07-29-2004, 04:19 PM
أقدم للقارئ العزيز هذا المقال عن الشاعر الشامي محمد البزم رحمه الله:
وأهدف من أمثال هذه التقديمات إلى هدف مبدئي يشغلني منذ القديم هو تعريف أدباء الضاد من البلاد المختلفة بالشعر العربي الذي لا يعرفونه.
وقد كنت في الثمانينات الميلادية ينظر إلي ببعض الاستغراب بين أصدقائي لانفرادي تقريباً بمحاولة التعرف على الثقافة السعودية المعاصرة وتجميع ما ينشر في الصحف منها وكانت شبه مجهولة في الشام.
وكذلك أظن أدباء الشام مجهولين في السعودية والمغرب وخصوصاً منهم أولئك الذين سبقوا "عصر الحداثة":
أما الهدف الخاص هنا فهو تقديم تجربة إنسان نشأ شبه أمي ثم ترقى كبيراً في علم العربية حتى أصبح معلماً للعربية وشاعراً مفلقاً ينسب إلى التقعر اللغوي والمبالغة في توخي الفصحى التقليدية إلى درجة الإغراب!
المقال نشر في جريدة "الأسبوع الأدبي السورية" وهذا موقعها:
http://www.awu-dam.org/alesbouh%20802/917/isb917-029.htm
والطريف هنا هو تدخل "المصحح" لتصحيح أبيات شعرية كانت صحيحة لولا "تصحيحاته" وقد اجتهدت لمعرفة الأصل في هذه العجالة فلم أستطع إلا بعض التصحيح وأترك للشعراء محاولة تصحيح الآخر!
هذه بعض تصحيحاتي
وضعت "انشد" مكان "أنشد" حاذفاً همزة القطع مكان في البيت
لا تبك أوطاناً ولا سكنا يا خير، وانشد غيرها وطنا
وحذفت الواو التي وضعها أخونا في الشطر
أشرق وانتبه واربأ بنفسك وانتهج!
لتصبح طبعاً
أشرق انتبه واربأ بنفسك وانتهج
والمصحح المحترم أضاف ألفاً إلى "السؤل" في الشطر
فليس ينال السؤل من كان لاهيا
فأصبحت
فليس ينال السؤال من كان لاهياً!
فحذفتها.
وأتمنى أن يتكرم أحد القراء فيصحح الأبيات التي رأيت أنها تحتاج إلى بعض التفرغ لتصحيحها والوقت عندي في هذه الآونة مع الأسف ضيق:
"جاوزت طورك يا زونك فاصرف عن الخيلاء ظعنك
فلقد بلوتك لا أقول الكذب فاستبدلت ذهنك
ولو انني جاهرت بالحق الصراح لقلت إنك (صححت وضع الهمزتين لوضوح الخطأ وسهولة تصحيحه!)
دريد الفؤاد محمق لا يعلم الخلطاء لونك
غر، وتزعم، ضل زعمـ ـك، إنك الضرب المحنك (لعل هذا البيت لا خطأ فيه)
خرف الشيوخ، ونزوة الفرفور قد حيرت قرنك (وهذا أيضاً أظنه لا خطأ فيه)
المقال:
الشاعر محمد البزم (1887-1955) ـــ غسان كلاس
ولد الشاعر محمد بن محمود بن محمد بن سليم البزم عام 1887 في بيت كبير في بيوت الشاغور، وأصل العائلة من العراق، حيث هبط أحد أجداده جلق جاليا منذ أكثر من مائتي سنة، وقد احترفت أسرته التجارة، وكان جده من وجهاء دمشق...
في هذه الأسرة نشأ شاعرنا، وقد امتلأت نفسه إعجاباً بجده ورهبة من أبيه، وكان شاعرنا أول حفيد في هذه الأسرة، ولم تساعده البيئة التجارية التي نشأ فيها على الانصراف إلى العلم "قاربت سني العشرين وأنا لا أعلم من القراءة إلا بعض سور قصار من القرآن ونزراً من الآي التي يكثر جريها على الألسنة، مما لقنته عند الخوجة... وقد كتب لي مرة أن أصحب عمي في بعض أسفاره إلى بيروت، وعند أوبتنا، هبطنا بلدة الزبداني فرأى عمي في يد أحد سائحي الدراويش المجلد الثاني من كتاب المستطرف للابشيهي فشراه منه بثمن بخس على غير عادة منه باقتناء الكتب، فكان أول كتاب عرفته غير أقاصيص وسير، كنا نسمر بها ليالي الشتاء، بل كان باكورة عدتي الأدبية لانكبابي وإلحاحي عليه بالمطالعة والتكرار، وإن لم أكن أفقه مما أقرأ إلا قليلاً...".
"وأتيح لي أن دخلت مرة مع صديق لي المكتبة الظاهرية فأخذت أنظر في شتى الكتب من أدب واجتماع وتاريخ وفنون فأبهت إذ ذاك لضرورة درس العربية وفنونها.
فطفقت أنا والصديق خير الدين الزركلي ننتاب حلقات شيوخ الفيحاء... حتى قذفتنا الهداية إلى العلامة عبد القادر بدران فقرأنا عليه في عدة شهور شيئاً من ديوان المتنبي ونحواً من مغني اللبيب لابن هشام وصدراً من دلائل الإعجاز للجرجاني، ثم اتصلنا بنابغة علماء دمشق جمال الدين القاسمي فقرأنا عليه كتباً في العربية والبلاغة والمنطق... ثم صالح التونسي فقرأنا عليه كتباً في علمي الكلام والمنطق وأخرى في العربية والأصول... ثم انصرفت إلى المطالعة بنفسي...".
وكما يقول إسماعيل عبد الكريم حسن في رسالته (شعر محمد البزم) التي أعدها في عام 1970 لنيل درجة الماجستير في الآداب: كانت مطالعات البزم خصبة كل الخصوبة، فلم يكد يدع كتاباً عربياً مطبوعاً يقع بين يديه من غير أن يطالعه ومع ولع بقراءة الدواوين الشعرية القديمة، ولا سيما دواوين الشعراء الأعلام، وفي مقدمتهم: أبو تمام والمتنبي والمعري والبحتري وعنترة وامرؤ القيس وبشار بن برد وأبو نواس وابن الرومي وابن زيدون، وكل ما طبع من الآثار النثرية على اختلاف موضوعاتها وفي مقدمتها كتب المعري والجاحظ.. ويضيف إسماعيل حسن... وقد تلمذ لأبي تمام والبحتري في فنه ولعنترة في حماسته وللمتنبي في قوته وطموحه ولأبي العلاء في تشاؤمه وسوء نظرته للحياة والناس، وتأثر باللزوميات ورسالة الغفران تأثراً واضحاً. هذا مع قراءته كل ما يطبع من أدب حديث، وكان معجباً بشوقي وحافظ والزركلي والشبيبي إعجاباً شديداً، على قلة من يعجبه من الشعراء المحدثين... وكان كثير المطالعة للقرآن الكريم عميق الغوص في شروحه وتفاسيره، وإنه إذا أراد أن يكتب أو ينظم، كما يقول أنور العطار، عكف على القرآن يتلو آياته البينات حتى إذا امتلأت نفسه ببلاغته وسحر بيانه فرغ إلى الكتابة أو النظم...
بهذا كله، استطاع محمد البزم أن ينتقل من ميدان الجهل شبه أميّ لا يكاد يعرف القراءة والكتابة إلى ميدان العلم مدرساً لعلوم اللغة العربية وآدابها، مما لا نكاد نجد له مثيلاً في تاريخ الأدب الحديث.
وعن بدء نظمه للشعر يقول "أول ما نظمت من الشعر الموزون بيتين وضعت بهما نفسي، وقد أغراني أحد الرفاق فجرعت من الخمر ما قدرته بعشرين درهماً فخيل إلي أن الأرض تهوي بي صعداً، فقلت:
شربت من الصهباء عشرين درهماً
فخيل لي أني صعدت إلى السما
وصافحني المريخ، والبدر قال لي:
الاعم صباحاً أيها الخدن واسلما
بعد موت أبيه، وتقاسمه الميراث مع عمه، أهوى بحصته بمعول التبذير فباع نصيبه من البيت الكبير وباع الدكاكين وما فيها من بضاعة وأنفق كل ذلك على الخمر والميسر والمرأة.
بعد انصرافه عن العمل التجاري انتدبه كامل قصاب مدرساً لفنون البلاغة والإنشاء في مدرسته العثمانية... وإبان الحكم الوطني، وهو المتهم بإثارة الرأي العام بشعره الوطني والقومي، قبضت عليه السلطات الفرنسية وأودعته السجن، ولكنه –بعد خروجه- كان أكثر إصراراً على متابعة النضال القومي:
لا السجن يردعه ولا أغلاله
عن غاية تسمو لها آماله
وفي ظل دأب الفرنسيين محاربة الأحرار في أرزاقهم، والأمراض التي بدأت تنغص على الشاعر عيشه،... تلونت حياته بألوان سوداء قاتمة ضيقت عليه العيش في سورية التي أحب، وعزم السفر إلى مصر أو العراق، وقد عارض- لليأس الذي ألم به- قصيدة الزركلي (العين بعد فراقها الوطنا...):
لا تبك أوطاناً ولا سكنا
يا خير، وانشد غيرها وطنا
فبذا جرى حكم القضاء بنا
أنت الغريب معذباً وأنا
ثاو على الفيحاء ذو أرق
متحرق أتصيد الوسنا
ولكن شاءت الأقدار ألا يغادر شاعرنا، حيث عين معلماً للغة العربية في مدرسة السمانة الرسمية الابتدائية بدمشق، ومن ثم تجهيز دمشق. وكان من زملائه في الأخيرة: عبد القادر البازك، سليم الجندي، وكان الثلاثة فيما بين الدروس يفرغون للمناقشة في شؤون اللغة والأدب... وفي 26 كانون الثاني 1942 حقق طموحه بعضوية المجمع العلمي العربي بدمشق.
وكما يذكر حسن: ألمت أمراض شديدة قاسية على الأستاذ محمد البزم، وهو دون الأربعين من عمره، تلاحقه بأوجالها وأوصابها وآلامها الممضة بقية حياته، فانتشرت الشكوى من المرض في ديوانه، وكثرت الشكوى من المرض في حياته، فإذا تمنى عليه أحد أصدقائه قدري الحكيم (1937) أن يقوم بطبع ديوانه بعد عشر سنوات أجابه: أأنا أعيش عشر سنوات، وإنّ فيّ بقية لو وزعت على الكلاب لعافتها. ويجيب من يسأله على صحته: إن فيّ ثلاثين علة أيسرها الناسور، وعلى حد تعبيره كان صيدلية متنقلة!
وبعد إقامته ثلاث سنوات في المشفى العسكري بالمزة توقف في صباح الثاني عشر من أيلول 1955 قلب شاعرنا الكبير...
لقد كانت القوة أبرز سمة في شخصية البزم، وهي سمة أصيلة فيه ورثها فيما ورث عن أبيه وجده وأصله العربي، ثم عملت بيئته وثقافته وأحداث عصره وطبيعة عمله على زيادتها ونمائها فظل محتفظاً بها حتى مات على الرغم من عوامل الضعف الكثيرة التي أحاطت بحياته. وكانت الشيم العربية، أيضاً، والأخلاق العربية ممتزجة بدمه امتزاج الروح بالجسد. كأنه كما يقول إسماعيل حسن-إنسان نسيته البادية في عصر من عصورها الأولى في دمشق، ثم تولت عنه وكانت لغته العربية الفصحى شاهداً عدلاً على ذلك، وكان يتكلمها بيسر عجيب كما يقول إبراهيم الكيلاني..
ويصف إسماعيل حسن البزم: قامة طويلة ومنكبان عريضان ورأس كبير شامخ وشعر أسود وخطه الشيب ووجه أسمر مشرب ببياض خفيف، ومنظر بهي حسن، وحركات هادئة، ونفس وديعة، وابتسامة ساخرة، لا تكاد تبرح شفتيه، وصوت جهوري صافي النبرات رائع النغم ينصب في الآذان انصباباً أخاذاً، ولغته فصيحة حلوة ملونة... وثقافة ثقفها وطبعها بطابعه فأصبح لها لون شخصيته، بل أصبحت جزءاً من شخصيته لا في الأدب فحسب بل في النحو أيضاً...
ويرى إسماعيل حسن، عند حديثه عن التكوين النفسي للشاعر، إن محنته الكبرى في صلته بالناس عامة، وفي صلته بأهله خاصة، على ما في قلبه من رقة وفي عقله من مثل ثم قست عليه الحياة وقسا عليه الناس وثقلت عليه أمراضه، وثقلت عليه آلامه، ولم يتح له الأمر في كبره كما يتح له في صغره فزادت عقده واستعصى حلها عليه، ومن هنا كثر تمنيه الموت لنفسه.
لقد طمح محمد البزم أن يكون شعره تصويراً للحياة، وللحياة القوية خاصة، وأن يجمع فيه إلى قوة المتنبي مثالية أبي العلاء المعري وعقل أبي تمام وفن البحتري والتزام الشاعر الحديث بقضايا الأمة، وقد صب ذلك كله –كما يقول إسماعيل حسن في رسالته القيمة المشار إليها- في أسلوب قوي لا يتنكر لأسلوب الفحول من شعراء العربية الأوائل ولا لبنية القصيدة العربية التقليدية وكانت روح التحدي والطموح والمغالبة وحب التفوق حافزاً له على التجويد وكانت حساسيته المرهفة تشع على كل ما يقول حياة وحرارة وقوة.
فالشعر عنده التزام بقضايا الأمة، وهو يعد نفسه شاعراً ملتزماً، فيربط نفسه بأمته ربطاً وثيقاً، كما ربط الشعراء قبله أنفسهم بالقبيلة أو الأمة، فيقول:
وهل أنا إلا واحد من بني أبي
إذا اعتز شان العرب يعتز جانبه
ويرى أن عليه مسؤولية قومية نحو أمته لا قيمة لشعره إلا بها:
إذا أنا لم أنهض لإسعاد أمتي
عزائم مرخاة عليها ستورها
فلا حملت كفي اليراعة ترتمي
على مهرق يصمي القلوب صريرها
لقد عرف البزم للشعر القومي قيمته في إيقاظ الأمم فعاش قضايا سورية خاصة والوطن العربي عامة، بقدر ما يستطيع أن يعيشها، وكان شعره القومي أضخم أغراضه وأهمها، وقد اتخذه وسيلة لنفخ روح العزة والقوة في الأمة العربية وكان شعره الاجتماعي دعوة لرقي الأمة والنهوض بها: وبشكل عام، وكما يقول حسن، الشعر عنده تعبير عن القوة وتصوير للجانب القوي من الحياة أكثر مما هو تعبير عن نزوات النفس ومواقف الضعف في الحياة... لذلك حوّل الرثاء عن وجهته فقاوم فيه البكاء الذي هو قوامه الأول، حتى كاد يلغيه، وأكثر من التغني بالشيم الصلبة، ورأى في الموت نهاية طبيعية للإنسان، لا تحسن الحياة إلا به كيلا يستشعر الخوف منه فينتقص الخوف من قوته. ومحض الله ثقته- في شعره الديني- ورآه أكبر من أن يعذب عباده...
وجاءت خمرياته تصويراً للصراع الحاد الذي نشب في نفسه بين الإدمان، الذي تمكن منه، وبين دفعه إياه من حياته وشعره على السواء... وإنه وإن لم يستطع أن ينتصر على ضعف نفسه في مشكلة الخمر، فقد استطاع أن يصور هذا الصراع حاداً مؤلماً بحيث يبغض الخمر وهذا وحده كان كافياً ليحقق الانسجام بين ما قال في الخمر وبين رسالة الشعر عنده....
حتى الغزل –والمرأة أحب متع الحياة إليه- كبح جماح الشهوة فيه على فورانها عنده، لأنها نقطة ضعف فجاء عفاً رقيقاً... وحتى هجاؤه، على كثرة خصوماته وحدتها، يكاد يخلو من المذمة المخجلة، ويكاد يتحول إلى لون من النقد الموضوعي والاحتجاج المنطقي على خصومه بأنهم البادئون بالعدوان...
من آثار البزم المطبوعة: ديوان شعره (المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب والعلوم الاجتماعية) 1962 بإشراف سليم الزركلي وعدنان مردم بك. وكتاباته المنشورة في الصحف والمجلات ومقدمة لكتاب (طوق الحمامة في الألفة والالاف/ ابن حزم) أما آثاره المخطوطة فكثيرة أبرزها: طلائع الجحيم، مقدمة الديوان، الجواب المسكت، العامل والعمدة والفضلة والجملة والإعراب والبناء، المعجم النحوي، دروس في اللغة العربية، الشيوخ، جمال العربية، دفتر اللغة الصغير واللحن ولحن الحجاج، مقدمة في النحو، فقر في فكر...
نماذج من شعره:
لم يكن الاتجاه القومي عند البزم نزوة عاطفية عابرة، غائمة القصد خفية الغاية وإنما كان مذهباً سياسياً له حدوده وأبعاده وأهدافه الواضحة، ولذلك نراه يضع –منذ القصيدة القومية الأولى- المنهج المتكامل الذي ينبغي للشرق أن ينتهجه حتى يحقق آماله القومية:
أشرق وانتبه واربأ بنفسك وانتهج
طريقاً به تلغي الأماني دوانيا
أشرق انتبه، وانبذ خمولاً عشقته
وصح في دعاة الجهل أن لا ترقيا
أشرق انتبه، لا ترتد العجز لاهياً
فليس ينال السؤال من كان لاهيا
ينال العلى من كان بالعلم هائماً
وللجهل نباذاً، وللضيم أبيا
يرى البزم في ملوحة زمزم حكمة إلهية خفية الأسرار تقوي إيمانه وتثبت يقينه، ولا سيما أن الله جلت قدرته ملا الدنيا أنهاراً عذبة ومياهاً سائغة، يقول مخاطباً أحمد عبيد إثر عودته من الحج:
وكيف ألفيت بها زمزماً
مفخرة الأرض بآبارها
وهل رشفت الاجن من مائها
منتظماً في سلك زوارها
ملوحة خصّت بها، والدنى
موارة من عذب أنهارها
كلمة رب لم يزل حاجباً
هذا الورى عن كنه أسرارها
وفي الرثاء لم يكن البزم يجيد البكاء على الميت، انطلاقاً من نظرته للموت وإيمانه بالقوة فالموت عنده منقذ من الآلام وأوصاب ومشقة وأسقام الحياة وظلمها وعذابها، بل هو عنده حل للمستعصي من مشكلاتها:
ستدركنا، وندركها، المنايا
ويظفر قادم منا بات
ونحن فريسة الأيام نسعى
إلى أنيابها طلب النجاة
ونغرق في الكرى والموت يقظى
لواحظه لتهيئة البيات
فلو نطق الحمام لقال فصلاً
واعرب عن حقائق مفحمات:
فكم حررت من رق عبيداً
ومحصت الحياة لذي الحصاة
وكم أيقظت من نوم عقولاً
وكم قذفت لكم عبراً لهاتي
ولولا الموت ما نهضت شعوب
ولا انتصفت أباة من جناة
يبادر البزم في هجاء خصومه، أو بعضهم، انتقاماً منه ودفاعاً عن نفسه. تمده ملكة شعرية مطاوعة وبديهة حاضرة وحجة دافعة، يقول منكراً على شاعر لا يسميه تحديه له ومعارضته لشعره:
جاوزت طورك يا زونك
فاصرف عن الخيلاء ظعنك
فلقد بلوتك لا أقول الكذب فاستبدلت ذهنك
ولو أنني جاهرت بالحق الصراح لقلت أنك
دريد الفؤاد محمق
لا يعلم الخلطاء لونك
غر، وتزعم، ضل زعمـ ـك، إنك الضرب المحنك
خرف الشيوخ، ونزوة الفرفور قد حيرت قرنك
الخمريات:
وخمرة عاقرت في روضة
فأبدلتني بالهموم انشراح
ترد للشيخ زمان الصبى
وتذهب الحزن، وتاسو الجراح
يقول من سارت بأوداجه:
أنا ابن قيس ها هنا لا براح
وصف دمشق:
ريحانة الدنيا وظل نعيمها
من قبل مولد يعرب وثمودا
بسمت بها الدنيا إلى عشاقها
فتناهبوا وجناتها تخديدا
شفت فعصفرها الأصيل وزادها
رأد الضحى بضيائه توريدا
وتكاد تشربها النفوس لطافة
وتكاد تحدث في الوجود فقودا
وأهدف من أمثال هذه التقديمات إلى هدف مبدئي يشغلني منذ القديم هو تعريف أدباء الضاد من البلاد المختلفة بالشعر العربي الذي لا يعرفونه.
وقد كنت في الثمانينات الميلادية ينظر إلي ببعض الاستغراب بين أصدقائي لانفرادي تقريباً بمحاولة التعرف على الثقافة السعودية المعاصرة وتجميع ما ينشر في الصحف منها وكانت شبه مجهولة في الشام.
وكذلك أظن أدباء الشام مجهولين في السعودية والمغرب وخصوصاً منهم أولئك الذين سبقوا "عصر الحداثة":
أما الهدف الخاص هنا فهو تقديم تجربة إنسان نشأ شبه أمي ثم ترقى كبيراً في علم العربية حتى أصبح معلماً للعربية وشاعراً مفلقاً ينسب إلى التقعر اللغوي والمبالغة في توخي الفصحى التقليدية إلى درجة الإغراب!
المقال نشر في جريدة "الأسبوع الأدبي السورية" وهذا موقعها:
http://www.awu-dam.org/alesbouh%20802/917/isb917-029.htm
والطريف هنا هو تدخل "المصحح" لتصحيح أبيات شعرية كانت صحيحة لولا "تصحيحاته" وقد اجتهدت لمعرفة الأصل في هذه العجالة فلم أستطع إلا بعض التصحيح وأترك للشعراء محاولة تصحيح الآخر!
هذه بعض تصحيحاتي
وضعت "انشد" مكان "أنشد" حاذفاً همزة القطع مكان في البيت
لا تبك أوطاناً ولا سكنا يا خير، وانشد غيرها وطنا
وحذفت الواو التي وضعها أخونا في الشطر
أشرق وانتبه واربأ بنفسك وانتهج!
لتصبح طبعاً
أشرق انتبه واربأ بنفسك وانتهج
والمصحح المحترم أضاف ألفاً إلى "السؤل" في الشطر
فليس ينال السؤل من كان لاهيا
فأصبحت
فليس ينال السؤال من كان لاهياً!
فحذفتها.
وأتمنى أن يتكرم أحد القراء فيصحح الأبيات التي رأيت أنها تحتاج إلى بعض التفرغ لتصحيحها والوقت عندي في هذه الآونة مع الأسف ضيق:
"جاوزت طورك يا زونك فاصرف عن الخيلاء ظعنك
فلقد بلوتك لا أقول الكذب فاستبدلت ذهنك
ولو انني جاهرت بالحق الصراح لقلت إنك (صححت وضع الهمزتين لوضوح الخطأ وسهولة تصحيحه!)
دريد الفؤاد محمق لا يعلم الخلطاء لونك
غر، وتزعم، ضل زعمـ ـك، إنك الضرب المحنك (لعل هذا البيت لا خطأ فيه)
خرف الشيوخ، ونزوة الفرفور قد حيرت قرنك (وهذا أيضاً أظنه لا خطأ فيه)
المقال:
الشاعر محمد البزم (1887-1955) ـــ غسان كلاس
ولد الشاعر محمد بن محمود بن محمد بن سليم البزم عام 1887 في بيت كبير في بيوت الشاغور، وأصل العائلة من العراق، حيث هبط أحد أجداده جلق جاليا منذ أكثر من مائتي سنة، وقد احترفت أسرته التجارة، وكان جده من وجهاء دمشق...
في هذه الأسرة نشأ شاعرنا، وقد امتلأت نفسه إعجاباً بجده ورهبة من أبيه، وكان شاعرنا أول حفيد في هذه الأسرة، ولم تساعده البيئة التجارية التي نشأ فيها على الانصراف إلى العلم "قاربت سني العشرين وأنا لا أعلم من القراءة إلا بعض سور قصار من القرآن ونزراً من الآي التي يكثر جريها على الألسنة، مما لقنته عند الخوجة... وقد كتب لي مرة أن أصحب عمي في بعض أسفاره إلى بيروت، وعند أوبتنا، هبطنا بلدة الزبداني فرأى عمي في يد أحد سائحي الدراويش المجلد الثاني من كتاب المستطرف للابشيهي فشراه منه بثمن بخس على غير عادة منه باقتناء الكتب، فكان أول كتاب عرفته غير أقاصيص وسير، كنا نسمر بها ليالي الشتاء، بل كان باكورة عدتي الأدبية لانكبابي وإلحاحي عليه بالمطالعة والتكرار، وإن لم أكن أفقه مما أقرأ إلا قليلاً...".
"وأتيح لي أن دخلت مرة مع صديق لي المكتبة الظاهرية فأخذت أنظر في شتى الكتب من أدب واجتماع وتاريخ وفنون فأبهت إذ ذاك لضرورة درس العربية وفنونها.
فطفقت أنا والصديق خير الدين الزركلي ننتاب حلقات شيوخ الفيحاء... حتى قذفتنا الهداية إلى العلامة عبد القادر بدران فقرأنا عليه في عدة شهور شيئاً من ديوان المتنبي ونحواً من مغني اللبيب لابن هشام وصدراً من دلائل الإعجاز للجرجاني، ثم اتصلنا بنابغة علماء دمشق جمال الدين القاسمي فقرأنا عليه كتباً في العربية والبلاغة والمنطق... ثم صالح التونسي فقرأنا عليه كتباً في علمي الكلام والمنطق وأخرى في العربية والأصول... ثم انصرفت إلى المطالعة بنفسي...".
وكما يقول إسماعيل عبد الكريم حسن في رسالته (شعر محمد البزم) التي أعدها في عام 1970 لنيل درجة الماجستير في الآداب: كانت مطالعات البزم خصبة كل الخصوبة، فلم يكد يدع كتاباً عربياً مطبوعاً يقع بين يديه من غير أن يطالعه ومع ولع بقراءة الدواوين الشعرية القديمة، ولا سيما دواوين الشعراء الأعلام، وفي مقدمتهم: أبو تمام والمتنبي والمعري والبحتري وعنترة وامرؤ القيس وبشار بن برد وأبو نواس وابن الرومي وابن زيدون، وكل ما طبع من الآثار النثرية على اختلاف موضوعاتها وفي مقدمتها كتب المعري والجاحظ.. ويضيف إسماعيل حسن... وقد تلمذ لأبي تمام والبحتري في فنه ولعنترة في حماسته وللمتنبي في قوته وطموحه ولأبي العلاء في تشاؤمه وسوء نظرته للحياة والناس، وتأثر باللزوميات ورسالة الغفران تأثراً واضحاً. هذا مع قراءته كل ما يطبع من أدب حديث، وكان معجباً بشوقي وحافظ والزركلي والشبيبي إعجاباً شديداً، على قلة من يعجبه من الشعراء المحدثين... وكان كثير المطالعة للقرآن الكريم عميق الغوص في شروحه وتفاسيره، وإنه إذا أراد أن يكتب أو ينظم، كما يقول أنور العطار، عكف على القرآن يتلو آياته البينات حتى إذا امتلأت نفسه ببلاغته وسحر بيانه فرغ إلى الكتابة أو النظم...
بهذا كله، استطاع محمد البزم أن ينتقل من ميدان الجهل شبه أميّ لا يكاد يعرف القراءة والكتابة إلى ميدان العلم مدرساً لعلوم اللغة العربية وآدابها، مما لا نكاد نجد له مثيلاً في تاريخ الأدب الحديث.
وعن بدء نظمه للشعر يقول "أول ما نظمت من الشعر الموزون بيتين وضعت بهما نفسي، وقد أغراني أحد الرفاق فجرعت من الخمر ما قدرته بعشرين درهماً فخيل إلي أن الأرض تهوي بي صعداً، فقلت:
شربت من الصهباء عشرين درهماً
فخيل لي أني صعدت إلى السما
وصافحني المريخ، والبدر قال لي:
الاعم صباحاً أيها الخدن واسلما
بعد موت أبيه، وتقاسمه الميراث مع عمه، أهوى بحصته بمعول التبذير فباع نصيبه من البيت الكبير وباع الدكاكين وما فيها من بضاعة وأنفق كل ذلك على الخمر والميسر والمرأة.
بعد انصرافه عن العمل التجاري انتدبه كامل قصاب مدرساً لفنون البلاغة والإنشاء في مدرسته العثمانية... وإبان الحكم الوطني، وهو المتهم بإثارة الرأي العام بشعره الوطني والقومي، قبضت عليه السلطات الفرنسية وأودعته السجن، ولكنه –بعد خروجه- كان أكثر إصراراً على متابعة النضال القومي:
لا السجن يردعه ولا أغلاله
عن غاية تسمو لها آماله
وفي ظل دأب الفرنسيين محاربة الأحرار في أرزاقهم، والأمراض التي بدأت تنغص على الشاعر عيشه،... تلونت حياته بألوان سوداء قاتمة ضيقت عليه العيش في سورية التي أحب، وعزم السفر إلى مصر أو العراق، وقد عارض- لليأس الذي ألم به- قصيدة الزركلي (العين بعد فراقها الوطنا...):
لا تبك أوطاناً ولا سكنا
يا خير، وانشد غيرها وطنا
فبذا جرى حكم القضاء بنا
أنت الغريب معذباً وأنا
ثاو على الفيحاء ذو أرق
متحرق أتصيد الوسنا
ولكن شاءت الأقدار ألا يغادر شاعرنا، حيث عين معلماً للغة العربية في مدرسة السمانة الرسمية الابتدائية بدمشق، ومن ثم تجهيز دمشق. وكان من زملائه في الأخيرة: عبد القادر البازك، سليم الجندي، وكان الثلاثة فيما بين الدروس يفرغون للمناقشة في شؤون اللغة والأدب... وفي 26 كانون الثاني 1942 حقق طموحه بعضوية المجمع العلمي العربي بدمشق.
وكما يذكر حسن: ألمت أمراض شديدة قاسية على الأستاذ محمد البزم، وهو دون الأربعين من عمره، تلاحقه بأوجالها وأوصابها وآلامها الممضة بقية حياته، فانتشرت الشكوى من المرض في ديوانه، وكثرت الشكوى من المرض في حياته، فإذا تمنى عليه أحد أصدقائه قدري الحكيم (1937) أن يقوم بطبع ديوانه بعد عشر سنوات أجابه: أأنا أعيش عشر سنوات، وإنّ فيّ بقية لو وزعت على الكلاب لعافتها. ويجيب من يسأله على صحته: إن فيّ ثلاثين علة أيسرها الناسور، وعلى حد تعبيره كان صيدلية متنقلة!
وبعد إقامته ثلاث سنوات في المشفى العسكري بالمزة توقف في صباح الثاني عشر من أيلول 1955 قلب شاعرنا الكبير...
لقد كانت القوة أبرز سمة في شخصية البزم، وهي سمة أصيلة فيه ورثها فيما ورث عن أبيه وجده وأصله العربي، ثم عملت بيئته وثقافته وأحداث عصره وطبيعة عمله على زيادتها ونمائها فظل محتفظاً بها حتى مات على الرغم من عوامل الضعف الكثيرة التي أحاطت بحياته. وكانت الشيم العربية، أيضاً، والأخلاق العربية ممتزجة بدمه امتزاج الروح بالجسد. كأنه كما يقول إسماعيل حسن-إنسان نسيته البادية في عصر من عصورها الأولى في دمشق، ثم تولت عنه وكانت لغته العربية الفصحى شاهداً عدلاً على ذلك، وكان يتكلمها بيسر عجيب كما يقول إبراهيم الكيلاني..
ويصف إسماعيل حسن البزم: قامة طويلة ومنكبان عريضان ورأس كبير شامخ وشعر أسود وخطه الشيب ووجه أسمر مشرب ببياض خفيف، ومنظر بهي حسن، وحركات هادئة، ونفس وديعة، وابتسامة ساخرة، لا تكاد تبرح شفتيه، وصوت جهوري صافي النبرات رائع النغم ينصب في الآذان انصباباً أخاذاً، ولغته فصيحة حلوة ملونة... وثقافة ثقفها وطبعها بطابعه فأصبح لها لون شخصيته، بل أصبحت جزءاً من شخصيته لا في الأدب فحسب بل في النحو أيضاً...
ويرى إسماعيل حسن، عند حديثه عن التكوين النفسي للشاعر، إن محنته الكبرى في صلته بالناس عامة، وفي صلته بأهله خاصة، على ما في قلبه من رقة وفي عقله من مثل ثم قست عليه الحياة وقسا عليه الناس وثقلت عليه أمراضه، وثقلت عليه آلامه، ولم يتح له الأمر في كبره كما يتح له في صغره فزادت عقده واستعصى حلها عليه، ومن هنا كثر تمنيه الموت لنفسه.
لقد طمح محمد البزم أن يكون شعره تصويراً للحياة، وللحياة القوية خاصة، وأن يجمع فيه إلى قوة المتنبي مثالية أبي العلاء المعري وعقل أبي تمام وفن البحتري والتزام الشاعر الحديث بقضايا الأمة، وقد صب ذلك كله –كما يقول إسماعيل حسن في رسالته القيمة المشار إليها- في أسلوب قوي لا يتنكر لأسلوب الفحول من شعراء العربية الأوائل ولا لبنية القصيدة العربية التقليدية وكانت روح التحدي والطموح والمغالبة وحب التفوق حافزاً له على التجويد وكانت حساسيته المرهفة تشع على كل ما يقول حياة وحرارة وقوة.
فالشعر عنده التزام بقضايا الأمة، وهو يعد نفسه شاعراً ملتزماً، فيربط نفسه بأمته ربطاً وثيقاً، كما ربط الشعراء قبله أنفسهم بالقبيلة أو الأمة، فيقول:
وهل أنا إلا واحد من بني أبي
إذا اعتز شان العرب يعتز جانبه
ويرى أن عليه مسؤولية قومية نحو أمته لا قيمة لشعره إلا بها:
إذا أنا لم أنهض لإسعاد أمتي
عزائم مرخاة عليها ستورها
فلا حملت كفي اليراعة ترتمي
على مهرق يصمي القلوب صريرها
لقد عرف البزم للشعر القومي قيمته في إيقاظ الأمم فعاش قضايا سورية خاصة والوطن العربي عامة، بقدر ما يستطيع أن يعيشها، وكان شعره القومي أضخم أغراضه وأهمها، وقد اتخذه وسيلة لنفخ روح العزة والقوة في الأمة العربية وكان شعره الاجتماعي دعوة لرقي الأمة والنهوض بها: وبشكل عام، وكما يقول حسن، الشعر عنده تعبير عن القوة وتصوير للجانب القوي من الحياة أكثر مما هو تعبير عن نزوات النفس ومواقف الضعف في الحياة... لذلك حوّل الرثاء عن وجهته فقاوم فيه البكاء الذي هو قوامه الأول، حتى كاد يلغيه، وأكثر من التغني بالشيم الصلبة، ورأى في الموت نهاية طبيعية للإنسان، لا تحسن الحياة إلا به كيلا يستشعر الخوف منه فينتقص الخوف من قوته. ومحض الله ثقته- في شعره الديني- ورآه أكبر من أن يعذب عباده...
وجاءت خمرياته تصويراً للصراع الحاد الذي نشب في نفسه بين الإدمان، الذي تمكن منه، وبين دفعه إياه من حياته وشعره على السواء... وإنه وإن لم يستطع أن ينتصر على ضعف نفسه في مشكلة الخمر، فقد استطاع أن يصور هذا الصراع حاداً مؤلماً بحيث يبغض الخمر وهذا وحده كان كافياً ليحقق الانسجام بين ما قال في الخمر وبين رسالة الشعر عنده....
حتى الغزل –والمرأة أحب متع الحياة إليه- كبح جماح الشهوة فيه على فورانها عنده، لأنها نقطة ضعف فجاء عفاً رقيقاً... وحتى هجاؤه، على كثرة خصوماته وحدتها، يكاد يخلو من المذمة المخجلة، ويكاد يتحول إلى لون من النقد الموضوعي والاحتجاج المنطقي على خصومه بأنهم البادئون بالعدوان...
من آثار البزم المطبوعة: ديوان شعره (المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب والعلوم الاجتماعية) 1962 بإشراف سليم الزركلي وعدنان مردم بك. وكتاباته المنشورة في الصحف والمجلات ومقدمة لكتاب (طوق الحمامة في الألفة والالاف/ ابن حزم) أما آثاره المخطوطة فكثيرة أبرزها: طلائع الجحيم، مقدمة الديوان، الجواب المسكت، العامل والعمدة والفضلة والجملة والإعراب والبناء، المعجم النحوي، دروس في اللغة العربية، الشيوخ، جمال العربية، دفتر اللغة الصغير واللحن ولحن الحجاج، مقدمة في النحو، فقر في فكر...
نماذج من شعره:
لم يكن الاتجاه القومي عند البزم نزوة عاطفية عابرة، غائمة القصد خفية الغاية وإنما كان مذهباً سياسياً له حدوده وأبعاده وأهدافه الواضحة، ولذلك نراه يضع –منذ القصيدة القومية الأولى- المنهج المتكامل الذي ينبغي للشرق أن ينتهجه حتى يحقق آماله القومية:
أشرق وانتبه واربأ بنفسك وانتهج
طريقاً به تلغي الأماني دوانيا
أشرق انتبه، وانبذ خمولاً عشقته
وصح في دعاة الجهل أن لا ترقيا
أشرق انتبه، لا ترتد العجز لاهياً
فليس ينال السؤال من كان لاهيا
ينال العلى من كان بالعلم هائماً
وللجهل نباذاً، وللضيم أبيا
يرى البزم في ملوحة زمزم حكمة إلهية خفية الأسرار تقوي إيمانه وتثبت يقينه، ولا سيما أن الله جلت قدرته ملا الدنيا أنهاراً عذبة ومياهاً سائغة، يقول مخاطباً أحمد عبيد إثر عودته من الحج:
وكيف ألفيت بها زمزماً
مفخرة الأرض بآبارها
وهل رشفت الاجن من مائها
منتظماً في سلك زوارها
ملوحة خصّت بها، والدنى
موارة من عذب أنهارها
كلمة رب لم يزل حاجباً
هذا الورى عن كنه أسرارها
وفي الرثاء لم يكن البزم يجيد البكاء على الميت، انطلاقاً من نظرته للموت وإيمانه بالقوة فالموت عنده منقذ من الآلام وأوصاب ومشقة وأسقام الحياة وظلمها وعذابها، بل هو عنده حل للمستعصي من مشكلاتها:
ستدركنا، وندركها، المنايا
ويظفر قادم منا بات
ونحن فريسة الأيام نسعى
إلى أنيابها طلب النجاة
ونغرق في الكرى والموت يقظى
لواحظه لتهيئة البيات
فلو نطق الحمام لقال فصلاً
واعرب عن حقائق مفحمات:
فكم حررت من رق عبيداً
ومحصت الحياة لذي الحصاة
وكم أيقظت من نوم عقولاً
وكم قذفت لكم عبراً لهاتي
ولولا الموت ما نهضت شعوب
ولا انتصفت أباة من جناة
يبادر البزم في هجاء خصومه، أو بعضهم، انتقاماً منه ودفاعاً عن نفسه. تمده ملكة شعرية مطاوعة وبديهة حاضرة وحجة دافعة، يقول منكراً على شاعر لا يسميه تحديه له ومعارضته لشعره:
جاوزت طورك يا زونك
فاصرف عن الخيلاء ظعنك
فلقد بلوتك لا أقول الكذب فاستبدلت ذهنك
ولو أنني جاهرت بالحق الصراح لقلت أنك
دريد الفؤاد محمق
لا يعلم الخلطاء لونك
غر، وتزعم، ضل زعمـ ـك، إنك الضرب المحنك
خرف الشيوخ، ونزوة الفرفور قد حيرت قرنك
الخمريات:
وخمرة عاقرت في روضة
فأبدلتني بالهموم انشراح
ترد للشيخ زمان الصبى
وتذهب الحزن، وتاسو الجراح
يقول من سارت بأوداجه:
أنا ابن قيس ها هنا لا براح
وصف دمشق:
ريحانة الدنيا وظل نعيمها
من قبل مولد يعرب وثمودا
بسمت بها الدنيا إلى عشاقها
فتناهبوا وجناتها تخديدا
شفت فعصفرها الأصيل وزادها
رأد الضحى بضيائه توريدا
وتكاد تشربها النفوس لطافة
وتكاد تحدث في الوجود فقودا