لا خلاف بين الإخوة الفضلاء على الإقرار بثقل المقطع المديد الذي ينتهي بصامتين في بعض القوافي ، بل إن الأستاذ خشان يرى ذلك متعذرا في الشعر ، ومع ذلك تفضل الدكتور عمر خلوف بتتبع أمثلة عديدة لهذه القوافي في ضروب لم يذكرها الخليل في حين وجد الأستاذ أزكري الحسين أن مثل هذا العمل " يبقى رغم ذلك خارج دائرة الاستشهاد لكسر قاعدة راسخة، وعندما نتمكن ذات يوم من استقراء (الشعر) كل الشعر الذي يكتب في عصرنا تحت أي اسم كان سيكون في مقدورنا أن نستنبط منه القوانين التي تحكمه خارج عروض الخليل " .
والواقع أنه من المستحيل ، في ظل حيوية الشعر العربي المتنامية واستمرار تدفقه ، أن تتم عملية استقراء تامة لجميع أوزانه وضروبه ، ولذلك فنحن في هذه الحالة نلجأ إلى ما يسمى بالاستقراء الناقص بحيث يتم بناء الفرضيات من خلال النتائج التي تصدر عن العينة المتخذة موضع الدراسة . من هذه الفرضيات ، ولا أقول القوانين ، القاعدة التي تتصل بملاحظة ظهور المقطع المديد في القوافي والقائلة : " عند الوقف التام يجوز استخدام المقطع المديد على الوتد الصحيح غير المسبوق بسبب ملتزم القبض ، كما يجوز استخدامه على السبب ما لم يكن مسبوقا بالوتد " .
وقد رأينا أنه لم يشذ عن هذه القاعدة في جميع الضروب التي أحصاها الأستاذ أزكري إلا واحدا هو ضرب مجزوء الرمل المسبغ ، الذي قال عنه المعري إن العرب لم تستعمله وعدّ شاهده من وضع الخليل . وأما ضربا السريع والمنهوك الموقوفان فإنهما في التحليل الوزني القائم على إنكار الوتد المفروق يمكن ردهما الى الرجز مع القطع في وتديهما .
وعلى العروضيين دوما الوقوف موقف الراصد لكل تحولات الإيقاع العروضي ومحاولة تقنين تغيراته الملحوظة ، مهما كان وزن الشاعر الذي يأتي بما لم يذكره الخليل ، فقد زاد الأخفش ضربا مقصورا على ضروب الطويل الثلاثة هو ( مفاعيلْ ) ومثل له بقول امرئ القيس :
أحنظل لو حامَيتُمُ وصَبرتُمُ.............لأثنَيتُ خَيراً صالحاً ولأرضانْ
ثيابُ بني عَوفٍ طَهارى نقيةٌ ..........وأوجُهُهم بيضُ المَشاهد غُرّانْ
وقد وضع الأخفش استنادا إلى هذا الشاهد ، وغيره من الشواهد التي اعتبرها العروضيون مطلقة محمولة على الإقواء أو الإصراف ، قاعدة يقاس عليها حيث قال : " وقد يجوز في هذا القياس تقييد الطويل إذا كان آخره ( مفاعيلن ) لأنه إذا قُيّد جاء ( مفاعيلْ ) بين ( مفاعيلن )
و( فعولن ) " ثم قال : " ويجوز ذلك في الرمل الذي على أربعة أجزاء ، نحو قوله :
قيلَ قُم فانظُر إليهمْ ............ثمّ دَعْ عنك السُمودْ
لإنه إذا جعله ( فاعلانْ ) صار بين ( فاعلاتن ) و ( فاعلن ) فهو مثل ما جاء في القياس ، ولم نسمعه ، ولا أراه إلا لقلة هذا الشعر وضعفه " .
وقد دهشت اليوم وأنا أقرأ هذا النص للأخفش في كتاب القوافي كيف لم أفطن لهذه الفقرة الأخيرة ، على كثرة ما رجعت لهذا الكتاب .. إذن لكنت جعلتها تتصدر موضوعنا هذا ولقلت إن الأخفش كان أول من ابتكر هذا الوزن على مبدأ القياس الذي أقرّه منهجا للبحث العلمي .
وإذن فإن أختنا مريم قد قادتها سليقتها الإيقاعية إلى وزن وضعه الأخفش بناء على القياس ( ولم يسمعه ) ثم إنها باتخاذها القافية التي تنتهي بصامتين لم تكن تعلم أن الأخفش يستقبحها . وفي رسالة خاصة وردتني من الشاعرة مريم العموري ، بعد أن اطلعت على هذا النقاش الدائر ، وجدتها تقول :
" عندما بدأت بكتابة القصيدة كانت في ثلاثة أبيات كالتالي :
كلما أرسلت في الإحساس وشي القلب .. كان الحب أنتْ
كلما اعتادت على روحي رفوف الحزن .. كان العطف أنتْ
كلما أنستني الدنيا وصالا فيك .. كان العفو أنتْ
غبت بعد انشغال ، ثم عندما عدت للكتابة مرة أخرى .. كانت القصيدة بشكلها الأخير على مجزوء الرمل ، في حين أن هذه الأبيات غير ذلك . لا أدري ماذا أسمي البحر فيها فهو بين التام والمجزوء .. ولو لم ينقطع عني وترها ، بتركي لها بعض الوقت ، لكنت ، ربما ، أكملتها على هذه الشاكلة " .
وهنا نراها في خضم مخاضها الإيقاعي تركب بحرا مؤلفا من خمسة تفعيلات ، وهو مما لم يقل به الخليل ، ولا كانت تنحو به نحو شعر التفعيلة الحر، غير أنه في النهاية أسفر عن ذلك الشكل الذي استدركه الأخفش قياساً ، وهو ما يدلنا على أن الشاعر الحقيقي يتصرف بناء على ما تمليه عليه غريزة الإبداع عنده ، وعلى العروضيين ، بناء على اطراد الشواهد ، أن يقيموا قواعدهم .
وأما فيما يتصل بالقافية التي تنتهي بصامتين ، وقد سألني الأخ خشان رأيي فيها ، فإني أجدها مستساغة إذا كان الصامت الأول منها مما يمتد في النفس على نحو يشبه مد الحركات الطويلة وليس تلك التي ينغلق فيها انغلاقا تاما كالباء والتاء وغيرهما . فصوتا الميم والنون يعتبران من الصوامت الغنّاء ، وكذلك اللام المنحرفة أو الجانبية والراء المكررة والحاء والعين والهاء وهي أصوات احتكاكية ، كلها تصلح لأن تقع موقع حرف المد في المقطع المديد لينتهي بصامتين ، ولا ننسى نصفي المد وهما الواو والياء ، وكان اللغويون القدماء يعدونهما من الحروف الصحاح . وقد كفانا الأخ الدكتور عمر خلوف مؤونة البحث عن مزيد من الأمثلة بما تفضل بذكره في مستهل هذا النقاش .