اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة خشان خشان مشاهدة المشاركة

أستاذي الفاضل د. أحمد سالم.

لا زلت أنتظر تفسير موضوعع التدوير بين الكامل ومجزوئه والخفيف ومجزوئه

أنقل لك من رابط الموضوع في الفصيح تعليق أستاذي باديس

الظواهر العروضية وعلاقتها بقواعد البناء الموسيقي

الآن يمكننا أن نستكمل تحليل كل الظواهر العروضية (من الزحافات _ والعلل _ والزحافات الجارية مجرى العلل _ والعلل الجارية مجرى الزحافات _ والأوزان التي لم تستخدم إلا مجزوءة _ والأوزان التي لم تستخدم إلا تامة _ والأوزان التي اندثرت وطواها النسيان ) كل ذلك وغيره في ضوء قواعد البناء الموسيقي الثلاث (التكرار الثنائي والانعكاس الموسيقي والفصل الموسيقي) ؛

لكن يجب أولا أن نعطي مقدمة (نحيد) فيها الموروث الخليلي عن الزحافات والعلل حتى لا تكون حجر عثرة يعوق تقدمنا ؛

وقد تعرض لهذا الموضوع أكثر من باحث , تناوله كل منهم من جانب من الجوانب , نذكر منهم الدكتور سليمان أبو ستة وقد قدم بحثا كاملا في هذا الموضوع (كتاب في نظرية العروض العربي )

كما تناوله الدكتور محمد العلمي بالبحث (والإحصاء) في كتابه ( عروض الشعر العربي دراسة نقدية توثيقية ) ؛

وقد تناولته أنا أيضا في مقدمة الباب الثالث من كتاب (فقه العروض) ورأيت أن أطرحه أولا قبل استكمال شرح الظواهر العروضية في ضوء قواعد البناء الموسيقي الثلاث :


************************************************************ **

الباب الثالث

فلسفة الزحافات
بين المرونة والتمايز والفصل الموسيقي

البحور والأوزان المثالية التابعة لها هي قوالب موسيقية جاهزة , ينظم الشعراء قصائدهم على إيقاعها الموسيقي , هذه القوالب الموسيقية ليست جامدة فيصعب النظم عليها , كما أنها ليست مرنة للدرجة التي يضيع بينها حدود التمايز الموسيقي فتختلط بعضها ببعض , وإنما تتمتع في أغلبها بالمرونة النسبية التي تضمن لها أمرين أساسيين هما :

الأول : بقاء التمايز الموسيقي لكل وزن عن الأوزان الأخرى سواء في صيغ الأوزان السالمة ( قبل دخول الزحافات عليها ) أو في صيغها المزاحفة (بعد دخول الزحافات عليها ) .

الثاني : الحفاظ على الثقل النسبي لنغم الفاصلة الموسيقية في نهاية الوزن في حالتي الوزن السالمة والمزاحفة .

وهو ما ينعكس على أجزاء الأوزان فبعض أجزائها ثابت لا يتغير , وبعضها يدخله التغييرات غير اللازمة , وهي ما نسميها (بالزحافات والعلل الجارية مجرى الزحافات) (1) .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أما العلل والزحافات اللازمة في نهايات الأوزان فلا تندرج تحت مفهوم المرونة , لكنها وضعت لتوضيح التجانس بين التفاعيل الأصلية المكونة للوزن والفاصلة الموسيقية في نهايته , وقد ذكرناها عند الحديث عن الفواصل الموسيقية وكيف تتشكل .


***********************


هذه المرونة النسبية تعطي الشاعر قدرا كافيا من الحرية لاختيار الكلمات التي تناسب معاني تجربته الشعرية , وهي من أهم العوامل المساهمة والمفسرة لكثرة النظم على وزن ما أو قلته , بالإضافة إلى عوامل أخرى .

وبشكل مبدئي نقول : أن الأوزان الأكثر انتشارا تتميز بوجود زحافين أو أكثر , فإذا كان الوزن يحتوي على زحاف واحد يقل النظم عليه حتى وإن كان هو وزن البحر الأصلي مثل المتقارب (المجزوء) , فإذا افتقد الوزن المرونة تماما بحيث لم يكن له أي موضع للزحاف أصبح النظم عليه نادرا مثل المقتضب .

نشأة الأوزان وتمايزها الموسيقي وتطور زحافاتها :

لا شك أن الأوزان لم تنشأ كلها في وقت واحد , وإنما بدأها شاعر ما بالنظم على وزن منها , ثم زاد هو وغيره من الشعراء الأوزان الأخرى تباعا عبر العصور , وكلما ولد وزن جديد كلما كانت هناك حاجة للتمايز بينه وبين القديم , وهو ما جعل الأوزان تمر بالعديد من مراحل التطور الموسيقي على مستوى الأوزان نفسها وكذلك على مستوى الزحافات التي تدخلها أيضا (1).

فعلى مستوى الأوزان فإن الشعراء العرب قد استنفذوا كل احتمالات توليد الأوزان الأصلية للبحور , كما استنفذوا الغالبية العظمى من احتمالات توليد الأوزان المثالية التابعة للبحور , كل ذلك قبل أن يأت الخليل ليضع علم العروض .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) لم يصلنا الكثير من أشعار العرب على كل الأوزان في مراحلها الأولى لنعرف تاريخ نشأة وتطور كل وزن منها , لكن وصلنا على بعض الأوزان ما يمكن أن نرصد منه حالة التطور , وقد خصصنا له المبحث التالي .

************************

أما على مستوى تطور الزحافات فقد وصل أغلب الأوزان إلى صورته المثالية قبل تصنيف علم العروض أيضا , وما كانت تلك الأوزان المتطورة المثالية لتحتاج من الخليل ولا من علماء العروض - المعاصرين للخليل ومن أتى بعده - إلا لإقرار واقعها المثالي على ما هو عليه , وأن يدرسوا مسار تطورها ليكتشفوا قوانين التطور , ثم لينظروا في العدد القليل من الأوزان التي تسير على طريق التطور فيمهدوا لها الطريق ويختصروا لها الزمن لتلحق بمن سبقها من الأوزان .

لكن ما حدث هو العكس تماما , فالخليل لم يضع في حساباته فكرة تطور البحور والأوزان عند تقعيد علم العروض , بل فرض فروضا نظرية تخالف الواقع الشعري وتهبط بموسيقى الشعر , وتعود بالأوزان إلى ما قبل تطورها وتمايزها عن بعضها البعض ,

فقد اتخذ الخليل والأخفش والعروضيون من القياس والتعميم منهجا لهم في الزحافات والعلل الجارية مجرى الزحافات التي تدخل التفاعيل , فكلما وجدوا زحافا مفردا أو مركبا في تفعيلة من التفاعيل في أي وزن من الأوزان - أيا كان موضعها من الوزن - قاسوا عليه وأجازوا دخوله على التفعيلة في باقي مواضعها من الوزن , كما يجيزون دخوله على التفعيلة في الأوزان الأخرى , وربما ذهبوا لأبعد من ذلك فيقيسون على أجزاء التفعيل من الأسباب والأوتاد .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) عممنا الحكم على الخليل والأخفش والعروضيين رغم اختلافهم في درجات القياس والتعميم , ورغم اختلافهم فيما بينهم في بعض المسائل , لأنهم جميعا اتفقوا على أصل منهج القياس وإن اختلفوا في درجة التطبيق , كما أن كتب العروض القديمة والحديثة حتى المختصر منها تقر جميعها هذا المنهج وما يحتويه من زحافات وعلل .

***************************

ويمكن استخلاص ثلاث قواعد ضمنية للزحافات والعلل الجارية مجرى الزحافات , هذه القواعد هي الحاكمة والمهيمنة على العروض الخليلي وتظهر بوضوح في كل أبوابه وهي :

القاعدة الضمنية الأولى : أنه يجوز زحاف السبب أينما وجد في كل التفاعيل والأوزان (1) .

وإن لم يرد عن الخليل نص صريح في ذلك , فقد ذكر الأخفش هذا المعنى صراحة في تعريف السبب حيث يقول في كتاب العروض في باب تفسير الأصوات : (والسبب حرفان الآخر منهما ساكن وهو كل موضع يجوز فيه الزحاف) . ويؤكد ذلك المعنى بتعريف الوتد على النقيض من السبب حيث يقول : ( فأما الوتد فهو الموضع الذي لا يجوز فيه زحاف).

القاعدة الضمنية الثانية : أنه يجوز خرم الوتد المجموع ( حذف حركته الأولى) من التفعيلة الأولى في كل الأوزان التي تبدأ بوتد مجموع .

وهذا ثابت في كل كتب العروض في زحافات الأوزان التالية وجميعها يبدأ بوتد مجموع : ( الطويل والهزج والوافر والمتقارب والمضارع ).

القاعدة الضمنية الثالثة : يجوز الجمع بين الزحافات وبين الزحافات والعلل الجارية مجرى الزحافات في التفعيلة الواحدة وفي التفاعيل المتجاورة بشرطين :

الأول : أن يكون كلا منهما قد جاء في شعر العرب ولو على حده .
الثاني : ألا يجتمع بسببهما أكثر من أربع حركات متتالية .
وأما مفهوم المعاقبة فيذكر عندما يغيب شرط منهما

يقول الأخفش : ولم نر شيئا من الزحاف امتنع لإخلال بما بعده .


*************************

ومن القواعد الضمنية الثلاث تفرع كل ما هو غريب من زحافات مفردة ومركبة بمصطلحاتها المعقدة والتي تملأ كتب العروض حتى اشتهر علم العروض بين العلوم بصعوبته وتعقيده .

وربما يستثني الخليل - بعد القياس والتعميم - بعض المواضع فلا يجيز فيها زحاف السبب متعللا بحجة ما , فيخالفه الأخفش في ذلك متمسكا بالمبدأ العقلي في القياس , فإما أن تقيس مطلقا وتعمم القياس على الجزء في كل مواضعه وفي كل أوزانه , أو تمنع القياس مطلقا وتلتزم بالمواضع والأوزان التي ورد فيها الزحاف .

ثم ينقسم العروضيون حول نقاط الخلاف بين مؤيد للخليل و مؤيد للأخفش وثالثهم يكتفي بنقل موضع وموضوع الخلاف .

وإن شبهنا الدوائر الخليلية بالتيه العروضي حيث فقد العروضيون فيها وجهتهم الصحيحة لما يزيد على ألف ومائتي عام , فإن القياس والتعميم في الزحافات والعلل الجارية مجرى الزحافات والجمع بينها أشبه ما يكون ببحر من الرمال المتحركة , غاص فيه العروضيون حتى استنفذ طاقتهم , وأفقدهم القدرة على النهوض والمضي قدما لتطوير علم العروض .

وسنذهب الآن لكتاب العروض للأخفش لنعرف كيف كان يفكر الخليل والأخفش والعروضيون , وما الذي وجدوه في الأوزان من الزحافات والعلل الجارية مجرى الزحافات , وما الذي أجازوه من عند أنفسهم , وما حقيقة ما يتناقله العروضيون في كتبهم من أبيات الشعر التي يذكرونها كشواهد .


*********************

قراءة خاصة في كتاب العروض للأخفش :

ونبدأ من بحر الهزج ووزنه :
مفاعيلن مفاعيلن


نظر الخليل والأخفش والعروضيون لكل ما وصلهم من أشعار العرب المنظومة على البحر الهزج فلم يجدوا بيتا واحدا دخله زحاف القبض (أي حذف منه ياء مفاعيلن) , حيث يقول الأخفش بالنص : (لم نجد الياء أسقطت في شيء من الشعر) .
إنما وجدوا أن الزحاف الوحيد الذي يدخلها هو الكف (حذف النون)

لكن الخليل يرى أن مفاعيلن في الطويل يدخلها القبض , فأجاز دخول القبض عليها في الهزج قياسا على الطويل , لكنه استثنى من هذا القياس مفاعيلن في عروض الهزج , وتعلل بعلل لم يقتنع بها الأخفش , والأخفش يذكر ذلك في كتاب العروض فيقول :

وكان الخليل لا يجيز ذهاب ياء مفاعيلن التي للعروض ويقول : العروض تشبه الضرب والضرب لا زحاف فيه , ويقول : أكره أن تكثر مفاعلن فيه فيشبه الرجز .

ويفند الأخفش بعضا من علل الخليل من حيث المضمون فيقول : فكيف هذا وفي آخره جزء لا يكون مفاعلن (يقصد الضرب) ,
كما يعترض من حيث المبدأ في القياس فيقول : وكيف يجيز - الخليل - طرح الياء في موضع ولا يجيزها في موضع وهو لم يجد حذفها في شيء من الهزج ؟!
وهو في موضع آخر يعلن عن مبدأه في القياس على زحافات الأجزاء (التفاعيل) فيقول : فإن لم تقس الجزء بالجزء لزمك ألا تزاحف في الجزء إلا في الموضع الذي وجدته مزاحفا .

*********************

ويقول الأخفش في زحاف مفاعيلن في الهزج : وأما الهزج فتعاقب في مفاعيلن الياء النون وإن كنا لم نجد الياء أسقطت في شيء من الشعر فنقيس عليه كما قسنا على مستفعلن فأسقطنا سينها وفاءها في مواضع كثيرة , وإنما وجدناها في بعض المواضع .

والأخفش يعني بالمعاقبة أنه لا يجوز اجتماع زحاف الكف وهو الموجود في الواقع الشعري مع زحاف القبض وهو ما أجازوه بالقياس , ويعلل ذلك بأنهم لم يجدوا مفاعيلن في أي وزن من الأوزان وقد اجتمع فيها الزحافان معا , ولو وجدوا موضعا واحدا لأجازوه في الأوزان الأخرى قياسا عليه , وهو بالضبط ما فعلوه في مستفعلن , فقد وجدوها في بعض المواضع وقد اجتمع فيها حذف السين والفاء (الخبل) فأجازوا دخوله على مستفعلن في كل الأوزان .
وهو أيضا نفس ما حدث في فاعلاتن في البحر الرمل حيث يقول : وإنما أجزنا حذف نون فاعلاتن ولم يجيء في الرمل , لأنها قد وجدناها حذفت فيه النون في المديد والخفيف فقسناها عليه , وكذلك نون فاعلاتن في المجتث .
وليس معنى قوله وجدناها حذفت في المديد والخفيف أن حذف النون في هذه الأوزان كثير لذلك قاسوا عليه , بل هو نفسه يقول عن حذف النون في الخفيف :
وذهاب نون فاعلاتن قبيح لا يكاد يوجد . وقد جاء . أخبرني من أثق به من العرب قال مههل :
إن تنلني من باعث بن صريم نعمة تجدني لذاك شكور

فهو يعترف بشكل واضح أن كف فاعلاتن قبيح ولا يكاد يوجد في الشعر , وأن لديه شاهدا واحدا في بيت شعر واحد أخبره به شخص ما هو يثق به , فقبله كشاهد وأجازه في الخفيف , ثم قاس عليه فأجازه في كل الأوزان , بل وأجازوا اجتماع الخبن مع الكف (الخزل) في فاعلاتن في كل الأوزان قياسا أيضا .

************************

ويقول في زحاف مستفع لن في المجتث : وأجزت حذف نون مستفع لن في المجتث لأنه قد جاء في الخفيف , وهذا الجزء مثل ذلك لأن أجزاءه فاعلاتن مستفع لن .

وأيضا يقيس في المجتث على زحاف في الخفيف هو نفسه يقول عنه : ولم نجد ذهاب نون مستفع لن إلا في شعر لابن الرقيات , وزعموا أنه قد كان سبق اللحن , فمن جعله في الشعر إماما جوز حذف نونها ومن لم يجعله إماما لم يجوز حذف ذلك .

والأسئلة الملحة الآن هي ما يسألها الأخفش لنفسه على لسان من يعترض على منهجهم في القياس والتعميم حيث يقول :

فإن قال كيف جمعتم الأجزاء المزاحف فيها في البيت وأنتم لم تجدو ذلك مجتمعا ؟ وكيف زاحفتم في كل جزء وجدتم فيه الزحاف في موضع أو موضعين , وعسى أن يكون ذلك في أول البيت أو آخره أو أوسطه خاصة فأجزتموه أنتم في كل موضع منه ؟

ويجيب على الأسئلة فيقول فعلنا ذلك : لأن من الأجزاء ما قد رأينا العرب زاحفت فيه في غير موضع , وأكثروا من الزحاف فيه , فنحمله على الأكثر في كلامهم ولا نحمله على الشاذ .

ونسأل نحن الأخفش السؤال الأهم المكمل لما سبق هو : ما حقيقة الأبيات التي تمثلون بها بعد كل زحاف مفرد أو مركب تذكرونه هل هي شواهد وجدتموها في شعر العرب ؟ , أم أنها نماذج تضعونها للتعليم ؟

والإجابة بكل وضوح يذكرها الأخفش فيقول : وهذا مع جمعنا إياها فإنما وجدناها متفرقة مثل تأليفنا مسائل العربية , ولم نسمع ذلك التأليف من العرب , وإنما سمعناها متفرقة فيكون جمعنا إياها جائزا .

*************************

والسؤال الأخير , هل كان الخليل يؤلف مثل تلك المسائل ؟

يجيب الأخفش إجابة ضمنية بأن الخليل ربما يؤلف بعض المسائل مثله مثل غيره , لكنه إذا ذكر بيتا كشاهد من الشواهد فقطعا لن يكون من تأليفه , لأن الخليل كعالم يحترم العلم ويقدر الأمانة العلمية فلم يكن ليضع بيتا من عند نفسه ثم يستشهد به على صحة رأي يراه .
الإجابة السابقة استخلصناها من قول الأخفش في البحر المتقارب :

وجاز في العروض فعل وفعول ساكنة اللام في قول الخليل , ................................... وقد أخبرني من أثق به عن الخليل أنه قال له : هل تجيز هذا ؟ فقال : قلت لا . قال : قد جاء ثم أنشدني

فرمنا القصاص وكان التقاص حقا وعدلا على المسلمينا

فلو كان هذا وضعه كما يزعمون لم يحتج به .

يروي الأخفش نقاشا علميا دار بين الخليل وبين من يثق الأخفش في صدق أخباره , فيسأل الخليل الرجل عن جواز أن تأتي عروض المتقارب على فعول ساكنة اللام , فيجيب الرجل بأنه لا يجيز ذلك , فيخبره الخليل أنه يجيزه ويستشهد على رأيه ببيت من الشعر , فيزعم البعض أن البيت من وضع الخليل , فلا ينفي الأخفش عن الخليل تأليفه للمسائل بشكل مطلق وكان في استطاعته أن ينفي , لكنه نفى أن يكون هذا البيت خاصة من تأليف الخليل , وأنه لو كان من تأليفه ما كان ليحتج به .


*******************

استفضنا إلى حد ما في النقل عن الأخفش في الزحافات لنعرف حقيقة الشواهد والمسائل المثارة بين العروضيين وبعدها التام عن الواقع الشعري , حتى إذا ذكرنا القواعد الجديدة الجامعة للزحافات لا نصطدم بالموروث منها لدى طلاب وأساتذة العروض , فالشواهد العروضية في أغلبها ليست إلا نماذج للتعليم , وضعها العروضيون لطلابهم كأمثلة توضح ما يجيزونه من الزحافات بالقياس , لذلك نجدها مكررة بنصها في كتب العروض لما يزيد على ألف ومائتي عام .

ولا أبالغ إن قلت أن جميع طلاب علم العروض وأغلب أساتذته قد خدعوا في تلك الأبيات , وظنوا أنها شواهد من أشعار العرب , حتى أن أستاذا كبيرا مثل الدكتور عبد العزيز نبوي في كتابه موسوعة موسيقى الشعر العربي عبر العصور والفنون يناقش مثل تلك الأبيات على أنها شواهد حقيقية من أقوال الشعراء , فيذكر زحافات البحر الكامل كما تذكرها كل كتب العروض , ويذكر رأي الدماميني وعندما يأتي لبيتي الشعر المذكورين كمثال للوقص والخزل يقول :
ومثاله الذي لا نكاد نجد غيره مما وقص حشوه قول الشاعر :

يذب عن حريمه بنبله وسيفه ورمحه ويحتمي

فكل تفعيلات البيت حشوا وعروضا وضربا موقوصة ولنا حول هذا البيت ملاحظتان :

الأولى : لسنا ندري لم عد الدماميني الوقص صالحا , مع أن كتب العروض لا تمثل للوقص إلا بهذا البيت , ولعله بيت يتيم .

والأخرى : أن هذا البيت أقرب إلى البحر الرجز , كما سنبينه عند حديثنا عن اشتباه الكامل بالرجز .

***********************

وعند ذكر بيت الخزل يقول : ومثاله الذي لا نكاد نجد غيره :

منزلة صم صداها وعفت أرسمها إن سئلت لم تجب

وهو كسابقه أقرب إلى بحر الرجز حيث جاءت كل تفعيلاته على وزن متفعلن .
من الواضح تماما أن البيتين قد وضعا كنماذج للتعليم وقد جمع في كل منهما زحاف دخل على كل أجزائهما , وهذا ما تحدث عنه الأخفش تماما في وضعهم للمسائل وجمع ما وجدوه متفرقا من الزحافات , لكن الدكتور عبد العزيز يظن أن كلا منهما شاهدا حقيقيا قاله شاعر ووجده العروضيون فاستشهدوا بهما في غير موضعهما , ثم يحاول أن ينفي أنهما من الكامل (1) .

ورغم اعتراض الدكتور عبد العزيز على وصف الدماميني لزحاف الوقص بالصالح ويصف هو زحاف الخزل بالقبيح ورغم اعتراضه على صحة الاستشهاد بالبيتين إلا أنه يكمل السير في طريق من سبقه من العروضيين , سائرا في تيه الدوائر حاملا أثقال كل العروضيين من الزحافات والعلل على مدى العصور المختلفة , فيكمل الحديث عن علل الكامل فيذكر منها عللا مركبة من الوقص والخزل مع القطع والتذييل والترفيل فيقول :

علل الكامل إحدى عشرة , خمسة شائعة , هي : القطع والحذذ والحذذ بمصاحبة الإضمار والتذييل , وست نادرة وهي : الوقص والخزل , والوقص بمصاحبة التذييل , الوقص بمصاحبة الترفيل , الخزل بمصاحبة التذييل , الخزل بمصاحبة الترفيل , وكلها مما أشارت إليه كتب العروض القديمة ) .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أول عهدي بعلم العروض كانت قبل عام من وضع هذا الكتاب , وكشاعر يخطو خطواته الأولى في دراسة علم العروض لم تكن فطرتي الموسيقية تقبل ما يذكره العروضيون من الزحافات والعلل , لكن كلما ذكر زحاف وتبعه بيت شعر يخبو صوت الفطرة إلى حين , وهو ما دعاني للبحث عن حقيقة تلك الزحافات والعلل .


***********************

وكما خرجنا من تيه الدوائر العروضية الخليلية بالرجوع لأصل الأوزان كما استخدمها العرب , فسنرجع إليها مرة أخرى لنضع فقها للزحافات والعلل الجارية مجرى الزحافات يليق بعروض الشعر العربي ذلك الهرم الموسيقي المعجز والذي شيده الشعراء العرب على مدى قرون من الزمان , واضعين نصب أعيننا أمورا هامة :
أولا : فكرة تطور موسيقى الأوزان ونخصص لها المبحث التالي .

ثانيا : تطور وتمكن الشاعر نفسه من الأوزان واللغة في مراحل عمره المختلفة , فليس كل ما نسب لشاعر كبير وكان نادرا نتخذه قاعدة , فربما كان من بداية انتاجه الشعري ولم يكن قد تمكن من الأوزان بعد.

ثالثا : عنصر النقص البشري للشعراء والرواة .

فإن الشاعر مهما كان كبيرا فهو بشر يعتريه ما يعتري البشر من نقص , فإذا أخطأ شاعر كبير في وزن من الأوزان فلا يجب تقنين خطئه , حتى لا نسمح للخطأ أن ينتشر في جسد العروض , وكذلك أخطاء الرواة فهم في الأخير بشر .

لذلك فإن ما جاء نادرا شاذا من الزحافات والعلل الجارية مجرى يجب أن نعده عيبا من عيوب موسيقى الشعر حتى يتجنبه الشعراء ما استطاعوا , ولا يحملنا وصف زحاف معين بأنه عيب في موسيقى الشعر على رفض القصيدة واستبعادها من الشعر

وما كان موجودا من الزحافات والعلل في عصر ما ويتناقص بالتدريج فيجب أن نعده من مراحل تطور الأوزان فنذكره مصحوبا لفكرة التطور لا أن نقننه فنصبح كمن يعوق حركة التطور .
وأما القياس والتعميم في الزحافات والعلل الجارية مجرى الزحافات فهو كنقل العدوى من شخص مريض لآخر سليم .


************************************************************ **************

دمتم أساتذتي الكرام في خير وسعادة