خشان خشان
02-20-2011, 10:59 AM
http://www.alithnainya.com/tocs/default.asp?toc_id=19424&toc_brother=-1
[ ما بين القوسين مني ]
بحر الصفا بدعة لا إبداع (1)
بقلم: أحمد سالم باعطب
لست أدري هل كان من حسن حظي أو من سوئه؟ أن أتغيب عن حضور حفل تكريم الشاعر الإسلامي مصطفى عكرمة الذي أقامه له سعادة الأستاذ الفاضل عبد المقصود محمد سعيد خوجه في دارته العامرة، مساء يوم الاثنين 18/11/1418هـ غير أني أعتقد أن حظي السيِّئ هو الذي حال بيني وبين الحضور، وكأنه موكل بمحاربتي، يفصم عرى الود بيني وبين كل جميل حسداً منه، أو رغبة في أن يجعلني أحد أفراد حاشيته، وما ندمت يوماً عن تغيُّبي عن حضورالاثنينية كما ندمت هذه المرة. ولا يعود ندمي إلى أنني فقدت التمتع بما لذ وطاب مما يقدِّمه راعي الاثنينية على مائدته الكريمة الممتدة عشرات الأمتار التي تضم ما يفتح الشهية، ويحرِّك لهفة البطون، فذلك ليس من شأني لأن مرض السكري يقف حاجزاً قوياً، وسداً منيعاً أمام إشباع رغباتي في تناول الطعام، ولكن حرصي على الحضور دائماً ينصبُّ على ما تقدمه الاثنينية من ثمرات فكرية طيبة مباركة تهذب النفوس، وتنمِّي المدارك وتفتح أبواب الخيال ولا سيما إذا تضمنت بعض فقراتها الكثر تفجير ينبوع ثقافي أو بالأصح ميلاد مولود جديد في عالم الأدب أو العلم ولم أشهد ساعة مولده، لقد كان ندمي عظيماً أعظم من ندم الفرزدق حين قال:
ندمت ندامة الكسعي لما
غدت مني مطلقة نوار
وهذا الندم جاء وازداد حرقة في قلبي حين علمت بعد مرور أيام على تلكالاثنينية.
لقد جمعتني الظروف بأحد الأخوة الذين يحرصون على متابعة الاثنينية، ومتابعة أحداثها أولاً بأول، وربما يعتبر من عشاقها الذين يذوبون فيها عشقاً. فقد نقل إلي عما حفلت به تلك الأمسية فقال: مما حفلت به ليلة تكريم الشاعر مصطفى عكرمة أن الضيف أعلن على الملأ حين أجاب عن سؤال وجَّهه إليه الأستاذ أحمد عبد الهادي المهندس نصه، إن بحور الشعر العربي معروفة ومشهورة، فهل يمكن أن تضاف إليها بحور؟ فأجاب المحتفى به نعم لقد ألهمني الله أن أبتكر بحراً جديداً سمَّيته ((بحر الصفا)) فقلت لصاحبي، كفى أرجو أن تمنحني الشريط الذي سجلت عليه أحداث الأمسية، فوافاني به بعد أيام، فبادرت بسماعه، ولقد هالني ما سمعت، جرأة وأي جرأة، اغتيال في وضح النهار، وادعاء حق يفتقر إلى دليل.
لقد هزني ما سمعت هزاً عنيفاً، ورأيت من واجبي أن أضع الأمر بين أيدي القراء والمتلقين وأبسطه للنقاش فقد أكون مخطئاً.
قال الشاعر مصطفى عكرمة إجابة عن سؤال الأستاذ أحمد المهندس والذي جاء فيه هل يجوز إضافة بحور شعرية جديدة إلى البحور المعروفة؟ نعم يمكن ذلك فقد أضفت بحراً جديداً سمَّيته ((بحر الصفا)) وأضفت بحراً آخر سميته ((بحر الرضا)) أما بحر الصفا فقد ألهمني الله إياه وأنا واقف على الرصيف أنتظر الحافلة لتنقلني فأحسست بشعور داخلي يتملكني ثم يتدفق شعراً منه هذه الأبيات:
بحر الصفا خصني دراً ثميناً
كأنني نلت حظ الأقدمينا
عجبت كيف الفراهيدي أمسى
عن حسن إيقاعه في الغافلينا
فلن ترى مسلماً إلا ويتلو
إيقاع بحر الصفا لو تشعرونا
مستفعلن فاعلن فعلن فعولن
الحمد للَّه رب العالمينا
[ 4 3 2 3 4 3 2 ]
وسمعت بعد ذلك دوياً من التصفيق فقلت لصاحبي: ما ذلك التصفيق الذي دوت به قاعة الحضور بعد هذه الأبيات؟ هل كان ذلك استحساناً بهذه الأبيات التي قرأها الشاعر؟ فقال: لا، فقلت: ولم إذن صفقوا هذا التصفيق الحار الذي ألهبوا به أكفَّهم حتى كادت تقطر دماً، وتتساقط أشلاء، فأجاب ابتهاجاً بمولد بحر من الشعر العربي جاء به الشاعر. فقلت: ومن أنبأهم أن هذا المولود الجديد ولد حياً هل سمعوا صراخه؟
فقلت أحدِّث نفسي: هل سمعت بأغرب من هذا، لقد قضى الخليل بن أحمد سنين عديدة وهو يستقرئ الشعر العربي حتى استطاع بعد توفيق الله أن يضع نظاماً عروضياً لخمسة عشر بحراً عروضياً دون أن يصفِّق له أحد بل وقف كثير من معاصريه يناهضونه، ويناصبونه العداء، ويأتي في هذا العصر شاعر يقف على الرصيف ثم لا يلبث أن يدَّعي أنه جاء ببحر شعري جديد، أنا لا أزعم أنه يستحيل مثل ذلك ولكنني أجزم أن ما جاء به الشاعر عكرمة ليس بحراً جديداً، وسأبيِّن بطلان هذا الادعاء بعد أن نقرأ بعض ما ردَّ به الدكتور عبد المحسن القحطاني على الشاعر عكرمة بعد أن ألقى عصاه فانتفض الدكتور ولكنه انتفاض ليس كانتفاض العصفور بلَّله القطر وإنما انتفاض الرجل الغيور على أصالته وتراثه، وأوضح للشاعر عكرمة أن الخليل بن أحمد الفراهيدي نخل أشعار العرب وفحصها ومحَّصها واختار منها ما يوافق الذوق والقواعد التي وجد أنها تجمع وتوحد بين هذه الأشعار وسمَّى بحورها ثم أوجد دوائره الخمس التي جمعت بحوره التي استقرأها، والبحور التي ما زالت مهملة وفي قدرة أي شاعر أن يبحر كيف شاء. ولكن في نطاق ذلك وفي رأيي أن الدكتور عبد المحسن قد وفِّق إلى درجة كبيرة في اعتراضه على ما جاء في ردِّ الأستاذ عكرمة، إلا أنه أراد أن يغلق باب الاجتهاد، ويلزم الجميع بعدم الخروج على ما استقرأه الخليل بن أحمد وذلك أمر لا يقرُّه عليه أحد، ولا سيما والدكتور نفسه جمع عدداً من القصائد والمقطوعات الشعرية التي رفضها العروضيون فقام بإيجاد البحور التي تستطيع أن تنضوي تحت أجنحتها وذلك في كتيبه الصغير الكبير المرسوم بـ ((بين معيارية العروض وإيقاعية الشعر)).
عودة إلى البحر الشعري الجديد ((المزعوم))
أشرت في فقرة سابقة إلى أنني سأبيِّن أن هذا البحر الذي جاء به الأخ الشاعر مصطفى عكرمة ولد ميتاً لا حياة فيه للأسباب التالية:
أولاً: إن العروضيين متفقون جميعاً على أن تفعيلات الشعر العربي الأساسية هي ثمان جمعت حروفها في كلمتين هما: ((لمعت سيوفنا)) وهي مفصَّلة:
تفعيلتان وخماسيتان وهما: فاعلن.. فعولن
ست تفعيلات سباعية هي: متفاعلن، مفاعلتن، مفاعيلن، فاعلاتن، مستفعلن، مفعولات.
وابن حماد الجوهري صاحب الورقة لا يعترف بالأخيرة ((مفعولات)) فإذا نظرنا إلى تفاعيل البحر الذي جاء به الأخ مصطفى وجدناها كالتالي:
مستفعلن فاعلن فعلن فعولن [ 4 3 – 2 3 – 2 2 – 3 2 ... أنظر لتغمية الحدود على الأذهان ]
مستفعلن فاعلن فعلن فعولن
ووجود تفعيلة فعلن تبطل صحة البحر لأنها تفعيلة غير أساسية.
ثانياً: إن بحور الشعر العربي قسمان: قسم يطلق عليه البحور الصافية، وقسم آخر يطلق عليه البحور المركبة.
أما البحور الصافية وهي سبعة تفصيلها كالتالي:
الوافر، الكامل، الهزج، الرجز، الرمل، المتقارب، المتدارك، وكل بحر من هذه البحور تفاعيله موحدة.
فالوافر تفاعيله الأساسية مفاعلتن مفاعلتن مفاعلتن مكررة.
والكامل تفاعيله الأساسية متفاعلن متفاعلن متفاعلن مكررة.
والهزج تفاعيله الأساسية مفاعيلن مفاعيلن مفاعيلن مكررة.
والرجز تفاعيله الأساسية مستفعلن مستفعلن مستفعلن مكررة.
والرمل تفاعيله الأساسية فاعلاتن فاعلاتن فاعلاتن مكررة.
المتقارب تفاعيله الأساسية فعولن فعولن فعولن فعولن مكررة.
المتدارك تفاعيله الأساسية فاعلن فاعلن فاعلن فاعلن مكررة.
أما البحور المركبة فتتركب من بحرين وهي الطويل المديد البسيط السريع المنسرح الخفيف المضارع المقتضب المجتث فمثلاً:
الطويل يتكوّن من المتقارب والهزج فعولن مفاعيلن أربع مرات.
المديد يتكوّن من الرمل والمتدارك فاعلاتن فاعلن ثلاث مرات.
البسيط يتكوّن من الرجز والمتدارك مستفعلن فاعلن أربع مرات.
وإذا عدنا إلى بحر الصفا وجدنا أنه يتكوّن من ثلاثة أبحر معلومة ورابع مجهول لأنّ تفعيلته غير أساسية وبذلك يسقط الاعتماد عليه كبحر عروضي.
ثالثاً: يقول الجوهري في كتابه عروض الورقة تحقيق الدكتور صالح جمال بدوي صفحة 56 إنَّ كل بيت ركِّب من مستفعلن فاعلن فهو من البسيط طال أو قصر، وقصيدة الشاعر مصطفى بدأت بـ ((مستفعلن فاعلن فهي إذن من بحر البسيط وليس من بحر الصفا ولكن من أي وزن من أوزان البسيط والإجابة عن ذلك يوضحها تقطيع مطلع قصيدة الشاعر عكرمة:
بحر الصفا خصني دراً ثميناً
كأني نلت حظ الأقدمينا
/././/. / /.//. / /././/./.
//.//. / /.//. / /././/./.
مستفعلن فاعلن مستفعلاتن
متفعلن فاعلن مستفعلاتن
إن التقطيع أظهر لنا أن هذا البيت من مجزوء البسيط الذي يكون ضربة مرفلاً وعروضه مصرعة، وقد يقول قائل إن هذا الوزن لم يأت مرفلاً، وإنما جاء مذالاً، وأقول رداً على ذلك، ومن منع ترفيله؟ وقد سبق أن تحدثت عن هذا الموضوع في مقال نشر بملحق الأربعاء الصادر 30/3/1417هـ بالصفحة الحادية والعشرين بالعمود الثالث نحن عنوان ((معلومة جديدة في علم العروض)) قلت فيها: ((هذه معلومة جديدة لم يصرِّح بها عروضي سابق، ولم يحملها كتاب من كتب العروض وهي: أن كل بيت شعري مرفل يصح أن يكون بيتاً مذالاً إذا ألغيت حركة الروي وجعلته ساكناً، وكل بيت شعري مذال يمكن أن يكون مرفلاً إذا ألغيت سكون حرف الروي وأعطيته حركة الإعراب المناسبة له بحسب موقعه من الجملة. وفي ضوء هذه المعلومة فإن وزن مجزوء البسيط المذال يمكن أن يكون مرفلاً، وبالتالي يصبح الضرب الثالث من البسيط مساوياً للكامل التام والمتدارك من حيث الترفيل)).
ولن يكون ترفيل مجزوء البسيط أشد صعوبة على قبوله من ترفيل وتذييل الكامل التام الذي لاقى في بداية إعلاني عنه معارضة شديدة ثم هدأت ثم أخذت رسائل التأييد والإشادة تصلني الواحدة تلو الأخرى فهذا الدكتور أحمد هيكل وزير الثقافة المصري السابق يقول في رسالته حول ترفيل وتذييل وزن الكامل التام: هذا لون من ألوان التجديد لا شك فيه، ولا بد أن نشيد ونحتفي به، وألا نقف منه موقف المتشدد الذي يرفض كل جديد، ولذلك فإنني أدعو هذا الشاعر إلى الاستمرار ومواصلة عمله، وأدعو من ينتقدونه إلى الكف عن هذا لأن التشبث بأوزان الخليل اليوم تعنت وتقيد بما لا يحتمله الواقع.
أما الدكتور أحمد مستجير عضو مجمع اللغة العربية في مصر وصاحب الدراسات في علم العروض فقال: ليس هناك ما يدعو للقلق في تجربة هذا الشاعر فهو ليس مجدداً بالمعنى الثوري الذي يتطلب مناقشات كثيرة، فكل ما قام به هو أنه أضاف ((سبباً)) في نهاية وزن موجود بالفعل ليعطي نغمة موسيقية جديدة فخرج شعره ذا موسيقى عذبة مستقيمة ولا حجة لمن صرخ في وجهه بأنه خرج على أوزان الخليل)).
ومن جدة تحدَّث إليّ الشاعر الرقيق يحيى توفيق وقال: نظمت يوم الاثنين 25 ذي القعدة رباعية على الوزن الذي دعوت إليه ((الكامل التام المرفل)) وهي:
لا بد أن تلد القوافي شاعراً
يلقي على الدنيا وشاحاً شاعرياً
فيصوغ آهات الحبيبة نغمة
وحديث عينيها غناء سامرياً
ويحيل وشوشة النخيل مزاهراً.....[ ((4) 3 ((4) 3 ((4) 3 ... الكامل ]
والريح والأنواء لحناً عاطفياً
والبدر موالاً يذيب به الدجى
ونسائم الأسحار عطراً ليلكياً
فشكراً لشاعر العواطف والمشاعر والوجدان الذي قرن تأييده القولي بالعمل. إذن فالشاعر مصطفى عكرمة لم يبعد بقصيدته عن بحر البسيط بل هو غارق فيه من قمة رأسه إلى أخمص قدميه. وقد يسأل سائل وكيف استطاع الشاعر أن يؤلف من مجزوء البسيط وهو ثلاث تفعيلات أربع تفعيلات والإجابة عن ذلك سهلة.
[ أنظر إلى تغمية الحدود ]
التفعيلة الأولى والتفعيلة الثانية من كل شطرُهما من تفعيلات البسيط بقيت الثالثة وهي مستفعلاتن التي، حولها شاعرنا إلى فعلن فعولن، لنقف على الحقيقة يلزمنا أن نقطع التفعيلات تقطيعاً عروضياً فكل حرف متحرك نضع بدلاً عنه مستقيماً عمودياً((ا)) وكل حرف ساكن نضع بدلاً عنه نقطة ((.)) ويتضح عندئذٍ الأمر:
مستفعلاتن = /././/./. خمسة أحرف متحركة هي الأول، الثالث، الخامس، السادس والثامن.. وأربعة ساكنة هي الثاني والرابع والسابع والتاسع.
فعلن فعولن = /././/./. خمسة أحرف متحركة وأربعة ساكنة متماثلة في مواضعها والذي نلاحظه هنا أن شاعرنا الكريم جزأ تفعيلة بحر البسيط ((مستفعلاتن))إلى جزءين أحدهما ((مستف)) والثاني ((علاتن)) فأحلَّ ((فعلن)) محلَّ ((مستف)) وأحلَّ((فعولن)) محلَّ ((علاتن)) ونسي أنه ارتكب بذلك أخطاء جسيمة في علم العروض سبق التنبيه إليها.
أرجو أن يكون في هذا ما يفيد والله من وراء القصد.
إنتهى النقل
لو أن الشاعر صرع كل الأبيات لصح ما أورده على مشطور مجزوء البسيط:
لا بد أن تلد القوافي لوذعيّا
يلقي على الدنيا وشاحاً شاعريا
فيصوغ آهات الحبيبة أبجديا
وحديث عينيها غناء سامريا
[ ما بين القوسين مني ]
بحر الصفا بدعة لا إبداع (1)
بقلم: أحمد سالم باعطب
لست أدري هل كان من حسن حظي أو من سوئه؟ أن أتغيب عن حضور حفل تكريم الشاعر الإسلامي مصطفى عكرمة الذي أقامه له سعادة الأستاذ الفاضل عبد المقصود محمد سعيد خوجه في دارته العامرة، مساء يوم الاثنين 18/11/1418هـ غير أني أعتقد أن حظي السيِّئ هو الذي حال بيني وبين الحضور، وكأنه موكل بمحاربتي، يفصم عرى الود بيني وبين كل جميل حسداً منه، أو رغبة في أن يجعلني أحد أفراد حاشيته، وما ندمت يوماً عن تغيُّبي عن حضورالاثنينية كما ندمت هذه المرة. ولا يعود ندمي إلى أنني فقدت التمتع بما لذ وطاب مما يقدِّمه راعي الاثنينية على مائدته الكريمة الممتدة عشرات الأمتار التي تضم ما يفتح الشهية، ويحرِّك لهفة البطون، فذلك ليس من شأني لأن مرض السكري يقف حاجزاً قوياً، وسداً منيعاً أمام إشباع رغباتي في تناول الطعام، ولكن حرصي على الحضور دائماً ينصبُّ على ما تقدمه الاثنينية من ثمرات فكرية طيبة مباركة تهذب النفوس، وتنمِّي المدارك وتفتح أبواب الخيال ولا سيما إذا تضمنت بعض فقراتها الكثر تفجير ينبوع ثقافي أو بالأصح ميلاد مولود جديد في عالم الأدب أو العلم ولم أشهد ساعة مولده، لقد كان ندمي عظيماً أعظم من ندم الفرزدق حين قال:
ندمت ندامة الكسعي لما
غدت مني مطلقة نوار
وهذا الندم جاء وازداد حرقة في قلبي حين علمت بعد مرور أيام على تلكالاثنينية.
لقد جمعتني الظروف بأحد الأخوة الذين يحرصون على متابعة الاثنينية، ومتابعة أحداثها أولاً بأول، وربما يعتبر من عشاقها الذين يذوبون فيها عشقاً. فقد نقل إلي عما حفلت به تلك الأمسية فقال: مما حفلت به ليلة تكريم الشاعر مصطفى عكرمة أن الضيف أعلن على الملأ حين أجاب عن سؤال وجَّهه إليه الأستاذ أحمد عبد الهادي المهندس نصه، إن بحور الشعر العربي معروفة ومشهورة، فهل يمكن أن تضاف إليها بحور؟ فأجاب المحتفى به نعم لقد ألهمني الله أن أبتكر بحراً جديداً سمَّيته ((بحر الصفا)) فقلت لصاحبي، كفى أرجو أن تمنحني الشريط الذي سجلت عليه أحداث الأمسية، فوافاني به بعد أيام، فبادرت بسماعه، ولقد هالني ما سمعت، جرأة وأي جرأة، اغتيال في وضح النهار، وادعاء حق يفتقر إلى دليل.
لقد هزني ما سمعت هزاً عنيفاً، ورأيت من واجبي أن أضع الأمر بين أيدي القراء والمتلقين وأبسطه للنقاش فقد أكون مخطئاً.
قال الشاعر مصطفى عكرمة إجابة عن سؤال الأستاذ أحمد المهندس والذي جاء فيه هل يجوز إضافة بحور شعرية جديدة إلى البحور المعروفة؟ نعم يمكن ذلك فقد أضفت بحراً جديداً سمَّيته ((بحر الصفا)) وأضفت بحراً آخر سميته ((بحر الرضا)) أما بحر الصفا فقد ألهمني الله إياه وأنا واقف على الرصيف أنتظر الحافلة لتنقلني فأحسست بشعور داخلي يتملكني ثم يتدفق شعراً منه هذه الأبيات:
بحر الصفا خصني دراً ثميناً
كأنني نلت حظ الأقدمينا
عجبت كيف الفراهيدي أمسى
عن حسن إيقاعه في الغافلينا
فلن ترى مسلماً إلا ويتلو
إيقاع بحر الصفا لو تشعرونا
مستفعلن فاعلن فعلن فعولن
الحمد للَّه رب العالمينا
[ 4 3 2 3 4 3 2 ]
وسمعت بعد ذلك دوياً من التصفيق فقلت لصاحبي: ما ذلك التصفيق الذي دوت به قاعة الحضور بعد هذه الأبيات؟ هل كان ذلك استحساناً بهذه الأبيات التي قرأها الشاعر؟ فقال: لا، فقلت: ولم إذن صفقوا هذا التصفيق الحار الذي ألهبوا به أكفَّهم حتى كادت تقطر دماً، وتتساقط أشلاء، فأجاب ابتهاجاً بمولد بحر من الشعر العربي جاء به الشاعر. فقلت: ومن أنبأهم أن هذا المولود الجديد ولد حياً هل سمعوا صراخه؟
فقلت أحدِّث نفسي: هل سمعت بأغرب من هذا، لقد قضى الخليل بن أحمد سنين عديدة وهو يستقرئ الشعر العربي حتى استطاع بعد توفيق الله أن يضع نظاماً عروضياً لخمسة عشر بحراً عروضياً دون أن يصفِّق له أحد بل وقف كثير من معاصريه يناهضونه، ويناصبونه العداء، ويأتي في هذا العصر شاعر يقف على الرصيف ثم لا يلبث أن يدَّعي أنه جاء ببحر شعري جديد، أنا لا أزعم أنه يستحيل مثل ذلك ولكنني أجزم أن ما جاء به الشاعر عكرمة ليس بحراً جديداً، وسأبيِّن بطلان هذا الادعاء بعد أن نقرأ بعض ما ردَّ به الدكتور عبد المحسن القحطاني على الشاعر عكرمة بعد أن ألقى عصاه فانتفض الدكتور ولكنه انتفاض ليس كانتفاض العصفور بلَّله القطر وإنما انتفاض الرجل الغيور على أصالته وتراثه، وأوضح للشاعر عكرمة أن الخليل بن أحمد الفراهيدي نخل أشعار العرب وفحصها ومحَّصها واختار منها ما يوافق الذوق والقواعد التي وجد أنها تجمع وتوحد بين هذه الأشعار وسمَّى بحورها ثم أوجد دوائره الخمس التي جمعت بحوره التي استقرأها، والبحور التي ما زالت مهملة وفي قدرة أي شاعر أن يبحر كيف شاء. ولكن في نطاق ذلك وفي رأيي أن الدكتور عبد المحسن قد وفِّق إلى درجة كبيرة في اعتراضه على ما جاء في ردِّ الأستاذ عكرمة، إلا أنه أراد أن يغلق باب الاجتهاد، ويلزم الجميع بعدم الخروج على ما استقرأه الخليل بن أحمد وذلك أمر لا يقرُّه عليه أحد، ولا سيما والدكتور نفسه جمع عدداً من القصائد والمقطوعات الشعرية التي رفضها العروضيون فقام بإيجاد البحور التي تستطيع أن تنضوي تحت أجنحتها وذلك في كتيبه الصغير الكبير المرسوم بـ ((بين معيارية العروض وإيقاعية الشعر)).
عودة إلى البحر الشعري الجديد ((المزعوم))
أشرت في فقرة سابقة إلى أنني سأبيِّن أن هذا البحر الذي جاء به الأخ الشاعر مصطفى عكرمة ولد ميتاً لا حياة فيه للأسباب التالية:
أولاً: إن العروضيين متفقون جميعاً على أن تفعيلات الشعر العربي الأساسية هي ثمان جمعت حروفها في كلمتين هما: ((لمعت سيوفنا)) وهي مفصَّلة:
تفعيلتان وخماسيتان وهما: فاعلن.. فعولن
ست تفعيلات سباعية هي: متفاعلن، مفاعلتن، مفاعيلن، فاعلاتن، مستفعلن، مفعولات.
وابن حماد الجوهري صاحب الورقة لا يعترف بالأخيرة ((مفعولات)) فإذا نظرنا إلى تفاعيل البحر الذي جاء به الأخ مصطفى وجدناها كالتالي:
مستفعلن فاعلن فعلن فعولن [ 4 3 – 2 3 – 2 2 – 3 2 ... أنظر لتغمية الحدود على الأذهان ]
مستفعلن فاعلن فعلن فعولن
ووجود تفعيلة فعلن تبطل صحة البحر لأنها تفعيلة غير أساسية.
ثانياً: إن بحور الشعر العربي قسمان: قسم يطلق عليه البحور الصافية، وقسم آخر يطلق عليه البحور المركبة.
أما البحور الصافية وهي سبعة تفصيلها كالتالي:
الوافر، الكامل، الهزج، الرجز، الرمل، المتقارب، المتدارك، وكل بحر من هذه البحور تفاعيله موحدة.
فالوافر تفاعيله الأساسية مفاعلتن مفاعلتن مفاعلتن مكررة.
والكامل تفاعيله الأساسية متفاعلن متفاعلن متفاعلن مكررة.
والهزج تفاعيله الأساسية مفاعيلن مفاعيلن مفاعيلن مكررة.
والرجز تفاعيله الأساسية مستفعلن مستفعلن مستفعلن مكررة.
والرمل تفاعيله الأساسية فاعلاتن فاعلاتن فاعلاتن مكررة.
المتقارب تفاعيله الأساسية فعولن فعولن فعولن فعولن مكررة.
المتدارك تفاعيله الأساسية فاعلن فاعلن فاعلن فاعلن مكررة.
أما البحور المركبة فتتركب من بحرين وهي الطويل المديد البسيط السريع المنسرح الخفيف المضارع المقتضب المجتث فمثلاً:
الطويل يتكوّن من المتقارب والهزج فعولن مفاعيلن أربع مرات.
المديد يتكوّن من الرمل والمتدارك فاعلاتن فاعلن ثلاث مرات.
البسيط يتكوّن من الرجز والمتدارك مستفعلن فاعلن أربع مرات.
وإذا عدنا إلى بحر الصفا وجدنا أنه يتكوّن من ثلاثة أبحر معلومة ورابع مجهول لأنّ تفعيلته غير أساسية وبذلك يسقط الاعتماد عليه كبحر عروضي.
ثالثاً: يقول الجوهري في كتابه عروض الورقة تحقيق الدكتور صالح جمال بدوي صفحة 56 إنَّ كل بيت ركِّب من مستفعلن فاعلن فهو من البسيط طال أو قصر، وقصيدة الشاعر مصطفى بدأت بـ ((مستفعلن فاعلن فهي إذن من بحر البسيط وليس من بحر الصفا ولكن من أي وزن من أوزان البسيط والإجابة عن ذلك يوضحها تقطيع مطلع قصيدة الشاعر عكرمة:
بحر الصفا خصني دراً ثميناً
كأني نلت حظ الأقدمينا
/././/. / /.//. / /././/./.
//.//. / /.//. / /././/./.
مستفعلن فاعلن مستفعلاتن
متفعلن فاعلن مستفعلاتن
إن التقطيع أظهر لنا أن هذا البيت من مجزوء البسيط الذي يكون ضربة مرفلاً وعروضه مصرعة، وقد يقول قائل إن هذا الوزن لم يأت مرفلاً، وإنما جاء مذالاً، وأقول رداً على ذلك، ومن منع ترفيله؟ وقد سبق أن تحدثت عن هذا الموضوع في مقال نشر بملحق الأربعاء الصادر 30/3/1417هـ بالصفحة الحادية والعشرين بالعمود الثالث نحن عنوان ((معلومة جديدة في علم العروض)) قلت فيها: ((هذه معلومة جديدة لم يصرِّح بها عروضي سابق، ولم يحملها كتاب من كتب العروض وهي: أن كل بيت شعري مرفل يصح أن يكون بيتاً مذالاً إذا ألغيت حركة الروي وجعلته ساكناً، وكل بيت شعري مذال يمكن أن يكون مرفلاً إذا ألغيت سكون حرف الروي وأعطيته حركة الإعراب المناسبة له بحسب موقعه من الجملة. وفي ضوء هذه المعلومة فإن وزن مجزوء البسيط المذال يمكن أن يكون مرفلاً، وبالتالي يصبح الضرب الثالث من البسيط مساوياً للكامل التام والمتدارك من حيث الترفيل)).
ولن يكون ترفيل مجزوء البسيط أشد صعوبة على قبوله من ترفيل وتذييل الكامل التام الذي لاقى في بداية إعلاني عنه معارضة شديدة ثم هدأت ثم أخذت رسائل التأييد والإشادة تصلني الواحدة تلو الأخرى فهذا الدكتور أحمد هيكل وزير الثقافة المصري السابق يقول في رسالته حول ترفيل وتذييل وزن الكامل التام: هذا لون من ألوان التجديد لا شك فيه، ولا بد أن نشيد ونحتفي به، وألا نقف منه موقف المتشدد الذي يرفض كل جديد، ولذلك فإنني أدعو هذا الشاعر إلى الاستمرار ومواصلة عمله، وأدعو من ينتقدونه إلى الكف عن هذا لأن التشبث بأوزان الخليل اليوم تعنت وتقيد بما لا يحتمله الواقع.
أما الدكتور أحمد مستجير عضو مجمع اللغة العربية في مصر وصاحب الدراسات في علم العروض فقال: ليس هناك ما يدعو للقلق في تجربة هذا الشاعر فهو ليس مجدداً بالمعنى الثوري الذي يتطلب مناقشات كثيرة، فكل ما قام به هو أنه أضاف ((سبباً)) في نهاية وزن موجود بالفعل ليعطي نغمة موسيقية جديدة فخرج شعره ذا موسيقى عذبة مستقيمة ولا حجة لمن صرخ في وجهه بأنه خرج على أوزان الخليل)).
ومن جدة تحدَّث إليّ الشاعر الرقيق يحيى توفيق وقال: نظمت يوم الاثنين 25 ذي القعدة رباعية على الوزن الذي دعوت إليه ((الكامل التام المرفل)) وهي:
لا بد أن تلد القوافي شاعراً
يلقي على الدنيا وشاحاً شاعرياً
فيصوغ آهات الحبيبة نغمة
وحديث عينيها غناء سامرياً
ويحيل وشوشة النخيل مزاهراً.....[ ((4) 3 ((4) 3 ((4) 3 ... الكامل ]
والريح والأنواء لحناً عاطفياً
والبدر موالاً يذيب به الدجى
ونسائم الأسحار عطراً ليلكياً
فشكراً لشاعر العواطف والمشاعر والوجدان الذي قرن تأييده القولي بالعمل. إذن فالشاعر مصطفى عكرمة لم يبعد بقصيدته عن بحر البسيط بل هو غارق فيه من قمة رأسه إلى أخمص قدميه. وقد يسأل سائل وكيف استطاع الشاعر أن يؤلف من مجزوء البسيط وهو ثلاث تفعيلات أربع تفعيلات والإجابة عن ذلك سهلة.
[ أنظر إلى تغمية الحدود ]
التفعيلة الأولى والتفعيلة الثانية من كل شطرُهما من تفعيلات البسيط بقيت الثالثة وهي مستفعلاتن التي، حولها شاعرنا إلى فعلن فعولن، لنقف على الحقيقة يلزمنا أن نقطع التفعيلات تقطيعاً عروضياً فكل حرف متحرك نضع بدلاً عنه مستقيماً عمودياً((ا)) وكل حرف ساكن نضع بدلاً عنه نقطة ((.)) ويتضح عندئذٍ الأمر:
مستفعلاتن = /././/./. خمسة أحرف متحركة هي الأول، الثالث، الخامس، السادس والثامن.. وأربعة ساكنة هي الثاني والرابع والسابع والتاسع.
فعلن فعولن = /././/./. خمسة أحرف متحركة وأربعة ساكنة متماثلة في مواضعها والذي نلاحظه هنا أن شاعرنا الكريم جزأ تفعيلة بحر البسيط ((مستفعلاتن))إلى جزءين أحدهما ((مستف)) والثاني ((علاتن)) فأحلَّ ((فعلن)) محلَّ ((مستف)) وأحلَّ((فعولن)) محلَّ ((علاتن)) ونسي أنه ارتكب بذلك أخطاء جسيمة في علم العروض سبق التنبيه إليها.
أرجو أن يكون في هذا ما يفيد والله من وراء القصد.
إنتهى النقل
لو أن الشاعر صرع كل الأبيات لصح ما أورده على مشطور مجزوء البسيط:
لا بد أن تلد القوافي لوذعيّا
يلقي على الدنيا وشاحاً شاعريا
فيصوغ آهات الحبيبة أبجديا
وحديث عينيها غناء سامريا