[CENTER]
فقه العروض
قواعد البناء الموسيقي للشعر العربي


كما لم تُعرف من قبل
تأليف
أحمد سالم


بسم الله الرحمن الرحيم



[رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّار ٍ]


مقدمة


لم نجد علما من العلوم نشأ كاملا وتم صياغة قواعده مرة واحدة على يد عالم واحد , فهل علم العروض الذي وضعه الخليل (1) هو الاستثناء بين العلوم كلها ؟
سواء كان استثناء أو لم يكن فإن علم العروض جاء مكتملا على يدي الخليل، مثله في ذلك مثل الجدول الدوري في استقصائه للعناصر ما اكتشف منها وما لم يكتشف
يجيب الخليل بكل تواضع عن هذا السؤال حيث يقول (2) :

إن العرب نطقت على سجيتها وطباعها , وعرفت مواقع كلامها , وقام في عقولها علله , وإن لم ينقل ذكر عنها , ومثلي مثل رجل حكيم دخلت دارا محكمة البناء عجيبة النظم والأقسام فتيقنت حكمة بانيها , وكلما وقفت على شيء منها قلت : إنما فُعل هذا هكذا لعلة كذا وكذا , واعتللت أنا بما عندي , فإن أصبت العلة فهو الذي التمست , وإن سنح لغيري علة هي أليق مما ذكرته فليأت بها .

يطلق الخليل الدعوة لغيره أن يأتي بما لديه من جديد , شريطة أن يكون أليق مما جاء هو به .
الحق واحد ولا يتكرر. وأيسر ما يكون إدراك ذلك عندما يمكن التعبير عنه رياضيا. الخط المستقيم بين نقطتين لا يتغير، ومحيط الدائرة ذات نصف القطر الثابت لا يتعدد. ومن درس منهج الخليل
كما يقدمه الرقمي يدرك أنه بهذه البساطة وهذه الدقة وهذا الشمول والاطراد.
هذه الدعوة التي أطلقها الخليل لسواه دعوة موضوعية تدل على تواضع الخليل، ولو كانت من سواه لاعتبرتها تحديا. وقد بلغ من ثقتي بفهمي لمنهج الخليل أن أقول: إن أي منهج جديد يفي بوصف
واقع الشعر العربي بشمول واطراد لن يعدو أن يكون صورة من منهج الخليل أخرجت بأسلوب مختلف. وإلا فإنها تقترب أو تبتعد عن الصواب بقدر قربها وابتعادها عن مضمون منهج الخليل.
وفي حال ثبت غير ذلك فإن فهمي لمنهج الخليل يكون ناقصا بمقدار ما يثبت من غير ذلك.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الخليل بن أحمد الفراهيدي الأزدي , رائد من رواد علوم العربية , ومؤسس علم العروض , وصاحب معجم العين أول معجم للغة العربية , توفي - على المشهور - فيالبصرةسنة174هـ789م بخلافةهارون الرشيد.
(2) معجم ياقوت الحموي 6/74 بتصرف . فالخليل وإن كان يتحدث هنا عن العلة والمعلول إلا أن إجابته تمثل منهجا عاما في تصنيفه لعلوم العربية هو وغيره من العلماء.
فهل استجاب علماء العروض بعد الخليل لهذه الدعوة ؟

يصف لنا أبو الحسن العروضي - المتوفى سنة 342 هجرية - حال علماء العروض بعد الخليل - المتوفى سنة 174 هجرية - فيقول:

( فإني رأيت جماعة ممن ألف في هذا العلم كتبا , فكل أتى بما ليس فيه مقنع , بل زاد الشيء انغلاقا وصعوبة , ولم يشف غليلا , ولا أوضح سبيلا , ولا فرج كربة ولا غمة , وإنما فضل المتأخر على المتقدم , زيادة في شرح لفظ يستغلق , أو حل شك يلتبس , ففتحه بذهنه وكشفه , ورأيت بعضهم لم يزد في نقله على من تقدم شيئا البتة ,غير أنه نقل الشيء من أوله إلى آخره ثم نحله نفسه .)(1)

ولا أبالغ إن قلت : أن الحكم الذي أطلقه أبو الحسن العروضي يمتد ليشمل علماء العروض للألف عام التالية له .عن
أتفق معك أستاذي، ذلك لأنه يصدق على جل العروضيين قول الأستاذ ميشيل أديب حول كتب العروض في مجلةالموقف الادبي العدد 373 أيار 2002:" وأكثر ما يعيب كتب العروض القديمةوالحديثة، أنها، على الرغم من مظاهر العبقرية، التي لم يكشف الخليل عن أسرارها،لم تحاول تحليل العملية الذهنية التي مكَّنت الخليل من بلوغ هذه القمَّةالرياضيةالتي لا تتأتَّى إلاَّ للأفذاذ ."
وبتعبير الرقمي، إن غياب الوعي على منهج الخليل في ظل سيادة منهج الحفظ على حساب منهج التفكير هو المسؤول عن ذلك.

وعلى الرغم من اختلاف بعض علماء العروض مع الخليل في مسألة هنا وأخرى هناك , وفي بعض الجزئيات والفروع (2), سواء منهم القريب العهد به كالأخفش , ومن أتى بعده في العصور المختلفة كالجوهري وحازم القرطاجني وغيرهم , إلا أن أحدا منهم لم يمس القواعد الأساسية التي وضعها الخليل , فساروا جميعا على نهجه, واقتفى كل منهم أثره , ما جعل إسهامهم في التراكم المعرفي عبر تلك العصور يبدو متواضعا إذا ما قورن بعمل الخليل .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1)الجامع في العروض والقوافي لأبي الحسن العروضي صـ 33 , تحقيق الدكتور : زهير غازي زاهد , والأستاذ : هلال ناجي .
(2)وأحيانا في مسائل يراها البعض هامة كما يقول د. محمد العلمي في مقدمة كتابه العروض والقافية دراسة في التأسيس والاستدراك صـ 7 (أما الجوهري والقرطاجني فإن دراسة عملهما ترجع لمخافتهما للخليل في أمور مهمة ) .
نظرة سريعة على عروض الخليل :

بداية يجب أن نعرف كيف وضع الخليل علم العروض , وكيف قام ببناء النموذج النظري له , ومدى اقتراب هذا النموذج من الواقع الشعري الذي درسه الخليل واعتمد عليه في التقعيد .

ومن المعلوم أن كتاب الخليل في علم العروض ضاع في الميدان كما يقال , وأن ما وصلنا من علمه قد تواتر إلينا في كتب العروض التي ينسب كل منها لأحد العلماء ؛
إن القبول بمقولة ضياع كتاب الخليل دون تأمل أو أدنى شك، طيلة قرون مظهر من مظاهر سيادة منهج الحفظ بشكل عام على الأمة على حساب منهج التفكير.
أليس من المنطقي أن نتساءل كيف كان العرب حريصين على نقل بيتين من الشعر لأعرابي ناء في الجاهلية ثم يضيع منهم كتاب الخليل الذي ألف في أزهى أيام وحواضر الحضارة الإسلامية ؟ على معرفة أهل زمانه ومن تلاهم بجلالة قدره.
هل من تفسير لذلك ؟
أجل لدي تفسير لا أملك دليلا تاريخيا عليه ولكن فيه من المنطق ما يجعله يرجح على الاحتمال الآخر أو يتشاوى معه، أعني الاحتمال الذي يسلم بضياع الكتاب دون تفسير.
التفكير واحد. ولا يمكن أن يكون الإنسان مفكرا في باب ومعطلا لفكره في باب آخر. والتفكير كاشف لكل تزييف وانحراف. وقد حاربه أهل أديان حرفوها.
لقد مرت الأمة بأوضاع كان من مصلحة ذوي المصالح تعطيل التفكير لأنه يتناقض مع تلك المصالح وما ألفته من آثار. وكان منهج الخليل بشموليته مثالا يمكن أن يحتذى في غير العروض. ولهذا كان من المنطقي طمس كتابه أو حرقه والاكتفاء بالأحكام الجزئية التي يمكن استغلالها في صياغة التفكير مجزءً وتمكين منهج الحفظ.
هل توقف الأمر في ذلك عند العروض ؟ وهل هو غائب في يومنا هذا عما هو أهم من العروض ؟
يمنعني من الاستطراد في هذا ما يمكن أن يكون تماديا مني في تصوير عبقرية الخليل. وكثيرا ما تساءلت : هل يمكن لعبقرية الخليل بما تأتلق به من شمولية رياضية مستنيرة أن تتوقف في نتاجها الفكري على المجال اللغوي دون سواه مما يهم الأمة ؟
ولأن ما يعنينا في المقام الأول هي الأفكار ذاتها , نتفق معها أو نختلف , وليس البحث في مدى صحة ما نسب للخليل أو لغيره , لذلك إن قلنا في كتابنا هذا يقول الخليل كذا , أو يرى الخليل كذا , أو فعل الخليل كذا , قصدنا ما نُسب إليه في تلك الكتب , سواء بلفظ صريح , أو كان رأيا ضمنيا , أو قاعدة ضمنية استخلصها صاحب الكتاب مما وصله عن الخليل , أو استخلصناها نحن من مجموع ما وصل إلينا متواترا وإن لم نجدها بنص صريح .

وإذا وجدنا رأيا منسوبا لغير الخليل ويتفق مع ما وصلنا إليه في بحثنا هذا نسبناه لصاحبه استئناسا به , وخاصة إذا كان من أعلام علم العروض , ويتمتع بالثقة والثقل عند علماء وطلاب هذا العلم .

وإن ذكرنا شيئا وصلنا إليه ولم ننسبه لأحد , واتفق أن ذكر في كتاب من قبل , قبلنا فيه أول رأي , ولم ننازع فيه أحدا , فما نقدمه في كتابنا هذا ليس بحثا في الجزئيات من أجل الجزئيات , لكنه إعادة بناء علم العروض من جديد بعد استخلاص واصطفاء ما نحتاجه من البناء القديم .
كيف وضع الخليل علم العروض :

يقول الأخفش : (أما وضع العروض , فإنهم جمعوا كل ما وصل إليهم من أبنية العرب , فعرفوا عدد حروفها ساكنها ومتحركها)(1).
---
اكتشف الخليل أن الإيقاع الموسيقي للشعر العربي ينشأ من التتابع المنتظم والمتكرر للح-ركات والسكون المصاحب للحروف , فجمع ما استطاع من الشعر العربي , وقام بفصل تلك التتابعات والتي سماها الأوزان , فحصل على أربعة وثلاثين وزنا متنوعا للشطر الأول , ويأتي الوزن في الشطر الثاني إما مماثلا للشطر الأول , أو تختلف نهايته قليلا , ليزيد العدد إلىثلاثة وستين وزنا , فيكون لكل وزن في الشطر الأول واحدا أو أكثر من الأوزان في الشطر الثاني .
ثم جاءت مرحلة تجريد القواعد من السماع , ثم بناء النموذج النظري , فبعد أن عكف الخليل على دراسة وتحليل ما جمع من أوزان وجد أن مادتها الأولية التي تتكون منها جميعا هي الحركة والسكون(2), وتنتظم في عدة مقاطع إيقاعية (الكلمات الإيقاعية) , وضع لها رموزا كما وضع لها أسماء وهي :
هذا أمر العروض أما علم العروض فينطلق من رمزين هما السبب 2 والوتد 3 وأضع بقية الرموز لتعريف من لم يدرس الرقمي بذلك.
حركة فسكون / O السبب الخفيف = 2
حركتان // السبب الثقيل = (2)
حركتان فسكون //O الوتد المجموع = 3
حركة فسكون فحركة /O/ الوتد المفروق = 2 1
ثلاث حركات فسكون ///O الفاصلة الصغرى = 1 3 = (2) 2
أربع حركات فسكون ////O الفاصلة الكبرى = 1 1 3
وأضيف إلى هذه الرموز ما يعرف في الرقمي بالمنطقة الوتدية أو التوأم الوتدي وهو الواقع على المحاور 9 - 8 - 5 من دائرة (د- المشتبه) = 2 1 2 أو ]2[ 3
حيث ]2[ = سبب غير قابل للزحاف.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــ