان ما يزينه ويترك ما يشينه كما في"فقه السنة"ومن تعاريفها الشهيرة"أن لا تفعل في السر ما تستحيي منه في العلانية"وبهذا تكون المروءة بحق أميرة الأخلاق العربية ثم الإسلامية بعد أن جاء الإسلام فتبناها وتممها.وفي عصرنا هذا ترتبط المروءة بالشجاعة في معونة الآخرين وفي القدرة على التضحية بالراحة في هذا السبيل، و في بعض البلاد تعني حصراً النشاط والطاقة وبهذا ابتعد المعنى كلياً عن المعنى العظيم للمروءة عند أجدادنا فقد كانت هي الشيء الذي يميز الإنسان ولهذا اشتقوها من اسمه"المرء"كانت إذن :ما به يكون الإنسان إنساناً.
غير أنها في الأوساط البدوية عندنا لاقت مصيراً أفضل، فهي تعني عندهم"النخوة" وللبدو احتفال بالنخوة فقده أهل الحضرعندنا الذين يشهد عصرنا وصولهم إلى درجة من الاستعباد وفقدان النخوة والشعور بالكرامة لم يبلغوها في التاريخ أبداً!ويقول الشاعر ذو الأصول البدوية عمر أبو ريشة:
رب وا معتصماه انطلقت ملء أفواه الصبايا اليتم
لامست أسماعهم لكنها لم تلامس نخوة المعتصم!
ثانياًً:في التغيرات الدلالية وعلاقتها بالنظرية العامة للتفاهم
لماذا نهتم بالتغيرات الدلالية في طريقنا لبناء النظرية العامة للتفاهم؟
"التفاهم" لا يعني عندنا أكثر من الفهم المتبادل وهذا يعني وصول كل من الدالات والمدلولات بصورة صحيحة إلى طرفي عملية الاتصال.
والمشاهد في عمليات الاتصال أن الدوال ثابتة عملياً (محدودة العدد وقابلة للقياس الفيزيائي إلى أي درجة نريدها من الدقة) على حين أن المدلولات متغيرة مع تغير الزمان والتجربة وهذا ما يطرح المشكلة الرئيسية في عملية الاتصال وفي التفاهم بالتالي وهي المشكلة التي أسميناها سابقاً "الالتباس".
وتفصيل هذا الإجمال هو كالتالي:
كنت في مقال سابق "التشكيلات الدلالية وتحليل الالتباس" قد شرحت الأسباب التي تجعل الدوال (ما يسمى أحياناً "العلامات" أو "الإشارات") محدودة العدد وبسبب ذلك لا بد أن نتوقع أن يختلف المدلول مع بقاء الدال ثابتاً وهذا أمر واضح في كافة أنواع الدالات سواء أكانت لغوية أم غير لغوية.
ولما كانت عملية الاتصال تتضمن استعمال هذه الدوال مع افتراض وحدة المدلول عند الطرفين فإن عدم وجود هذه الوحدة وعدم اكتشاف الطرفين أو أحدهما لهذا الاختلاف يؤدي إلى سوء الفهم (من أحد الطرفين) أو سوء التفاهم (من الطرفين كليهما).
نحن نفضل عند الحديث عن عملية التواصل أن نعدها تحتوي بصورة قريبة من الحتمية قدراً من سوء التفاهم وهذا القدر يزيد مع زيادة التباعد بين النظامين الدلاليين لطرفي عملية التواصل (مثلاً مع اختلاف البيئة الاجتماعية أو الثقافية أو السياسية إلخ..).
وفي العلاقة مع النصوص الأدبية سنجد قدراً يزيد أو ينقص من سوء الفهم (ونريد هنا أن نستبعد مناقشة الاتجاهات الغربية الحديثة في النقد الأدبي التي تدافع عن مبدأ عدم وجود معنى ثابت للنصوص ونأخذ كمسلمة تبررها التجربة أن النص له معنى ثابت عند مبدعه) وهذا القدر من سوء الفهم لا بد أن يزيد كما قلنا مع اختلاف النظام الدلالي بين المنتج والمتلقي وفي هذه الحال نجد مثلاً سوء فهم النصوص الأدبية القديمة الناتج عن تغير النظام الدلالي مع تغير الزمن وهذا كان موضوع هذا المقال.
ثالثاً: ما نريد قوله باختصار:
سنختم هذا المقال ملخصين ما أردنا قوله:
1-لقد تغيرت دلالات كثير من النصوص التراثية وما زال أغلبنا يستعمل هذه النصوص مفترضاً أن مدلولات المفاهيم القديمة هي نفسها مدلولاتها الحديثة مما يقود إلى سوء فهم لهذه النصوص.
2-إن بعض تغيرات المدلولات يدلنا على أن أمتنا أصبحت في بعض الجوانب أكثر استعباداً وأضيق تفكيراً
نصوص أسىء فهمها
المقال المذكور هنا كنت نشرته سابقاً في صحيفة وفي بعض المنتديات.
وأعيد نشره في هذا الموضع لاعتقادي بوجود بعض الفائدة فيه!
أولاً: مفاهيم أسيء فهمها وقضايا نظرية متعلقة:
قال أبو الطيب:
لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى حتى يراق على جوانبه الدم
وقال:
وإذا لم يكن من الموت بد فمن العجز أن تموت جبانا
ويقول البيت العظيم المنسوب إلى السموءل:
إذا المرء لم يدنس من اللؤم عرضه فكل رداء يرتديه جميل
في بيت المتنبي حكمة، أي هي تقرير لواقع عام، هذه الحكمة تقول إن الشرف لا تمكن صيانته بدون دماء وعلى هذه الحكمة يوافق أغلب المعاصرين ظانين أنهم مع أبي الطيب على رأي واحد ولكن لننظر ملياً لنرى إن كان في الأمر التباس أم لا:
ما هو "الشرف"؟ سيجيبنا المعاصر: الشرف هو: 1-النزاهة والأمانة. 2-بالنسبة للمرأة: الحفاظ على الأخلاق المتعارف عليها في المجتمع في ميدان العلاقة مع الجنس الآخر تحديداً.
كما يرى القارىء إذا فهمنا "الشرف" بالمعنىً الأول لم يعد للبيت معنى معقول إذ ما معنى القول إن النزاهة (أو الأمانة) لا تسلم من الأذى حتى تراق على جوانبها الدماء! أما بالمعنى الثاني "للشرف" فأي نعم! للبيت معنى وأي معنى!
أما أبو الطيب عليه رحمة الله فلم يقصد أياً من المعنيين وإنما قصد معنىً أحسب أن أغلب القراء لن يصدقه حين يقرؤه الآن وهو "رفعة النسب" فهو يريد أن يقول إن النسب الرفيع لا يكفيه أنه نسب رفيع ليبقى سالماً من الأذى بل لا بد له من أن يبذل من دونه الدم.
وهذا النسب الرفيع له علاقة وطيدة بمفهوم "الكرم" فالكريم هو شخص يملك جملة من الصفات المحمودة التي تعاد غالباً إلى أصله أي إلى رفعة الآباء والأجداد. ومن المفيد في هذا البحث دوماً، كما يرى القارىء، أن نذكر مع كل مفهوم مفهومه النقيض فعكس "الكريم" ليس هو "البخيل" كما هو الأمر في الاستعمال المعاصر الذي يستعمل كلمة "كريم" بمعنى "جواد" بل عكس "الكريم" هو "اللئيم" وهو شخص يمتلك جملة من الصفات الذميمة غالباً ما ترتبط عند العرب بدناءة الأصل.
وبالمناسبة الربط بين الأخلاق الحميدة ورفعة الأصل والأخلاق الذميمة ودناءته لم يزل موجوداً عندنا إلى الآن.
ويقول المتنبي:
إذا أنت أكرمت الكريم ملكته وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا
نسوق هذا البيت هنا فقط للتأكيد على قولنا بأن عكس الكرم هو اللؤم وهذا أمر بديهي للعارفين بالتراث ولكنني مضطر لشرحه لقلة هؤلاء في عصرنا وإن كثر مدعوا المعرفة.
ونعود إلى مفهوم "الشرف" فنذكر القارىء بأن هذا المفهوم له أيضاً مفهوم معاكس فما هو عكس "الشريف"؟ وليأخذ القارىء هذا السؤال كاختبار لمعلوماته في المفاهيم التراثية: إن عكسه هو "الوضيع" وقد يستخدم "الضعيف" في مقابل "الشريف" في بعض السياقات التي يقصد فيها التركيز على امتلاك الشريف للقوة على حين يكون الوضيع ضعيفاً عادةًً. وفي الاشتقاق الأصلي للشريف نجد الشرفة: أعلى الشيء والشرف كل نشز من الأرض وجبل مشرف: عال كما نرى في "لسان العرب" وفيه: الشرف الحسب بالآباء ويقال رجل شريف ورجل ماجد له آباء متقدمون في الشرف.
فهل يكون اللص مثلاً هو عكس الشريف؟ الجواب: لا! فقد يكون الشريف بالمفهوم التراثي لصاً وهذا أمر غريب ولكنني أذكّر أن "الشريف" هو أساساً رفيع النسب أما أي صفات أخلاقية إيجابية قد تنسب إلى رفعة النسب فهي صفات غير ضرورية ولا مضطردة.
وقد أهم قريشاً أمر المرأة المخزومية التي سرقت فوسطوا أسامة بن زيد رضي الله عنه عند النبي عليه الصلاة والسلام لكي لا يقطع يدها فقال لهم عليه السلام: "إنما أهلك الذين قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد".
ونلاحظ في الحديث أن "الضعيف" جاء بمقابل "الشريف" والأغلب أن يجيء بمقابله "الوضيع" وذكر الضعيف هنا للإيحاء بأنه بسبب ضعفه تمكن إقامة الحدود عليه وليس هكذا يريد الإسلام فهو لا يميز بين قوي وضعيف أو كما قال أبو بكر رضي الله عنه: القوي عندي ضعيف حتى آخذ منه الحق. وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لأبي موسى: آس بين الناس في وجهك وعدلك ومجلسك حتى لا يطمع شريف في حيفك ولا ييأس ضعيف من عدلك.
في "القاموس المحيط": في حسبه ضعة: انحطاط ولؤم وخسة. والقارىء اللبيب يستطيع أن يلاحظ هذه المتلازمات الناتجة عن منظومة متماسكة من المفاهيم التي جاء الإسلام ليغيرها "إن أكرمكم عند الله أتقاكم" وكيف نفهم هذه الآية بالمناسبة؟ لا يمكن فهمها إلا بصفتها رداً على المفهوم الجاهلي المستمر مع الأسف الذي يجعل كرم العنصر هو الأصل والأساس. ومن البديهي أن الآية لا تتحدث عن "الكرم" بالمعنى المعاصر أي "الجود".
وفي البيت المنسوب إلى السموءل الذي ذكرناه حديث عن "العرض" وكيف يدنس وتقرير أن المرء عندما لا يدنس عرضه من اللؤم فما همّ أي رداء يرتديه فكل رداء عند ذلك جميل. ولا بد لفهم هذا البيت من فهم كل من "اللؤم" و "العرض":
كما قلنا "اللؤم" هو المفهوم النقيض "للكرم" فهو يحتوي على جملة من الصفات الذميمة التي أصلها في المفهوم الراسخ دناءة الأصل وفي لسان العرب: اللؤم: ضد العتق والكرم، واللئيم: الدنيء الأصل الشحيح النفس.
وقد رأينا في بيت المتنبي: "إذا أنت أكرمت.." كيف نسبت إلى الكريم خصلة الوفاء وإلى نقيضه اللئيم صفة نكران الجميل والبيت بالمناسبة يتحدث عن قوم أسرهم سيف الدولة ثم عفا عنهم:
وما قتل الأحرار كالعفو عنهم ومن لك بالحر الذي يحفظ اليدا
إذا أنت أكرمت..
وبهذه المناسبة أيضاً لا يفوتنا أن نرى أصل كلمة" حر" بمعنى مقابل "عبد" وما يرتبط بهذين المفهومين من أخلاق استعملها المتنبي بالذات في هجائياته الشهيرة لكافور:
من أية الطرق يأتي مثلك الكرم أين المحاجم ياكافور والجلم؟
وهذا البيت يشرحه في بيتين من قصيدته الشهيرة "عيد بأية حال.."
أولى اللئام كويفير بمعذرة في كل لؤم وبعض العذر تفنيد
وذاك أن الفحول البيض عاجزة عن الجميل فكيف الخصية السود!
السموءل يقول إن المرء لا يهمه الثوب ما دام عرضه لم يدنس من اللؤم وقد تكلمنا عن اللؤم قليلاً فلننتقل إلى مفهوم "العرض"
من المعروف أن علماء الأصول قد عدوا خمساً من الضروريات وهي "الدين" و"النفس" و"المال" و"النسل" و"العقل" وزاد بعضهم ضرورة سادسة هي "العرض" وقال الغزالي وغيره إن هذه الخمس مراعاة في كل ملة. ولحفظ النسل شرع الإسلام حد الزنى أما حفظ العرض فشرع له حد القذف وتعزيرات مختلفة. وفي الحديث الشريف: كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه. كيف يتجلى الاعتداء على العرض؟ يتجلى في النميمة مثلاً فالاعتداء على العرض يتضمن أي ذم للإنسان خلافاً للمفهوم المعاصر لمفهوم "الاعتداء على العرض" الذي لا يتضمن إلا معنى الاعتداء على الأخلاق المختصة بموضوع العلاقات بين الجنسين.
العرض في "لسان العرب": عرض الرجل حسبه، وقيل نفسه وقيل خليقته المحمودة وقيل ما يمدح به أو يذم ويقال أكرمت عنه عرضي أي صنت عنه نفسي. ومن الطريف أن نذكر هنا أن موضوع قيمة النسب ليس بعيداّ عن مفهوم العرض أيضاً عند بعض اللغويين فقد قال أبو عبيد: شتم فلان عرض فلان: معناه ذكر أسلافه وأباءه بالقبيح. أياً كان الأمر فالعرض بعيد كل البعد عن الاختصاص بموضوع الالتزام بالأخلاق الجنسية وإلا فكيف نفهم حديث أبي ضمضم: اللهمّ إني تصدقت بعرضي على عبادك! وشرح هذا الحديث في لسان العرب كالتالي: أي تصدقت على من ذكرني بما يرجع إليّ عيبه وقيل: أي بما يلحقني من الأذى في أسلافي.
وفي الحديث الشريف: ليّ الواجد يحل عقوبته وعرضه(لي من لوى يلوي). ومعناه أن الغني إذا استدان وماطل في أداء الدين حلّ للحاكم أن يعاقبه وحلّ للمدين أن يذكره بين الناس بما يكره فيصفه مثلاً بالظلم وسوء القضاء والأصل أن ذلك غيبة لا تجوز فجازت لما فعله. ولأذكر هنا أن هذا الحديث يدل على أن النساء لا يدخلن قطعاً في مفهوم العرض ولسن حتى جزءاً منه وإلا لم يذكر النبي عليه الصلاة والسلام أن لي الواجد يحل عرضه، هكذا على العموم بلً توجب عليه أن يستثني النساء فيقول مثلاً يحل عرضه إلا نساءه!
وأنا حين أكتب هذه السطور أكتبها على كره مني فكل هذه المعلومات هي بديهية للجيل السابق من قراء التراث العربي غير أني وجدت نفسي ملزماً بذكرها ليس فقط لكثرة الاستعمال الجاهل للنصوص القديمة الشعرية والدينية أيضاً في عصرنا بل لسبب هو بعد أسوأ وهو انتشار مدعي معرفة التراث وتجارة تحقيق كتب التراث على أرضية جاهلة تشوه النصوص وانتشار "المسلسلات التاريخية" في التلفزيون التي يخطئ فيها أبو الطيب وامرؤ القيس في القواعد ويكسران الأوزان بلا حسيب ولا رقيب وأخيراً للسبب الهام الذي هو علاقة الموضوع بالنظرية العامة للتفاهم كما سيرى القارئ إن شاء الله.
على كل حال، وبالعود إلى البيت الخالد المنسوب إلى السموءل، يخبرنا الشاعر القديم أن على الإنسان أن يكون كريماً وهذا ما يجب أن يهمه وليس المظهر هو ما ينبغي أن يهمه وفي هذا درس يا ليتنا نتعلمه!
نأتي الآن إلى بيت أبي الطيب الشهير والمروي في عصرنا خطأً والبيت الأصلي:
وإذا لم يكن من الموت بد فمن العجز أن تموت جبانا
والمشهور عند المعاصرين وضع "العار" مكان "العجز" فيصبح البيت هكذا:
وإذا لم يكن من الموت بد فمن العار أن تموت جبانا
ولو صحت رواية المعاصرين لما كان للبيت معنى عظيم إذ أن الجبن عار على كل حال سواء أكان من الموت بد أم لم يكن بل على هذه الرواية لا يكون ثمة تناسب بين الشرط وجوابه إذ أن الشرط الذي هو حالة حتمية الموت لا ينتج عنه العار في الموت والمرء جبان وأما الصواب فهو الرواية الأولى "فمن العجز" وسر تحريف المعاصرين غير الموفق لها هو تغير دلالة "العجز" هذا التغير جعل بيت المتنبي ببساطة غير مفهوم.
"العجز" في الاستعمال اللغوي القديم هو ضد "الحزم" وحديث "الحزم" هو حديث ذو شجون، شأنه شأن حديث "الشرف" و"الكرم" و"العرض" و"اللؤم"، ومفهوم "المروءة" الذي سنتكلم عنه بعد قليل.
لا يذكر الحزم في استعمالنا المعاصر حتى تذكر العصا إن كان الحديث في التربية وحتى تذكر السياط والمشانق إن كان الحديث في أساليب الحكم!ولم يكن هذا هو مراد أجدادنا بالحزم فقد جرى للحزم ما جرى للشرف والعرض وتأمل!
الحزم عند أجدادنا معناه حسن التدبير فقد يكون الحزم إذن في عدم ضرب الطفل الذي نربيه كما قد يكون الحزم في ضربه فتحديد أي السلوكين هو "الحزم"يأتي بعد النظر في السؤال:أيهما يؤدي الغرض المطلوب؟
وفي "لسان العرب" :الحزم:ضبط الإنسان لأمره والأخذ فيه بالثقة.وروى الحديث:الحزم أن تستشير أهل الرأي وتطيعهم.
ومن مطالعاتي في التراث وجدتهم يستعملون خصلة "الحزم" بما هي حسن التدبير والتصرف بجدية وحساب كضد لخصلة "التضييع"التي هي إهمال الأمر.
وحين يهتم المرء بالأمر ويحسن تدبيره فهو"حازم"وأما حين يهمله ويسيء تدبيره فهو"عاجز" وقال ابن أبي ربيعة وهو يتحدث بالمناسبة عن حبيبته هند وليس عن سلطانه:إنما العاجز من لا يستبد! فهو يرى أن عدم الاستبداد من سوء التدبير على أن يكون الاستبداد مرة واحدة:
ليت هنداًأنجزتنا ما تعد وشفت أنفسنا مما تجد
واستبدت مرة واحدة إنما العاجز من لا يستبد!
وقال عبد الملك بن مروان:ما حمدت نفسي على محبوب ابتدأته بعجز، ولا لمتها على مكروه ابتدأته بحزم!وللقارئ أن يتولى بنفسه تفسير هذا القول منتبهاً إلى المعنى القديم لكلمتي"الحزم" و"العجز".
أبو الطيب إذن يريد أن يقول: ليس من الحكمة أن تموت جباناً ما دام الموت لا بد منه،فالقضية قضية حسن حساب ولو لم يكن الموت محتوماً على الإنسان لكان التعرض له من سوء التدبير ولكان الشجعان قوماً أغبياء!:
ولو ان الحياة تبقى لحي لعددنا أضلنا الشجعانا!
وإذا لم يكن من الموت بد فمن العجز أن تموت جبانا
وأخيراً سأتكلم عن مفهوم قديم تغير مدلوله هو مفهوم "المروءة"
قال عبد الملك بن مروان وقد ذكر أحد "مّسيحة الجوخ" في مجلسه أن مصعباً بن الزبير-خصمه اللدود-كان يشرب الخمر"لو علم مصعب أن الماء يضر بمروءته ما شربه!"
ومن الشروط الشرعية في من يتولى منصب القاضي ومن يتولى الشهادة أيضاً أن لا يرتكب أعمالاً تخل بالمروءة.
من هنا قبل أهل المغرب شهادة من يمشي في الشارع كاشف الرأس ولم يقبلها أهل الشام ذلك أن كشف الرأس لم يكن عيباً في المغرب فلم يكن كشفه يخل بالمروءة وعلى عكس ذلك كان حال أهل الشام آنذاك.
فالمروءة أن يفعل الإنسان ما يزينه ويترك ما يشينه كما في"فقه السنة"ومن تعاريفها الشهيرة"أن لا تفعل في السر ما تستحيي منه في العلانية"وبهذا تكون المروءة بحق أميرة الأخلاق العربية ثم الإسلامية بعد أن جاء الإسلام فتبناها وتممها.وفي عصرنا هذا ترتبط المروءة بالشجاعة في معونة الآخرين وفي القدرة على التضحية بالراحة في هذا السبيل، و في بعض البلاد تعني حصراً النشاط والطاقة وبهذا ابتعد المعنى كلياً عن المعنى العظيم للمروءة عند أجدادنا فقد كانت هي الشيء الذي يميز الإنسان ولهذا اشتقوها من اسمه"المرء"كانت إذن :ما به يكون الإنسان إنساناً.
غير أنها في الأوساط البدوية عندنا لاقت مصيراً أفضل، فهي تعني عندهم"النخوة" وللبدو احتفال بالنخوة فقده أهل الحضرعندنا الذين يشهد عصرنا وصولهم إلى درجة من الاستعباد وفقدان النخوة والشعور بالكرامة لم يبلغوها في التاريخ أبداً!ويقول الشاعر ذو الأصول البدوية عمر أبو ريشة:
رب وا معتصماه انطلقت ملء أفواه الصبايا اليتم
لامست أسماعهم لكنها لم تلامس نخوة المعتصم!
ثانياًً:في التغيرات الدلالية وعلاقتها بالنظرية العامة للتفاهم
لماذا نهتم بالتغيرات الدلالية في طريقنا لبناء النظرية العامة للتفاهم؟
"التفاهم" لا يعني عندنا أكثر من الفهم المتبادل وهذا يعني وصول كل من الدالات والمدلولات بصورة صحيحة إلى طرفي عملية الاتصال.
والمشاهد في عمليات الاتصال أن الدوال ثابتة عملياً (محدودة العدد وقابلة للقياس الفيزيائي إلى أي درجة نريدها من الدقة) على حين أن المدلولات متغيرة مع تغير الزمان والتجربة وهذا ما يطرح المشكلة الرئيسية في عملية الاتصال وفي التفاهم بالتالي وهي المشكلة التي أسميناها سابقاً "الالتباس".
وتفصيل هذا الإجمال هو كالتالي:
كنت في مقال سابق "التشكيلات الدلالية وتحليل الالتباس" قد شرحت الأسباب التي تجعل الدوال (ما يسمى أحياناً "العلامات" أو "الإشارات") محدودة العدد وبسبب ذلك لا بد أن نتوقع أن يختلف المدلول مع بقاء الدال ثابتاً وهذا أمر واضح في كافة أنواع الدالات سواء أكانت لغوية أم غير لغوية.
ولما كانت عملية الاتصال تتضمن استعمال هذه الدوال مع افتراض وحدة المدلول عند الطرفين فإن عدم وجود هذه الوحدة وعدم اكتشاف الطرفين أو أحدهما لهذا الاختلاف يؤدي إلى سوء الفهم (من أحد الطرفين) أو سوء التفاهم (من الطرفين كليهما).
نحن نفضل عند الحديث عن عملية التواصل أن نعدها تحتوي بصورة قريبة من الحتمية قدراً من سوء التفاهم وهذا القدر يزيد مع زيادة التباعد بين النظامين الدلاليين لطرفي عملية التواصل (مثلاً مع اختلاف البيئة الاجتماعية أو الثقافية أو السياسية إلخ..).
وفي العلاقة مع النصوص الأدبية سنجد قدراً يزيد أو ينقص من سوء الفهم (ونريد هنا أن نستبعد مناقشة الاتجاهات الغربية الحديثة في النقد الأدبي التي تدافع عن مبدأ عدم وجود معنى ثابت للنصوص ونأخذ كمسلمة تبررها التجربة أن النص له معنى ثابت عند مبدعه) وهذا القدر من سوء الفهم لا بد أن يزيد كما قلنا مع اختلاف النظام الدلالي بين المنتج والمتلقي وفي هذه الحال نجد مثلاً سوء فهم النصوص الأدبية القديمة الناتج عن تغير النظام الدلالي مع تغير الزمن وهذا كان موضوع هذا المقال.
ثالثاً: ما نريد قوله باختصار:
سنختم هذا المقال ملخصين ما أردنا قوله:
1-لقد تغيرت دلالات كثير من النصوص التراثية وما زال أغلبنا يستعمل هذه النصوص مفترضاً أن مدلولات المفاهيم القديمة هي نفسها مدلولاتها الحديثة مما يقود إلى سوء فهم لهذه النصوص.
2-إن بعض تغيرات المدلولات يدلنا على أن أمتنا أصبحت في بعض الجوانب أكثر استعباداً وأضيق تفكيراً