خشان خشان
08-13-2010, 08:10 PM
http://rohama.org/ar/pages/content.php?id=405
1-
الخليل بن أحمد الفراهيدي رمز التواصل المعرفي العربي الفارسي
الملخص
إن بين العرب والفرس علاقات جوار في الأرض وعلاقات أخوة في السماء، مكتظة بأنماط من الأخذ والعطاء، متجذرة في أعماق التاريخ.
والعلامة الخليل بن أحمد الفراهيدي رمز كبير من رموز التواصل المعرفي والعلمي والفني بين الشعبين العربي والفارسي من شرائح الأمة الإسلامية. فقد انحدر من أصل فارسي، وترعرع في أحضان العرب من العمانيين واليمانيين، وتثقف عند البصريين، وأخذ من الفرس المقامات الموسيقية، وزودهم بعلم العروض.
وقد ذهب جل المحققين العرب علی أن الفرس خدموا اللغة العربية بدورهم الريادي في تأسيس قواعد العربية عبر كتاب سيبويه وتأسيس البلاغة العربية عبر كتب عبد القاهر الجرجاني، لكنهم مدينون للعرب بأخذ العروض الشعري منهم. والعروض عندهم تقليد صرف عن العروض العربي الذي قننه الخليل. بالمقابل، ينفي بعض المحققين الفرس تطابق العروض الفارسي مع العروض العربي في أوزان الشعر، ويری الخليل بن أحمد مقلدا من الأنظمة العروضية الهندية أو المقامات الموسيقية الإيرانية.
لذلك نعالج في هذا البحث حيثيات الأخذ والعطاء بين العرب والفرس في علم العروض، واستعانة المرحوم الخليل بخلفية حضارية ثقافية فارسية في إبداعاته وابتكاراته العلمية.
الكلمات الأساسية :
العروض الفارسي - العروض العربي - الموسيقی العربية - الموسيقی الإيرانية - الخليل بن أحمد الفراهيدي
****
المقدمة
إن بين العرب والفرس علاقات متجذرة في أعماق التاريخ، فأخذت العرب من الفرس قسطا من مفرداتهم ومنها كلمة «تاريخ» نفسها المعربة من لفظة «تاريك»، وقد وردت في القرآن الكريم عشرات منها، وكما أخذ الفرس من العرب حظا وافرا وجما غفيرا من مفرداتهم التي شكلت الغالبية العظمی من لغتهم ومفرداتهم.
إن بين العرب والفرس «توحدا ثقافيا» عظيما، و«تنوعا ثقافيا» عظيما.
نجمت مظاهر الوحدة والاشتراك من سبب فاق إرادتهم وهو علاقات الجوار، وسبب آخر حصل بإرادتهم، وهو اعتناق الإسلام.
امتزج الفرس بالعرب بانفتاحهم علی الإسلام، ومن ثم علی اللغة العربية، وتعلموها وأتقنوها، وأبدعوا في تأسيس علومها من صرفها ونحوها وبلاغتها وشعرها وأدبها، فاتحدوا بالعرب دينا وشريعة.
واختلفوا معهم في خصوصيات ثقافية لم يروها مخلّة بشريعة الإسلام، فرجعوا إلی لغتهم الفارسية ولم يرحبوا بمحاولات التعريب. ألفوا معظم علومهم وأنشدوا شطرا من أشعارهم بالعربية، أما في الحوار اليومي فرغم أن المفردات العربية طغت علی الفارسية وشكلت 80% من مجموع المفردات الفارسية في بعض الفترات السابقة وهي الآن تشكل نسبة 60% من فارسية اليوم، لكن اللغة الفارسية ظلت قائمة في مستوياتها الصوتية والصرفية والنحوية كما غيرت في المستوی الدلالي كثيرا من معاني المفردات العربية التي بقيت فيها. والسبب كما يراه بعض المحققين راجع إلی التركيبة اللغوية الفارسية باعتبارها إحدی اللغات الهند أوروبية التي تختلف جذريا مع فصيلة اللغات السامية ومنها العربية. وبالنتيجة أصبحت الفارسية قريبة ممتزجة إلی أبعد الحدود بالعربية في مفرداتها، وظلّت في نفس الوقت بعيدة جدا عن العربية في سائر شؤونها اللغوية.
من هنا ننتقل إلی موضوعنا الرئيس عن موسيقی الشعر في الأدبين العربي والفارسي. نجد أنهما متفقان ومختلفان في نفس الوقت وإلی أبعد الحدود!... والنـزاع بين المحققين في المشترك والمختلف بينهما صاخب، كالنـزاع بين دعاة العولمة وأنصار الخصخصة، وأصحاب التوحد الثقافي وأحباب التنوع الثقافي. فذهب بعضهم إلی أن العروض الفارسي تقليد محض عن العروض العربي الذي ابتكره ورسم معالمه المرحوم الخليل بن أحمد الفراهيدي، وذهب آخرون إلی عدم تلاءم الشعر الفارسي مع العروض الخليلي، ودعوا إلی تحريره من هذه القيود التي كبّلتها.
من هنا تمخّضت فكرة تأليف كتاب لدراسة مستفيضة عن أنظمة الشعر في العربية والفارسية، بعد أن خاض هذا التلميذ الفقير في غمار العروض بمشاركته في مؤتمر دولي أقيم تكريما لروح الخليل في المغرب، ثم في الأيام الثقافية العمانية في باريس احتفالا بمسقط عاصمة الثقافة العربية عام 2006. ورفع اقتراح تأليف هذا الكتاب إلی اللجنة الوطنية العمانية للتربية والثقافة والعلوم، وطبع سنة 2007 وتم تدشينه في حفل أقامته وزارة التربية والتعليم العمانية يوم الواحد والعشرين من مايو 2007 بمناسبة اليوم العالمي للتنوع الثقافي.
لذلك نعالج في هذا البحث حيثيات الأخذ والعطاء بين العرب والفرس في علم العروض، واستعانة المرحوم الخليل بخلفية حضارية ثقافية فارسية في إبداعاته وابتكاراته العلمية.
الخليل بن أحمد والجدال علی أصله ونسبه
ثمة شعوب شتی تدعي أن الخليل ملك لهم، فاحتجّ العمانيون واليمانيون بولادته في هذه المنطقة، والسعوديون بانتسابه إلی قبيلة فرهود الباقية في أرضهم، والعراقيون بتلقي ثقافته في مدرسة البصرة، ومما زاد الطين بلّة أن الإيرانيين احتجوا بأصله الفارسي. واستشهدوا بقول ابن خلكان في وفيات الأعيان(1978) حيث يعتبره من أولاد الملوك العجم الذين ولاهم الملك أنوشروان حكومة اليمن، وكان سيبويه أيضا من نفس هذه الأسرة.(ابن خلكان.1980)
وقيل عن مذهبه إنه انتقل مع أهله إلی البصرة صغيراً، وسكن في ظاهرة البصرة، وشب وهو إباضي أو صفريّ. وقد تحدث عن نفسه وقال: ”قدمت من عمان ورأيي رأي الصفرية، فجلست إلی أيوب بن أبي تميمة فسمعته يقول: إذا أردت أن تعلم علم أستاذك فجالس غيره، فظننت أنه يعنيني، فزمته، ونفعني الله به. (نور القبس 56). وعن أيوب هذا أخذ الخليل الحديث والفقه، وترك رأي قومه إلی أستاذه ورأي العامة من المسلمين. (المخزومي: 25)
لكن الشيعة الإمامية يعتبرونه إمامي المذهب، وقد عده ابن إدريس في مستطرفات السرائر ”من كبراء أصحابنا“.
وفي ”رياض العلماء“: كان الخليل علی ما قاله الأصحاب من أصحاب الإمام الصادق، ويروى عنه. و يتابع أن الخليل جليل القدر عظيم الشأن أفضل الناس في علم الأدب، وكان إمامي المذهب، وكان في عصر مولانا الصادق بل الباقر عليهما السلام، وكان إماماً في علم النحو واللغة.
وقال الشيخ بهاء الدين العاملي الملقب بالشيخ البهائي في حواشي ”الخلاصة“ إنه كان من أصحاب الإمام الصادق عليه السلام.
وأما عن علومه فادعی أبوريحان البيروني في كتابه «تحقيق ما للهند» أن الخليل اقتبس نظامه العروضي من العروض الهندي وذكر أن مبتكر علم العروض في الهند شخص اسمه پنكل وچلت وأهم كتاب عن العروض الهندي هو «گيست» وقد سمّي باسم مؤلفه. وأيده بعض المحققين العرب حسب نقل الدكتور خانلري (1367، ص85). وأقر المؤلف محمود مصطفی وهو باحث عربي في كتابه : «أهدی سبيل إلی علمي الخليل : العروض القافية» أن أصله فارسي(محمود مصطفی. بدون تاريخ.ص9). كما يدعي الباحث الانكليزي مارگليوث أن العرب لم يشتغلوا بالشعر قبل الإسلام، والمقصود بالشعراء في القرآن ليس من أنشدوا الشعر قصد بها الكهنة الذين كانوا يدّعون أن الجن يزودونهم بأخبار الغيب كما نری في الجملة الشهيرة: «إن لكل شاعر شيطانا يوحي إليه».والعرب تأثروا بالفرس في الإقبال إلی الشعر بعد رواج بعض التصنيفات الموسيقية الإيرانية بينهم(كاميار.1370، 31). وأقرّ الدكتور يوسف بكار أستاذ العروض والنقد الأدبي في جامعة اليرموك أن «الإشعاعات العروضية الهندية السنسكريتية والفارسية والفارسية واليونانية كان لها بعض تأثير في الخليل وهو يقنّن للعروض».(بكار،2005).
وقد اعترف الدكتور عبد الهادي التازي عضو آكاديمية المملكة المغربية بتأثر الخليل بالفكر الفارسي عندما قال في بحث ألقاء السنة الماضية في مؤتمر الأيام الثقافية العمانية بباريس: «لايمكن للمهتمين بالخليل أن يتجاهلوا أثر مقام الخليل في مدينة البصرة، وهي النافذة وقتها علی مختلف الحضارات، ومن أجل ذلك لابد أن نجد في اختياره البصرة بالذات مبررا لذلك الانفتاح علی الفكر الفارسي. إن ما ابتكره الخليل من آراء، كان يعبر عن تجاوب حضارات متفاعلة أسهم فيها بصفة متميزة عجز عنها معاصروه».
لكن المؤلف يتذكر خبر نقل الحجر الأسود بعد نزاع القبائل العربية عليه فجاء محمد الأمين(صلى الله عليه و آله و سلم) ووضع الحجر في عبايته وسمح لرؤساء كل القبائل أن يتشرفوا بنقله لوضعه في ركن البيت الحرام. فلابأس أن يتشرف أكثر من شعب بمكانة الخليل وتشمل عباءته حجر العلم والحضارة لكل المسلمين. يری المؤلف أن أكثر الشعوب تشرّفا بشخصية الخليل هو الأكثر نشاطا في اكتشاف علمه ونقل تراثه إلی المجتمع البشري.
الخليل بن أحمد ودوره في تأسيس علم العروض
يقرّ المؤلف بما يتفق عليه العرب والفرس من أن العلامة الخليل بن أحمد العماني المولد البصري النشأة كان هو الرائد بلامنازع لعلم العروض. هو الذي استغلّ حسه الموسيقي المرهف لتذوّق الشعر، واستغل عقليته الرياضية الفذة لإبداع نظام رائع لضبط قواعد الشعر بتطبيق قاعدة التقليب الثابت علی بحور الشعر. وكان أول من أرسی قواعد علم العروض و«استنبط منه ومن علله ما لم يستخرج أحد، ولم يسبقه إلی مثله سابق من العلماء كلهم».(ابن سلام د.ت. ج1 ص22).
صمد هذا النظام العروضي عدة قرون، وسيطر علی ذهنية علماء العروض لا في الشعوب العربية فحسب، بل تجاوز العرب ليطبّق علی أنظمة الشعر غير العربي كالعبري والفارسي، فحذا علماء العروض الفرس حذوه، واعترف بعضهم أن لا عروض للفرس إلا ما نص عليه الخليل في بحوره ودوائره العروضية الخمس. فهو مؤسس علم العروض العربي والفارسي في آن واحد. قال حمزة بن حسن الأصفهاني: «إن دولة الإسلام لم تخرج أبدع للعلوم التي لم يكن لها أصل عند علماء العرب أفضل من الخليل، وليس علی ذلك برهان أوضح من علم العروض الذي لا عن حكيم أخذه ولا عن مثل تقدّمه احتذاه، وإنما اخترعه في ممرّ له بالصفارين من وقع مطرقة علی طست.( حمزة بن حسن الأصفهاني ص 134)
التفريق بين العروض وعلم العروض
لكن الباحث يفرق بين «العروض» باعتباره إيقاعا موسيقيا للشعر من جانب و«علم العروض» في مصطلحاته وتصنيفاته ودوائره من جانب آخر، ويری أن ما أخذه الفرس من الخليل ليس هو العروض والإيقاع الموسيقي. فلم يأخذ الفرس شاعريتهم من العرب، فكانوا ينشدون الشعر قبل الخليل وقبل الإسلام، وقد بقي لدينا من شعر الفرس قبل الإسلام أقسام من سفر : «گاثه ها» و«يشت ها» من كتاب أوستا للزردشت كما بقي شيء من أناشيد «ماني» وهو ممن ادعوا النبوة في إيران قبل الإسلام. كما كان العرب الجاهليون أيضا ينشدون الشعر علی سجيتهم دون تفكير في نظام الدوائر العروضية وإلمام بمصطلحاته. يری المؤلف أن الموسيقی الشعرية ليست ملكا لشعب دون آخر، بل هي موهبة فطرية ناتجة عن حب الجمال بأنواعه المرئية والمسموعة وغيرها. والجماليات الكلامية مركوزة في سجية البشر، وإن كانت الأمم والحضارات مختلفة في الانتماء إلی مظاهر شتی من الجمال.
اختلافات بين العروض العربي والفارسي
يری الباحث أن الاختلاف القائم بين العرب والفرس وغيرهم من الأمم في الركنين الأساسيين في الطبيعة البشرية أي العقل والإحساس، وطرق التفكير وأنماط الشعور قدر محتوم قدّره الله. وصرّح القرآن بجعل البشر شعوبا وقبائل لحكمة التعارف وحجة التكامل. لذلك من المستحيل أن يتفق شعبان وتتحد حضارتان وإن كانتا جارتين في سبل الحياة وفي العواطف والأحاسيس. فللعرب شعرهم وللفرس شعرهم. ومردّ هذا أن لا مجال لتطبيق موسيقی شعرية عربية علی الشعر الفارسي تطبيقا تاما و العكس صحيح أيضا.
الحقيقة أن العلماء الفرس أخذوا علم العروض عن العرب بمصطلحاته وتصنيفاته العلمية. ولا يعني هذا أن موسيقی الشعر الفارسي تسير في نفس الإيقاعات العربية. وقد تبلورت الفروق بين الشعرين العربي والفارسي في انحصار خمسة بحور عروضية خليلية في الشعر العربي دون الفارسي، وهي: الطويل والمديد والبسيط والوافر والكامل [ الدكتور إبراهيم أنيس يدعو الطويل والكامل والبسيط والوافر بالبحور القومية - فتأمل ]، حيث لم تنسجم مع طبيعة الفرس، والطويل وحده خصص ما يقرب من ثلث الشعر العربي القديم لنفسه (أنيس1972ص59). ولم تلق محاولات بعض الشعراء الفرس رواجا عندما أنشدوا قصائد فارسية علی هذه البحور، وبالمقابل، ظهرت ثلاثة بحور فارسية بحتة لا تتماشی مع الشعر العربي والسجية العربية، وهي بحور: القريب والغريب و المشاكل.
أما القريب فوزنه الأصلي:
مفاعيلن مفاعيلن فاعلاتن مفاعيلن مفاعيلن فاعلاتن
غريبی به بلا مبتلا شده است چه باشد كه گر ورا رها كنی
(مفاعيل مفاعيل فاعلان مفاعيل مفاعيل فاعلن).
والغريب: ووزنه الأصلي:
فاعلاتن فاعلاتن مستفعلن فاعلاتن فاعلاتن مستفعلن
دل من می چرا بری چون غم من نمی خوری
(فعلاتن مفاعلن فاعلاتن مفاعلن)
والمشاكل: الشعر الفهلوي (الفارسي القديم) علی هذا الوزن أكثر من الشعر الفارسي الحديث. وزنه:
فاع لات مفاعيل مفاعيل فاع لات مفاعيل مفاعيل
ای نگار سيه چشمِ سيه موی سرو قد نكورویِ نكوگوی
هذا شطر من الفوارق العروضية بين الشعر العربي والشعر الفارسي.
ميزات الخليل النفسية
يری الباحث أن الخليل بن أحمد لم ينل هذه المكانة العلمية المرموقة المستقرة طيلة القرون والأعصار في فراغ، بل تمتّع بمواصفات رصينة وثمينة، علی رأسها:
الإيمان بالله والاتكال عليه، فاستوعب العلم النافع الذي هو نور الله يقذفه في قلب من يشاء. قال أبو الطيب اللغوي: «كان الخليل بن أحمد أزهد الناس وأعلاهم نفساً وأشدهم تعفّفاً. ولقد كان الملوك يقصدونه ويعرضون له (عطاياهم) ولم يكن يفعل، وكان يعيش من بستان خلّفه أبوه بالخريبة وهي موضع بالبصرة».( أبو الطيب اللغوي. 1974. ص45). ونقل أبو البركات الأنباري في نزهة الألبّاء (ص 47) قول سفيان الثوري: «من أحبّ أن ينظر إلی رجل خلق من الذهب والمسك فلينظر إلی خليل بن أحمد».
ومن صفاته: التعقل والتدبر في نظام الكون. وفقد وصفه ابن المقفع بأن «عقله أكثر من علمه» (الزبيدي. 1973. ص 49). كما وصف بأنه «أذكی العرب، وهو مفتاح العلوم ومصرّفها».( أبو الطيب اللغوي. 1974. ص 55)، العقل الذي مكنه من تأسيس قاعدة التقليب وقاعدة الدوائر. يری الباحث أن النظام الدائري هو ما يمليه التدبر في الكون المكوّن مما لاتعد ولاتحصی من الدوائر؛ من أصغر صغائره في المقياس الذري، إلی أكبر كبائره المادية في عوالم المجرات، والتي برأي المؤلف آيات إلهية لتمثيل دائرة الوجود التي تنطلق من الله وتختتم بالله فـ: ((هو الأول والآخر)) و((إنا لله وإنا إليه راجعون)). فالمفردة اللغوية الثلاثية مثلا تنقلب في عقلية الخليل لتبرز ست صيغ، وهكذا يظهر معجم العين، والتفعيلة الواحدة تنقلب في الدائرة العروضية الواحدة لتفرّع بحورا شتی من أصل واحد، وهكذا يظهر عروض الخليل. والواحد يصوّر نفسه في مرايا الكثرات، كما أن الله خلق العالم لإبراز قدراته وجمالاته. هذا ما يدعونا جميعا ويدعو العرب المعتزّين بمدرسة الخليل من اعتماد العقل أكثر فأكثر للكشف عن السنن الإلهية، سلوك سبيل الرشاد. والخليل أول من التفت إلی نفسه، إلی ذاته، إلی دقّات قلبه، ليقول للناس إن لهذا الإيقاع دلالة قوية، علينا أن نستفيد منها لابتكار أفكار خلاقة. لقد كانت تأملاته في انسجام تلك الإيقاعات عميقة وذات فائدة كبری، ولعل الآية الكريمة التي تقول: ((وفي أنفسكم أفلاتبصرون)) كانت له قبسا هداه إلی طريقه نحو الاختراع والابتكار».( عبد الهادي التازي. 2005. ص1)
• كما آمن الخليل بأصل «التكامل المعرفي». فالخليل ربط بين مستجدات مختلف العلوم، وكانت العلوم عنده تتفاعل وتتكامل، وتكمل بعضها البعض الآخر، وتجري عليها قاعدة : «الأواني المستطرقة» الشهيرة في الفيزياء. هذا ما تتوخاه نظرية الحكمة عندنا، وعدم القول بفصل مسارات العلوم العقلية والتجريبية والإنسانية، كما فعل الخليل بدمج الحس الموسيقي والذوق الأدبي بعمليات رياضية بحتة لانكاد نجد بينهما أية صلة وقرابة.
الإبداع؛ أسلوب الخليل ووصيته الخالدة
بينما يقدّر الباحث مكانة الخليل بن أحمد رائد علم العروض بلا منازع، وينبهر بطاقاته الإبداعية في مجالات شتی من العلوم اللغوية والأدبية، يؤاخذ علی بعض المحققين العرب إصرارهم علی حصر علم العروض في القواعد الخليلية وتعبيراته وتصنيفاته حتی علی الشعر العربي فكيف بالشعر الفارسي المختلف عن الشعر العربي. يتأسف الباحث من أن قدسية الخليل بن أحمد رحمه الله ومكانته السامية حالت دون تفكير معظم علماء العروض من العرب والفرس في نقائص النظام الخليلي. فرووا أن الخليل دعا الله عندما جاور بيته المحرم أن يرزقه علما لم يسبقه إليه أحد، فنوّر الله قلبه وألهمه علم العروض الذي سمي عروضا لتسمية مكة بهذا الاسم. لكنهم نسوا أن يحذوا حذو الخليل في استدعاء الله لطلب الإبداع، وركن بعضهم إلی سنة التقليد المحض، واعتبروا كل تجديد في عروض الخليل مخلا بقدسيته، وارتكبوا خطأ جسيما بالقول بأن : «كل مقدس ثابت» ونسوا آيات الرحمن المقدسة والمتغيرة في نفس الوقت في اختلاف الليل والنهار واختلاف الفصول والسنوات وحقائق الكون المكتظة بالاختلاف والمستمرة في التجديد والتغيير. يری المؤلف أن الخليل لو كان الآن حيا يرزق بيننا لكان يدعو الله مرة أخری أن يرزقه من جديد علما لم يسبقه إليه أحد. ثم لايعترف هذا الباحث بعلم يبتكره أحد من غير مثال سابق ويبنيه وحده بناء متكاملا لاتغيره صروف الدهر ولايعتوره الحدثان، ويذكر المقولة الإلهية: ﴿ وما أوتيتم من العلم إلا قليلا﴾. ما أشبه العلم البشري بنهر لابدّ أن يجري ويتحرك، وإن لم يتحرك فالمستنقع ينتظره ويفسده. يتفق العالم اليوم برمته علی ضرورة تحديث العلوم وتسهيل طرقها وركونها للنقد الدائم، وعلوم العربية واللغوية والأدبية من صرفها ونحوها وبلاغتها وعروضها ليست بمعزل عن سنة التغيير. يتعرض المؤلف هنا لأنظمة عروضية بديلة عند المحققين الجدد لتفادي نواقص مدرسة الخليل، علی سبيل المثال من طرف الفرس:
• أبدع الدكتور خانلري نظاما آخر بجعل «الأتانين» بدل «التفاعيل». وللمثال وزن الرمل (فاعلاتن فاعلاتن فاعلن) يبدل إلی (چامه آوا چامه آوا خوشنوا). حسب طريقته تدرج بحور الشعر الفارسي الكثيرة الاستعمال في تسع دوائر و23 بحرا.
• وبدّل فرزاد وزن الرمل إلی: (فاعلن مستفعلن مستفعلن)
• وبدّله كابلي إلی العروض الرقمي : (11، 4، 2 : 4)
• وبدّله صدري إلی : (خشنواها خشنواها خشنوا). حسب طريقته تدرج أنواع الشعر الفارسي حسب خمس تفعيلات (نوا-آوا- بنوا- خشنوا و خشبنوا) في 20 بحرا.
• والمحققون العرب بدورهم عرضوا بدائل. ومنها: اجتهادات الأستاذ الدكتور محمد كاظم البناء بجعل بحري المتقارب والهزج في دائرة واحدة مثلا.(في مقدمة كتاب خاقاني.2007)
1-
الخليل بن أحمد الفراهيدي رمز التواصل المعرفي العربي الفارسي
الملخص
إن بين العرب والفرس علاقات جوار في الأرض وعلاقات أخوة في السماء، مكتظة بأنماط من الأخذ والعطاء، متجذرة في أعماق التاريخ.
والعلامة الخليل بن أحمد الفراهيدي رمز كبير من رموز التواصل المعرفي والعلمي والفني بين الشعبين العربي والفارسي من شرائح الأمة الإسلامية. فقد انحدر من أصل فارسي، وترعرع في أحضان العرب من العمانيين واليمانيين، وتثقف عند البصريين، وأخذ من الفرس المقامات الموسيقية، وزودهم بعلم العروض.
وقد ذهب جل المحققين العرب علی أن الفرس خدموا اللغة العربية بدورهم الريادي في تأسيس قواعد العربية عبر كتاب سيبويه وتأسيس البلاغة العربية عبر كتب عبد القاهر الجرجاني، لكنهم مدينون للعرب بأخذ العروض الشعري منهم. والعروض عندهم تقليد صرف عن العروض العربي الذي قننه الخليل. بالمقابل، ينفي بعض المحققين الفرس تطابق العروض الفارسي مع العروض العربي في أوزان الشعر، ويری الخليل بن أحمد مقلدا من الأنظمة العروضية الهندية أو المقامات الموسيقية الإيرانية.
لذلك نعالج في هذا البحث حيثيات الأخذ والعطاء بين العرب والفرس في علم العروض، واستعانة المرحوم الخليل بخلفية حضارية ثقافية فارسية في إبداعاته وابتكاراته العلمية.
الكلمات الأساسية :
العروض الفارسي - العروض العربي - الموسيقی العربية - الموسيقی الإيرانية - الخليل بن أحمد الفراهيدي
****
المقدمة
إن بين العرب والفرس علاقات متجذرة في أعماق التاريخ، فأخذت العرب من الفرس قسطا من مفرداتهم ومنها كلمة «تاريخ» نفسها المعربة من لفظة «تاريك»، وقد وردت في القرآن الكريم عشرات منها، وكما أخذ الفرس من العرب حظا وافرا وجما غفيرا من مفرداتهم التي شكلت الغالبية العظمی من لغتهم ومفرداتهم.
إن بين العرب والفرس «توحدا ثقافيا» عظيما، و«تنوعا ثقافيا» عظيما.
نجمت مظاهر الوحدة والاشتراك من سبب فاق إرادتهم وهو علاقات الجوار، وسبب آخر حصل بإرادتهم، وهو اعتناق الإسلام.
امتزج الفرس بالعرب بانفتاحهم علی الإسلام، ومن ثم علی اللغة العربية، وتعلموها وأتقنوها، وأبدعوا في تأسيس علومها من صرفها ونحوها وبلاغتها وشعرها وأدبها، فاتحدوا بالعرب دينا وشريعة.
واختلفوا معهم في خصوصيات ثقافية لم يروها مخلّة بشريعة الإسلام، فرجعوا إلی لغتهم الفارسية ولم يرحبوا بمحاولات التعريب. ألفوا معظم علومهم وأنشدوا شطرا من أشعارهم بالعربية، أما في الحوار اليومي فرغم أن المفردات العربية طغت علی الفارسية وشكلت 80% من مجموع المفردات الفارسية في بعض الفترات السابقة وهي الآن تشكل نسبة 60% من فارسية اليوم، لكن اللغة الفارسية ظلت قائمة في مستوياتها الصوتية والصرفية والنحوية كما غيرت في المستوی الدلالي كثيرا من معاني المفردات العربية التي بقيت فيها. والسبب كما يراه بعض المحققين راجع إلی التركيبة اللغوية الفارسية باعتبارها إحدی اللغات الهند أوروبية التي تختلف جذريا مع فصيلة اللغات السامية ومنها العربية. وبالنتيجة أصبحت الفارسية قريبة ممتزجة إلی أبعد الحدود بالعربية في مفرداتها، وظلّت في نفس الوقت بعيدة جدا عن العربية في سائر شؤونها اللغوية.
من هنا ننتقل إلی موضوعنا الرئيس عن موسيقی الشعر في الأدبين العربي والفارسي. نجد أنهما متفقان ومختلفان في نفس الوقت وإلی أبعد الحدود!... والنـزاع بين المحققين في المشترك والمختلف بينهما صاخب، كالنـزاع بين دعاة العولمة وأنصار الخصخصة، وأصحاب التوحد الثقافي وأحباب التنوع الثقافي. فذهب بعضهم إلی أن العروض الفارسي تقليد محض عن العروض العربي الذي ابتكره ورسم معالمه المرحوم الخليل بن أحمد الفراهيدي، وذهب آخرون إلی عدم تلاءم الشعر الفارسي مع العروض الخليلي، ودعوا إلی تحريره من هذه القيود التي كبّلتها.
من هنا تمخّضت فكرة تأليف كتاب لدراسة مستفيضة عن أنظمة الشعر في العربية والفارسية، بعد أن خاض هذا التلميذ الفقير في غمار العروض بمشاركته في مؤتمر دولي أقيم تكريما لروح الخليل في المغرب، ثم في الأيام الثقافية العمانية في باريس احتفالا بمسقط عاصمة الثقافة العربية عام 2006. ورفع اقتراح تأليف هذا الكتاب إلی اللجنة الوطنية العمانية للتربية والثقافة والعلوم، وطبع سنة 2007 وتم تدشينه في حفل أقامته وزارة التربية والتعليم العمانية يوم الواحد والعشرين من مايو 2007 بمناسبة اليوم العالمي للتنوع الثقافي.
لذلك نعالج في هذا البحث حيثيات الأخذ والعطاء بين العرب والفرس في علم العروض، واستعانة المرحوم الخليل بخلفية حضارية ثقافية فارسية في إبداعاته وابتكاراته العلمية.
الخليل بن أحمد والجدال علی أصله ونسبه
ثمة شعوب شتی تدعي أن الخليل ملك لهم، فاحتجّ العمانيون واليمانيون بولادته في هذه المنطقة، والسعوديون بانتسابه إلی قبيلة فرهود الباقية في أرضهم، والعراقيون بتلقي ثقافته في مدرسة البصرة، ومما زاد الطين بلّة أن الإيرانيين احتجوا بأصله الفارسي. واستشهدوا بقول ابن خلكان في وفيات الأعيان(1978) حيث يعتبره من أولاد الملوك العجم الذين ولاهم الملك أنوشروان حكومة اليمن، وكان سيبويه أيضا من نفس هذه الأسرة.(ابن خلكان.1980)
وقيل عن مذهبه إنه انتقل مع أهله إلی البصرة صغيراً، وسكن في ظاهرة البصرة، وشب وهو إباضي أو صفريّ. وقد تحدث عن نفسه وقال: ”قدمت من عمان ورأيي رأي الصفرية، فجلست إلی أيوب بن أبي تميمة فسمعته يقول: إذا أردت أن تعلم علم أستاذك فجالس غيره، فظننت أنه يعنيني، فزمته، ونفعني الله به. (نور القبس 56). وعن أيوب هذا أخذ الخليل الحديث والفقه، وترك رأي قومه إلی أستاذه ورأي العامة من المسلمين. (المخزومي: 25)
لكن الشيعة الإمامية يعتبرونه إمامي المذهب، وقد عده ابن إدريس في مستطرفات السرائر ”من كبراء أصحابنا“.
وفي ”رياض العلماء“: كان الخليل علی ما قاله الأصحاب من أصحاب الإمام الصادق، ويروى عنه. و يتابع أن الخليل جليل القدر عظيم الشأن أفضل الناس في علم الأدب، وكان إمامي المذهب، وكان في عصر مولانا الصادق بل الباقر عليهما السلام، وكان إماماً في علم النحو واللغة.
وقال الشيخ بهاء الدين العاملي الملقب بالشيخ البهائي في حواشي ”الخلاصة“ إنه كان من أصحاب الإمام الصادق عليه السلام.
وأما عن علومه فادعی أبوريحان البيروني في كتابه «تحقيق ما للهند» أن الخليل اقتبس نظامه العروضي من العروض الهندي وذكر أن مبتكر علم العروض في الهند شخص اسمه پنكل وچلت وأهم كتاب عن العروض الهندي هو «گيست» وقد سمّي باسم مؤلفه. وأيده بعض المحققين العرب حسب نقل الدكتور خانلري (1367، ص85). وأقر المؤلف محمود مصطفی وهو باحث عربي في كتابه : «أهدی سبيل إلی علمي الخليل : العروض القافية» أن أصله فارسي(محمود مصطفی. بدون تاريخ.ص9). كما يدعي الباحث الانكليزي مارگليوث أن العرب لم يشتغلوا بالشعر قبل الإسلام، والمقصود بالشعراء في القرآن ليس من أنشدوا الشعر قصد بها الكهنة الذين كانوا يدّعون أن الجن يزودونهم بأخبار الغيب كما نری في الجملة الشهيرة: «إن لكل شاعر شيطانا يوحي إليه».والعرب تأثروا بالفرس في الإقبال إلی الشعر بعد رواج بعض التصنيفات الموسيقية الإيرانية بينهم(كاميار.1370، 31). وأقرّ الدكتور يوسف بكار أستاذ العروض والنقد الأدبي في جامعة اليرموك أن «الإشعاعات العروضية الهندية السنسكريتية والفارسية والفارسية واليونانية كان لها بعض تأثير في الخليل وهو يقنّن للعروض».(بكار،2005).
وقد اعترف الدكتور عبد الهادي التازي عضو آكاديمية المملكة المغربية بتأثر الخليل بالفكر الفارسي عندما قال في بحث ألقاء السنة الماضية في مؤتمر الأيام الثقافية العمانية بباريس: «لايمكن للمهتمين بالخليل أن يتجاهلوا أثر مقام الخليل في مدينة البصرة، وهي النافذة وقتها علی مختلف الحضارات، ومن أجل ذلك لابد أن نجد في اختياره البصرة بالذات مبررا لذلك الانفتاح علی الفكر الفارسي. إن ما ابتكره الخليل من آراء، كان يعبر عن تجاوب حضارات متفاعلة أسهم فيها بصفة متميزة عجز عنها معاصروه».
لكن المؤلف يتذكر خبر نقل الحجر الأسود بعد نزاع القبائل العربية عليه فجاء محمد الأمين(صلى الله عليه و آله و سلم) ووضع الحجر في عبايته وسمح لرؤساء كل القبائل أن يتشرفوا بنقله لوضعه في ركن البيت الحرام. فلابأس أن يتشرف أكثر من شعب بمكانة الخليل وتشمل عباءته حجر العلم والحضارة لكل المسلمين. يری المؤلف أن أكثر الشعوب تشرّفا بشخصية الخليل هو الأكثر نشاطا في اكتشاف علمه ونقل تراثه إلی المجتمع البشري.
الخليل بن أحمد ودوره في تأسيس علم العروض
يقرّ المؤلف بما يتفق عليه العرب والفرس من أن العلامة الخليل بن أحمد العماني المولد البصري النشأة كان هو الرائد بلامنازع لعلم العروض. هو الذي استغلّ حسه الموسيقي المرهف لتذوّق الشعر، واستغل عقليته الرياضية الفذة لإبداع نظام رائع لضبط قواعد الشعر بتطبيق قاعدة التقليب الثابت علی بحور الشعر. وكان أول من أرسی قواعد علم العروض و«استنبط منه ومن علله ما لم يستخرج أحد، ولم يسبقه إلی مثله سابق من العلماء كلهم».(ابن سلام د.ت. ج1 ص22).
صمد هذا النظام العروضي عدة قرون، وسيطر علی ذهنية علماء العروض لا في الشعوب العربية فحسب، بل تجاوز العرب ليطبّق علی أنظمة الشعر غير العربي كالعبري والفارسي، فحذا علماء العروض الفرس حذوه، واعترف بعضهم أن لا عروض للفرس إلا ما نص عليه الخليل في بحوره ودوائره العروضية الخمس. فهو مؤسس علم العروض العربي والفارسي في آن واحد. قال حمزة بن حسن الأصفهاني: «إن دولة الإسلام لم تخرج أبدع للعلوم التي لم يكن لها أصل عند علماء العرب أفضل من الخليل، وليس علی ذلك برهان أوضح من علم العروض الذي لا عن حكيم أخذه ولا عن مثل تقدّمه احتذاه، وإنما اخترعه في ممرّ له بالصفارين من وقع مطرقة علی طست.( حمزة بن حسن الأصفهاني ص 134)
التفريق بين العروض وعلم العروض
لكن الباحث يفرق بين «العروض» باعتباره إيقاعا موسيقيا للشعر من جانب و«علم العروض» في مصطلحاته وتصنيفاته ودوائره من جانب آخر، ويری أن ما أخذه الفرس من الخليل ليس هو العروض والإيقاع الموسيقي. فلم يأخذ الفرس شاعريتهم من العرب، فكانوا ينشدون الشعر قبل الخليل وقبل الإسلام، وقد بقي لدينا من شعر الفرس قبل الإسلام أقسام من سفر : «گاثه ها» و«يشت ها» من كتاب أوستا للزردشت كما بقي شيء من أناشيد «ماني» وهو ممن ادعوا النبوة في إيران قبل الإسلام. كما كان العرب الجاهليون أيضا ينشدون الشعر علی سجيتهم دون تفكير في نظام الدوائر العروضية وإلمام بمصطلحاته. يری المؤلف أن الموسيقی الشعرية ليست ملكا لشعب دون آخر، بل هي موهبة فطرية ناتجة عن حب الجمال بأنواعه المرئية والمسموعة وغيرها. والجماليات الكلامية مركوزة في سجية البشر، وإن كانت الأمم والحضارات مختلفة في الانتماء إلی مظاهر شتی من الجمال.
اختلافات بين العروض العربي والفارسي
يری الباحث أن الاختلاف القائم بين العرب والفرس وغيرهم من الأمم في الركنين الأساسيين في الطبيعة البشرية أي العقل والإحساس، وطرق التفكير وأنماط الشعور قدر محتوم قدّره الله. وصرّح القرآن بجعل البشر شعوبا وقبائل لحكمة التعارف وحجة التكامل. لذلك من المستحيل أن يتفق شعبان وتتحد حضارتان وإن كانتا جارتين في سبل الحياة وفي العواطف والأحاسيس. فللعرب شعرهم وللفرس شعرهم. ومردّ هذا أن لا مجال لتطبيق موسيقی شعرية عربية علی الشعر الفارسي تطبيقا تاما و العكس صحيح أيضا.
الحقيقة أن العلماء الفرس أخذوا علم العروض عن العرب بمصطلحاته وتصنيفاته العلمية. ولا يعني هذا أن موسيقی الشعر الفارسي تسير في نفس الإيقاعات العربية. وقد تبلورت الفروق بين الشعرين العربي والفارسي في انحصار خمسة بحور عروضية خليلية في الشعر العربي دون الفارسي، وهي: الطويل والمديد والبسيط والوافر والكامل [ الدكتور إبراهيم أنيس يدعو الطويل والكامل والبسيط والوافر بالبحور القومية - فتأمل ]، حيث لم تنسجم مع طبيعة الفرس، والطويل وحده خصص ما يقرب من ثلث الشعر العربي القديم لنفسه (أنيس1972ص59). ولم تلق محاولات بعض الشعراء الفرس رواجا عندما أنشدوا قصائد فارسية علی هذه البحور، وبالمقابل، ظهرت ثلاثة بحور فارسية بحتة لا تتماشی مع الشعر العربي والسجية العربية، وهي بحور: القريب والغريب و المشاكل.
أما القريب فوزنه الأصلي:
مفاعيلن مفاعيلن فاعلاتن مفاعيلن مفاعيلن فاعلاتن
غريبی به بلا مبتلا شده است چه باشد كه گر ورا رها كنی
(مفاعيل مفاعيل فاعلان مفاعيل مفاعيل فاعلن).
والغريب: ووزنه الأصلي:
فاعلاتن فاعلاتن مستفعلن فاعلاتن فاعلاتن مستفعلن
دل من می چرا بری چون غم من نمی خوری
(فعلاتن مفاعلن فاعلاتن مفاعلن)
والمشاكل: الشعر الفهلوي (الفارسي القديم) علی هذا الوزن أكثر من الشعر الفارسي الحديث. وزنه:
فاع لات مفاعيل مفاعيل فاع لات مفاعيل مفاعيل
ای نگار سيه چشمِ سيه موی سرو قد نكورویِ نكوگوی
هذا شطر من الفوارق العروضية بين الشعر العربي والشعر الفارسي.
ميزات الخليل النفسية
يری الباحث أن الخليل بن أحمد لم ينل هذه المكانة العلمية المرموقة المستقرة طيلة القرون والأعصار في فراغ، بل تمتّع بمواصفات رصينة وثمينة، علی رأسها:
الإيمان بالله والاتكال عليه، فاستوعب العلم النافع الذي هو نور الله يقذفه في قلب من يشاء. قال أبو الطيب اللغوي: «كان الخليل بن أحمد أزهد الناس وأعلاهم نفساً وأشدهم تعفّفاً. ولقد كان الملوك يقصدونه ويعرضون له (عطاياهم) ولم يكن يفعل، وكان يعيش من بستان خلّفه أبوه بالخريبة وهي موضع بالبصرة».( أبو الطيب اللغوي. 1974. ص45). ونقل أبو البركات الأنباري في نزهة الألبّاء (ص 47) قول سفيان الثوري: «من أحبّ أن ينظر إلی رجل خلق من الذهب والمسك فلينظر إلی خليل بن أحمد».
ومن صفاته: التعقل والتدبر في نظام الكون. وفقد وصفه ابن المقفع بأن «عقله أكثر من علمه» (الزبيدي. 1973. ص 49). كما وصف بأنه «أذكی العرب، وهو مفتاح العلوم ومصرّفها».( أبو الطيب اللغوي. 1974. ص 55)، العقل الذي مكنه من تأسيس قاعدة التقليب وقاعدة الدوائر. يری الباحث أن النظام الدائري هو ما يمليه التدبر في الكون المكوّن مما لاتعد ولاتحصی من الدوائر؛ من أصغر صغائره في المقياس الذري، إلی أكبر كبائره المادية في عوالم المجرات، والتي برأي المؤلف آيات إلهية لتمثيل دائرة الوجود التي تنطلق من الله وتختتم بالله فـ: ((هو الأول والآخر)) و((إنا لله وإنا إليه راجعون)). فالمفردة اللغوية الثلاثية مثلا تنقلب في عقلية الخليل لتبرز ست صيغ، وهكذا يظهر معجم العين، والتفعيلة الواحدة تنقلب في الدائرة العروضية الواحدة لتفرّع بحورا شتی من أصل واحد، وهكذا يظهر عروض الخليل. والواحد يصوّر نفسه في مرايا الكثرات، كما أن الله خلق العالم لإبراز قدراته وجمالاته. هذا ما يدعونا جميعا ويدعو العرب المعتزّين بمدرسة الخليل من اعتماد العقل أكثر فأكثر للكشف عن السنن الإلهية، سلوك سبيل الرشاد. والخليل أول من التفت إلی نفسه، إلی ذاته، إلی دقّات قلبه، ليقول للناس إن لهذا الإيقاع دلالة قوية، علينا أن نستفيد منها لابتكار أفكار خلاقة. لقد كانت تأملاته في انسجام تلك الإيقاعات عميقة وذات فائدة كبری، ولعل الآية الكريمة التي تقول: ((وفي أنفسكم أفلاتبصرون)) كانت له قبسا هداه إلی طريقه نحو الاختراع والابتكار».( عبد الهادي التازي. 2005. ص1)
• كما آمن الخليل بأصل «التكامل المعرفي». فالخليل ربط بين مستجدات مختلف العلوم، وكانت العلوم عنده تتفاعل وتتكامل، وتكمل بعضها البعض الآخر، وتجري عليها قاعدة : «الأواني المستطرقة» الشهيرة في الفيزياء. هذا ما تتوخاه نظرية الحكمة عندنا، وعدم القول بفصل مسارات العلوم العقلية والتجريبية والإنسانية، كما فعل الخليل بدمج الحس الموسيقي والذوق الأدبي بعمليات رياضية بحتة لانكاد نجد بينهما أية صلة وقرابة.
الإبداع؛ أسلوب الخليل ووصيته الخالدة
بينما يقدّر الباحث مكانة الخليل بن أحمد رائد علم العروض بلا منازع، وينبهر بطاقاته الإبداعية في مجالات شتی من العلوم اللغوية والأدبية، يؤاخذ علی بعض المحققين العرب إصرارهم علی حصر علم العروض في القواعد الخليلية وتعبيراته وتصنيفاته حتی علی الشعر العربي فكيف بالشعر الفارسي المختلف عن الشعر العربي. يتأسف الباحث من أن قدسية الخليل بن أحمد رحمه الله ومكانته السامية حالت دون تفكير معظم علماء العروض من العرب والفرس في نقائص النظام الخليلي. فرووا أن الخليل دعا الله عندما جاور بيته المحرم أن يرزقه علما لم يسبقه إليه أحد، فنوّر الله قلبه وألهمه علم العروض الذي سمي عروضا لتسمية مكة بهذا الاسم. لكنهم نسوا أن يحذوا حذو الخليل في استدعاء الله لطلب الإبداع، وركن بعضهم إلی سنة التقليد المحض، واعتبروا كل تجديد في عروض الخليل مخلا بقدسيته، وارتكبوا خطأ جسيما بالقول بأن : «كل مقدس ثابت» ونسوا آيات الرحمن المقدسة والمتغيرة في نفس الوقت في اختلاف الليل والنهار واختلاف الفصول والسنوات وحقائق الكون المكتظة بالاختلاف والمستمرة في التجديد والتغيير. يری المؤلف أن الخليل لو كان الآن حيا يرزق بيننا لكان يدعو الله مرة أخری أن يرزقه من جديد علما لم يسبقه إليه أحد. ثم لايعترف هذا الباحث بعلم يبتكره أحد من غير مثال سابق ويبنيه وحده بناء متكاملا لاتغيره صروف الدهر ولايعتوره الحدثان، ويذكر المقولة الإلهية: ﴿ وما أوتيتم من العلم إلا قليلا﴾. ما أشبه العلم البشري بنهر لابدّ أن يجري ويتحرك، وإن لم يتحرك فالمستنقع ينتظره ويفسده. يتفق العالم اليوم برمته علی ضرورة تحديث العلوم وتسهيل طرقها وركونها للنقد الدائم، وعلوم العربية واللغوية والأدبية من صرفها ونحوها وبلاغتها وعروضها ليست بمعزل عن سنة التغيير. يتعرض المؤلف هنا لأنظمة عروضية بديلة عند المحققين الجدد لتفادي نواقص مدرسة الخليل، علی سبيل المثال من طرف الفرس:
• أبدع الدكتور خانلري نظاما آخر بجعل «الأتانين» بدل «التفاعيل». وللمثال وزن الرمل (فاعلاتن فاعلاتن فاعلن) يبدل إلی (چامه آوا چامه آوا خوشنوا). حسب طريقته تدرج بحور الشعر الفارسي الكثيرة الاستعمال في تسع دوائر و23 بحرا.
• وبدّل فرزاد وزن الرمل إلی: (فاعلن مستفعلن مستفعلن)
• وبدّله كابلي إلی العروض الرقمي : (11، 4، 2 : 4)
• وبدّله صدري إلی : (خشنواها خشنواها خشنوا). حسب طريقته تدرج أنواع الشعر الفارسي حسب خمس تفعيلات (نوا-آوا- بنوا- خشنوا و خشبنوا) في 20 بحرا.
• والمحققون العرب بدورهم عرضوا بدائل. ومنها: اجتهادات الأستاذ الدكتور محمد كاظم البناء بجعل بحري المتقارب والهزج في دائرة واحدة مثلا.(في مقدمة كتاب خاقاني.2007)