من طرائف النقد

عرّف بعضهم النقد بأنه : " فن تفسير الاعمال الادبية , وهو محاولة منضبطة يشترك فيها ذوق الناقد وفكره للكشف عن مواطن الجمال أو القبح في الاعمال الأدبية ."
وفي اللغة ناقدت فلاناً أي ناقشته في الأمر ، وقد نَقَدَ الرجُلُ الشيْءَ بنَظَرِه ينْقُده نَقْداً، ونَقَد إِليه: اخْتَلَس النَظَرَ نَحْوَه، وما زال فُلانٌ يَنْقُد بصَرَه إِلى الشيْءِ، إِذا لم يَزَلْ يَنْظُر إِليه.

والنقد بهذا المفهوم هو وسيلة ارتقاء بالأعمال الأدبية لجعلها تصل إلى قمة الجمال والإتقان, والناقد لا يصدر في حكمه عن هوى أو غاية إنما يكون هدفه الأساس هو الوصول إلى الجمال.
صحيح أن الناس لا تتفق على رأي واحد , وأن مسألة الجمال والقبح هي مسألة نسبية, ولكن عرض وجهات النظر المختلفة هو أمر صحي وصائب , وقد ينبّه إلى مواطن خلل لم ينتبه إليها كاتب النص الأدبي.

وقد عني أدباؤنا وشعراؤنا منذ القديم بالنقد , وكانوا ينطلقون في نقدهم لما يعرض عليهم من أشعار من منطلق مواءمة النص للذوق والعقل والمنطق والجمال .

وسأذكر لكم قصة طريفة عن نقد الشعراء لبعضهم , فقد جاء في الأغاني أن عمر بن أبي ربيعة والأحوص ونصيب وكثير وراوية عمر سائب اجتمعوا في خيمة فأفاضوا في ذكر الشعر فقال كثير لعمر : أنت تنعت المرأة فتنسب بها ثم تدعها وتنسب بنفسك. أخبرني يا هذا عن قولك:
قالت تصدى له ليعرفنا .......... ثم اغمزيه يا أخت في خفر
قالت لها وقد غمزته فأبى ............ ثم اسبطرت تشتد في أثري
وقولها والدموع تسبقها ............ لنفسدن الطواف في عمر
أتراك لو وصفت بهذا هرة أهلك ألم تكن قد قبحت وأسأت وقلت الهجر. إنما توصف الحرة بالحياء والإباء والالتواء والبخل والامتناع، كما يقال هذا وأشار إلى الأحوص:
أدور ولولا أن أرى أم جعفرٍ ............. بأبياتكم ما درت حيث أدور
وما كنت زواراً ولكن ذا الهوى ............ إذا لم يزر لا بد أن سيزور
لقد منعت معروفها أم جعفرٍ ........... وإني إلى معروفها لفقير
قال: فدخلت الأحوص أبهة وعرفت الخيلاء فيه. فلما استبان كثير ذلك فيه قال: أبطل آخرك أولك. أخبرني عن قولك:
فإن تصلي أصلك وإن تبيني ............. بصرمك بعد وصلك لا أبالي
ولا ألفى كمن إن سيم صرماً ................. تعرض كي يرد إلى الوصال
أما والله لو كنت فحلاً لباليت ولو كسرت أنفك. ألا قلت كما قال هذا الأسود وأشار إلى نصيب:
بزينب ألمم قبل أن يرحل الركب .............. وقل إن تملّينا فما ملّك القلب
قال: فانكسر الأحوص، ودخلت النصيب أبهة. فلما نظر أن الكبرياء قد دخلته، قال له يا ابن السوداء، فأخبرني عن قولك:
أهيم بدعدٍ ما حييت فإن أمت........... فواكبدي من ذا يهيم بها بعدي
أهمك من ينكحها بعدك! فقال نصيب: استوت القوق ، قال: وهي لعبة مثل المنقلة. ............. فلما أمسك كثير أقبل عليه عمر فقال له: قد أنصتنا لك فاسمع إلي أخبرني عن تخيرك لنفسك لمن تحب حيث تقول:
ألا ليتنا يا عز كنا لذي غنًى ........... بعيرين نرعى في الخلاء ونعزب
كلانا به عر فمن يرنا يقل .......... على حسنها جرباء تعدي وأجرب
إذا ما وردنا منهلاً صاح أهله .............. علينا فما ننفك نرمى ونضرب
وددت وبيت الله أنك بكرة .......... خجان وأني مصعب ثم نهرب
نكون بعيري ذي غنًى فيضيعنا ........... فلا هو يرعانا ولا نحن نطلب
وقال: تمنيت لها ولنفسك الرق والطرد والمسخ، فأي مكروهٍ لم تمن لها ولنفسك! لقد أصابها منك قول القائل: معاداة عاقلٍ خير من مودة أحمق. قال؛ فجعل يختلج جسده كله.
ثم أقبل عليه الأحوص فقال: إلي أخبرك بخبرك وتعرضك للشر وعجزك عنه وإهدافك لمن رماك. أخبرني عن قولك:
وقلن وقد يكذبن فيك تعيف .......... وشؤم إذا ما لم تطع صاح ناعقه
وأعييتنا لا راضياً بكرامةٍ ........ ولا تاركاً شكوى الذي أنت صادقه
فأدركت صفو الود منا فلمتنا .......... وليس لنا ذنب فنحن مواذقه
وألفيتنا سلماً فصدعت بيننا ........ كما صدعت بين الأديم خوالقه
والله لو احتفل عليك هاجيك ما زاد على ما بؤت به على نفسك. قال: فخفق كما يخفق الطائر. ثم أقبل عليه النصيب فقال: أقبل علي..! فقد تمنيت معرفة غائبٍ عندي علمه فيك حيث تقول:
وددت وما تغني الودادة أنني........ بما في ضمير الحاجبية عالم
فإن كان خيراً سرني وعلمته......... وإن كان شراً لم تلمني اللوائم
انظر في مرآتك واطلع في جيبك واعرف صورة وجهك، تعرف ما عندها لك . فاضطرب اضطراب العصفور، وقال القوم يضحكون. وجلست عنده [ القائل سائب راوية عمر ] ؛ فلما هدأ شأوه قال لي: أرضيتك فيهم؟ فقلت له: أما في نفسك فنعم! فقد نحس يومك معهم، وقد بقيت أنا عليك. فما عذرك ولا عذر لك في قولك:
سقى دمنتين لم نجد لهما أهلاً .......... بحقلٍ لكم يا عز قد رابنا حقلا
نجاء الثريا كل آخر ليلةٍ ............ يجودهما جوداً ويتبعه وبلا
ثم قلت في آخرها:
وما حسبت ضمرية حدرية ............ سوى التيس ذي القرنين أن لها بعلا
أهكذا يقول الناس ويحك! ثم تظن أن ذلك قد خفي ولم يعلم به أحد، فتسب الرجال وتعيبهم! فقال: وما أنت وهذا؟ وما علمك بمعنى ما أردت؟ فقلت:
هذا عجب من ذاك. أتذكر امرأة تنسب بها في شعرك وتستغزر لها الغيث في أول شعرك، وتحمل عليها التيس في آخره! قال: فأطرق وذل وسكن. فعدت إلى أصحابي فأعلمتهم ما كان من خبره بعدهم. فقالوا: ما أنت بأهون حجارته التي رمي بها اليوم منا.
قال فقلت لهم: إنه لم يترني فأطلبه بذحلٍ، ولكني نصحته لئلا يخل هذا الإخلال الشديد، ويركب هذه العروض التي ركب في الطعن على الأحرار والعيب لهم" اهـ بتصرف