النتائج 1 إلى 6 من 6

الموضوع: يزعمون أن اللغة العربية-تحتضر

  1. #1
    زائر

    يزعمون أن اللغة العربية-تحتضر

    احتضار اللغة العربية: هل هو خبر جديد؟.. وهل نحن متفرجون؟... ـــ د.حسام الخطيب

    http://www.awu-dam.org/alesbouh%2020...isb967-002.htm


    خلال الشهر الماضي (حزيران-يونيو) دار على صفحات جريدة "الحياة" ما يشبه السجال بين الأمين العام للجامعة العربية، العربي الشهم عمرو موسى، والشاعر المبدع محمد بنيس، وكل منهما علم بارز ومُجلٍّ في موقعه ومنطقه. وكان محمد بنيس قد نشر مقالاً في "الحياة" أعلن فيه احتضار اللغة العربية، وأصرَّ على كلمة "احتضار" من خلال سيل من الأٍسئلة حول العربية والانتماء العربي وحتى العالم العربي. وكان أن ردَّ عليه الأمين العام للجامعة العربية مدافعاً ومنافحاً عن اللغة العربية. وأجابه محمد بنيس برد مهذب شكلاً، إلاَّ أنَّه موغل في تأكيد احتضار اللغة العربية، وما يتصل بها من الانتماء العربي، وحتى تسمية المنطقة التي تضم دول الجامعة العربية الاثنتين وعشرين!؟؟...‏

    دولٌ تحسبها شرقية*وإذا أمعنت فالحاكم غربي ورحم الله الشاعر "أبو سلمى".‏

    كانت تسمية المنطقة بمصطلح "العالم العربي" موضع إنكار من الشاعر العربي، ومثلها فكرة العروبة. وهنا خرج بنيس عن لعبة التساؤل وطرح الموضوع بلهجة تقريرية جازمة، ولعله من المفيد أن نقدم المقطع التالي من كلامه الذي يشكل لبّ موقفه، على الرغم من تأكيداته في أول المقال وفي خاتمته أنه "من واجب المثقف أن يختار السؤال ويتعلم كيف يطرح السؤال". وأخشى ما يخشاه المرء أن يكون المقطع التالي المشار إليه، قد أقفل الباب على أية أسئلة. وأتمنى أن يكون هذا الاستنتاج نوعاً من الوهم. وهذا هو المقطع:‏

    "أما العروبة فهي فكرة بالدرجة الأولى، بل هي فكرة من أفكار العصر الحديث. بذلك جاءت بسرعة، تأثراً بفكرة القوميات الأوروبية، ومضت بسرعة، لأنها لم تكن تستوعب معنى الشعوب التي أصبحت بفعل الفكرة تتسمى بالشعوب العربية، ولا تدرك تاريخها الخاص ولا تركيبها الاجتماعي أو اللغوي أو الثقافي، مأزق لفكرة تصرٌّ على أن تبقى جامدة، لا تريد أن تتحول إلى فكرة متحركة. ثم جاءت حرب الخليج الأولى وجاءت الثانية. ولنا ما نريد أن نرى ونلاحظ في هذا العالم الذي مازلنا مصرّين على تسميته بالعالم العربي فيما هو شظايا متطايرة أو هو يتعرض لحملة أصولية منتصرة على الأرض تدعو للانتماء إلى العالم الإسلامي لا العربي أو تعبّر عن رفضها لتسميته(؟) حركات كردية وأمازيغية(؟؟؟).‏

    ويضيف السيد محمد بنيس مباشرةً:‏

    "إن الولايات المتحدة أول من شطب على هذه التسمية عندما طرحت تسمية جديدة هي الشرق الأوسط الكبير، التي سنصبح مستعملين لها ونحن راضون، فلا المثقفون ولا السياسيون ولا الاقتصاديون نجحوا في إعطاء معنى متحرك لتسمية العالم العربي".‏

    انتهى كلام بنيس.‏

    وهكذا يتضح أن المسألة عند محمد بنيس ليست مسألة اللغة العربية، بل مسألة ما تمثله من انتماء عربي. حتى تلك التسمية الغامضة، المطاطة "العالم العربي"، تثير لديه إشكالات. مع العلم أن هذه التسمية غربية، أصلاً، وكانت الجماعات العربية تستنكرها وتفضل عليها مصطلح "الوطن العربي"، الذي لم يفطن إليه شاعرنا. ومن الواضح أن اعتراضاته على مصطلح "العالم العربي" هي أَوْلى بمصطلح "الوطن العربي".‏

    وبالطبع هذا مجال مفتوح لحرية الرأي والتساؤل. ولكن الأسئلة بحد ذاتها ليست دائماً بريئة من التحزب، ولا تقود عادة إلى موقع المقاومة –كما أكد بنيس- بل هي أقرب وسيلة إلى التشكيك وجرّ الحالة المفترضة إلى حافة الاحتضار. وعن ذلك يُسأل أهل الإيمان، فالكفر يبدأ من الأسئلة. ولا يعني ذلك أي اعتراض على الأسئلة بحد ذاتها، ولكن لِنَقُلْ مرة أخرى إن الأسئلة في حالات عدم البراءة هي أكثر خطورة من الأسئلة الجاهزة، وفي كل فتر ة من الأزمنة العصيبة في تاريخنا وتاريخ العالم يلجأ المثقفون والمفكرون إلى الأسئلة تعبيراً عن القلق أو الرفض أو الحيرة أو الاستلاب alienation.‏

    والمرجوّ ألا يفهم من ذلك أي تعريض أو إيحاء بما تبطنه أسئلة ذلك الشاعر الذي تألق باللغة العربية، ولقي من دوي الشهرة على امتداد الوطن العربي ما لا يحلم به أي شاعر إقليمي ضمن وطنه القُطري. والأدب والفن بالطبيعة يبحثان دائماً عن الفضاء الأوسع ويحلمان بالكونية المطلقة. وهنا يمكن أن يشير المرء إلى أن أهل الأدب والفن هم عادة حماة الانتماء الأوسع. والحقيقة أن الانتماء العربي ينبغي ألا يهتز بسبب الوضع المزري الذي تُُعاني منه البلدان العربية (هل ينبغي أن نسميها الشرق أوسطية؟)، فهذا انتماء جغرافي ذو بعد واحد.‏

    وكان المستعمرون في السابق اخترعوا تسميات جغرافية مضلّلة من أجل تذويب الانتماء مثل: الشرق الأدنى، والشرق الأوسط، والشرق الأقصى، فهل هذا انتماء: فشرق ماذا وبالنسبة لمن؟..‏

    نقطة أخرى في مجال الانتماء لابد من الإعلان عنها بصراحة. وفي هذه المرة سنستعمل صيغة سؤال، ولكنه سؤال استنكاري وهانحن نعترف بانحرافه عن البراءة.‏

    هل مصيبة الأقطار العربية هي من فعل الانتماء العربي والتعامل باللغة العربية؟؟‏

    وهل كل بلد عربي على حدة يجد نفسه رافلاً بأثواب النعيم والحكام الصالحين ولا يكدره جوع ولا عِوَز؟.. وليس له من مصيبة سوى مصيبة الانتماء العربي واللغة العربية.‏

    ألم تخرج أقطار عربية عن عباءة الانتماء الأوسع، فكانت معاناتها أقسى وأوجع؟..‏

    ألم تتخير أقطار أخرى لغة (متحضرة) غير لغة العرب، فلم تصنع مجداً ولا قفزاً وإنما خلقت الإشكالات الداخلية والفتنة المدمرة؟..‏

    ما أهون الأسئلة يا شاعر المشرق والمغرب وما أصعب الأجوبة.‏

    وهل مسألة اللغة العربية جديدة على أسماعنا وفطنّا لها اليوم أم أنها متكررة منذ مطلع القرن الماضي حين اعتقد متسائلون كثيرون أنها سوف تفنى وجرت محاولات صاعقة لإحلال لغات أخرى محلها ولم تُجد فتيلاً؟..‏

    وهل محنة اللغة العربية وضعفها مجرد محنة معزولة عن ضعف آليات الحكم و آليات الاقتصاد وآليات الإعمار وآليات الحرية والديمقراطية؟؟ وآليات التربية والتحضّر؟..‏

    لماذا يستمر كل قطر عربي في إلقاء اللوم على الآخرين من العرب؟.. وينسى نفسه؟..‏

    وهل إذا حُلت مشكلة الأقليات الظاهرة الآن على المستوى القومي: فسوف تنتهي مشكلة الأقليات في كل بلد عربي على حدة أم ستبرز أقليات أخرى على أسس مختلفة؟..‏

    يكفي أن نتذكر العراق الدامي وبلداناً أخرى تسيل دماؤها من جروحها ولا أحد يسمع بها.‏

    ختاماً..‏

    تحية ومحبة لك وللأمين العام، ومرحى لأسلوبك الرفيع في "مثابة الرد على الأمين العام" وعذراً لأسلوبي الجريح الذي غلبني في أكثر الأحيان فقصّر في بيان مكانتك المرموقة في الأدب العربي-والفكر العربي.‏

  2. #2
    زائر
    السلام عليكم

    وجدت من المفيد نشر مقالة محمد بنيس في احتضار اللغة العربية :

    في احتضار اللغة العربية
    >محمد بنيس الحياة 2005/05/6
    كان يرغـب في تمـزيق شعر رأسـه. يشده بأصابع اليـديـن مجتمعة ويجـذب. عضلات الوجه متوترة. وكلماته لا تتوقف. “ما معنى احتضار اللغة العربيـة، يا محمـد؟ كيف تجرؤ على قول كهذا؟” ثم أضاف من غير تردد: “هذا شيء فاقـد لكل معنى. يا أخي محمد، يا محمـد، بالله علـيك. العربيـة تحتضر؟ هـذا هـو الجنون”. كان يردّ على ما جاء في حـديثي عن مصير اللـغة العربية بعد قـرن ونصف قـرن من التحديث. ملاحظتي لم تكن جـديدة. هي من بين ملاحظاتي التي أهتدي بها في أفعال وكتابات. العربية. عربيـتي. تحتضر. في المغرب والمغرب العربي. وفي بلاد عـربية مشرقية.
    جدل مفتوح عن اللغة في زمنـــنا وعن اللغة العربية تحديداً. لم نعد في ذلك الزمن المتباهي بالديمـومة، بالعربية الخالدة، كما بالعروبة الخالدة. العـربية أكبر من العروبة وتاريخـها أطول مـن تاريخ العـروبة. لكن العـروبة مضت بسرعة مثلما أتت بسرعة. وتبقى العربية في حالة احتضار. موت مؤجّــل. ذلك الاحتضار الذي نعيشه يومياً في حياتنا، ولا نحتاج لمن يـدلنا علـيه. في الحياة اليومية لكل واحد منا نستـطيع الوصول إلى هـذه الملاحظة من دون عناء. ساعات النهار كافية لأن ترى. وتلاحظ. هـذه اللغة في حالة احتـضار.
    ليـس في قول كهذا اختـراع. أو ليـس فيه تجنّ على لغة عربية، كما يمكن أن تصوغه عبارة مستـقـيمة. لستُ من أهل العبارات المستقــيمة. فالعربية تحتضر أوضح بالنسبة لي من عبارات لا يسري فيها نفَـس المتكـلم. تلك هي اللغة. والعـربية. والاحتضار. عالم من الكلمات يحوّل المعاني عن طريقـها المعتاد لقـول ما لا نتجرأ على قـولــه، على رغـم أن الزمـن لا يطـلب منا تباهـياً. هي هُـنا. معنا. فــينا. ونحن نعايــن احتضارها. وما العجب في الملاحظة والجرأة على الجهر بما نلاحظ؟ سؤال ربما كان في غير محله، ما دام السـؤال نفسـه أصبح منسياً في حياتنا الثقافـية. بل إن طـرح السؤال لا يفيد في تصويب رأي ولا في الحث على العودة إلى الوقائع، لعلنا نتأكد على الأقــل.
    بين جملتـين قصيرتـين عن زمنـنا وعن اللغة. وأنت ترى أن العربية تحتضر. في بيتك وعلى يد أبنائـك. أقصد على يد عائلـتك التي تتسمى في لغتك بيتَ العرب المـوسّع وعلى يد من تعلموا هـذه اللغة ثم تركوهـا تهْــوي. إلى قعـر الهجران. في حياة كنا نعتـقد بأنها عـربية. ولا أدري بمَ يُمكن لي أن أسـميها اليوم. تلك اللـغة. العربـية. والاحتضار. والصديق القـديم الذي يرغب في تمزيـق شعره لأنني قلت بعبارة غير مستقيمة ما لا يـراه هـو، المؤمن بالعروبة المنتصرة على الأعداء. ولربما كنتُ أحدهــم، في زمن لا ينـذر بمثل ما أقول أنا. والعـياذُ بالله.
    حديث عن الزمن واللغة في عهد العـولمة. وهـو يمكن أن يظـل مفتوحاً على تناول قضايا حياتـنا الثقـافـية. كل مرة كنت أصطدمُ بنفْــسي التي تلاحظ ما لا أحبذ ملاحظـته. وهي تنازعني في الحـديث. لا تقـولي. هكذا أفضل أن أخاطـبها حـيناً وأن أناجـيها حيناً. بينــهما الوقائع. والألــم الذي لا يفارق الملاحظة. ثم أنت لا بد من أن تقـول ما تلاحظ. تقول أو تكتب. من الأحسن أن أكتب. آنذاك لا أكـون مُلـزَماً بالصمت لأنني أمام من أخـشاه. أخـشى سطوة كلماته. العروبة المنتـصرة. والعـربية التي تفـتح قــارات الحياة.
    من الأحسـن، إذاً، أن أكتب. وله، ذلك الصديق، أن يقـرأ أو لا يقــرأ. وهو في الحقيقة لا يقـرأ. يسعد بالكلام. يالجلـوس إلى طاولة والكلام. ما أحلى الكلام. إلى طاولة. والمارة اللامبالـون. هي الحكمة في زمن العولـمة. الجلوس في المقهى المفضل من أجل أن تتكلم مع نفسـك. لن تجـد من يكلمك. كل جالس هـو جالـس مع نفسه. يكلمها بما لا يتكـلم مع غيره. الأسـواق. الهـواتف النـقالة. المباريات الرياضية. والاحتـفال بالأعياد الوطنية. مجلـس للكلام إلى طاولة. وأنت لا تكلم إلا من لا يزعجــك.
    ربما كنت من هؤلاء المزعجــين، الذين لا يتحفّـظون في قول ما تلاحظه النفـس. الحواس من قبيلة النفـس. وهي جميعاً تتآلـف في الملاحظة. لغة عربية تحتضر. ذلك ما ألاحظه في الأيام التي تمر ونحنُ لا نَعــدّ مسـاءً ولا صباحاً. هي أيام تنــتفي فيها لغتك العربيـة. في المؤســسة كما في الفضاءات التي هي فضاءات اللـغة. المـدرسـة. الجامـعة. الكتابـة. الوثائـق الرسـمية. الإعـلام. التـداول المكتوب. الإعلانات. لا حق للغة العربية في الكلام. هناك في جميع هذه الفضاءات. لغات أخرى، بحسب الأفضلية السياسـية والاقتصادية، أو بحسب المنفعة والامتياز. لغات تتحرك في اتجاه ما ينفع وما يضمن الامتـياز. وأنت تلاحظ.
    ما الذي يصعب تصديقه وأنت تلاحـظ؟ هـذا السـؤال بسيط جداً ولا يتطلب اجتهاداً من نوع استـثنائي. أيصعب تصديقُ أن العربية أصبحت شبه مفـتقدة في التـعليم ، أو في الكـتابة، أو في المؤسـسة الرسـمية والمؤسـسات الاقتصادية والتجارية والإعلاميـة؟ فيـمَ تتجسـد الصعوبة؟ في البحث عن الكلمات الصالحـة للوصـف أم فـي الفكرة التي لنا عن الوقـائع؟ سؤالان لا يفــيدان أننا نتجنّى على واقعة بقدر ما يفيدان أننا لا نخفـي الوقائع عن الكلـمات. هـو ذا الأمر، الذي يواجـهنا ونحـن نسأل من يرفـض أن نقول إن هناك احتضاراً للغة العربية في حياتـنا العامـة والشخـصية.
    أسئلة عن وقائع يومية في فضاءاتنا. نتحاشى ما هو أبعد من هذه الفضاءات، التي هي المكان الطبيعي لوجود اللغة المكتوبة وتداولها. بها أفرق بين ممارسة اللغة اليومية المنطوقة وبين اللغة المكتوبة. في التفريق بينهما نكون قريبـين من الوقائع في جميع اللغات الحية في العالـم. تفـريق لا بد منه، تجنباً لأصولية لغوية تزعم أن هناك لغة واحـدة وحياة واحـدة لكل لغـة، وهو ما لا ينطـبق على حياة اللـغات.
    مسألة احتضار العربية يعرفـها جميع الآبـاء الذين يختارون لأبنائهم التعليم الأجنبي أو المدارس الخاصة. منـذ الابتدائي. لا أريـد هنا الخلط بين الواقع العلمي وبين اللغات في العالم. ذلك شأن التعليـم العالي والبحـث العلـمي. لكنني أقصد هؤلاء الآباء الذين يختارون عن قناعة مـدارس التعليم الأجنبي، حرصاً منهم على مستقـبل أبنائـهم. وفي اللغات الأجنبـية يكمن هـذا المستقـبل. لم لا نصدق هـذه الواقـعة؟ لا أحكم عليها بالصواب أو الخطأ، بل ألاحـظها. ثم ما العيب في ملاحظة الحياة الاقتصادية التي لـم تعـد تحـتاج إلى العـربية؟ العربية عائـق من عـوائق المعاملات المباشرة على الصعيد الوطني والدولي. هكذا يقـولـون. والخطاب السياسي الرسـمي؟ أما زلنا نشـك في أنه قبل كل شيء خطاب يقـوم على لغـات أجنبية؟
    من الصعب نسيان هذه الوقائع العامة والنفور من تصديقـها. كل هذا يحدث في سياق فكرة العـروبة. وهي اليوم فكرة لا وجود لها في الواقـع العيني. لا وجود لعالـم عـربي ولا لعروبة. الجامـعة العربية لا تعني بعد هـذا شـيئاً. فلـيست هي التي تسمّي العالمَ العربيّ ولا هي المقـررة في مصير فكرة العروبة. الجميع يعلم أن الجامعة العربية مؤسسة ذات وضع سـياسي رمـزي. وهي لذلك تفتقـد القـدرة على التسمية وعلى تقرير مصير التسمية. لسنوات طويلة كانت تلك حالتها. والإصلاح الذي يمضي ويعود هـو ما لا يصدر عن المؤسـسة نفـسها.
    لهذا السياق الأصغر سـياق أوسع، هـو اليوم سياق العـولمـة. من يتنـكر لفعل العــولمة في تدمير العـديد من لغات العالم فهـو مخادعٌ لنفـسه. لقد أثبتت دراسات علمية أن هناك العـديد من اللغات تندثر سنة بعد سنـة، بسـرعة فائقة. نحن نرى فقط بعـض اللغات المنطوقـة التي أصبحت تريد التمتع بوضعـية اللغة المكـتوبة. ولكننا في مقابل ذلك لا نرى ما هـو أقـوى، أي العديـدَ من اللغات التي تندثـر، سنة بعد سنـة.
    عندما نَقـبل بالملاحظة فنحن نقـبل بنتائج الملاحـظة. إذ لا يمكن الإقـدام على الملاحظة ثم إنكار ما نلاحـظ. تناقـض أولي. ونحن علينا تجنب السقـوط في الكـلام الذي يتهرب من اتباع الطريق المعتمدة في الاستـقصاء. لذلك فإن لغات عـدة هي اليـوم تندثر بسـرعة. منها لغات أوروبيـة نفـسها كانت منطوقـة. التلفــزيون وحده يقـوم يومياً بمهمة القـضاء على لغات. فالحديث بلغـة واحدة في التلـفـزة لا يترك مجالاً للغات التي لا تحظى بالتقديم والمشـاهــدة. لغات تنقرض، على يد التلفـزة، أو في سبيلها إلى الانقراض. ولم يعد الأمر يتطلب حملات تطهيـرية. التلفـزة تقوم بالمهمة التي كانت الجيوش الإيديـولوجية تتقــن تنفيــذها.
    لغات أوروبية تندثر. في فرنسا وإيطاليا وإسبانيا وألمانيا وإنكلترا. هذه الدول ذات السلطة الكبرى للتلفزة وللمدرسة أيضاً. وأنا هنا لا أقـدم هـذه النماذج للمقـارنة بينها وبين العربية. لا. هـذه المعلومة تخص الملاحظة العامة التي تنصب على انـدثار لغات من العالم. أقول الانـدثار ولربما كان هناك ما يمنع لغةً من الاندثار تماماً، على نحو ما كان يحدث في القديم. فالغزو الإسباني لأميركا اللاتينية لم يقطع، كما نعلم، لغات الهنود الحمر من جذورها تماماً.
    وهـي اللغة العربيـة. تحتضر. فـي سياقـين، محلي ودولي. من المتيسـر علينا الانتـقال من الاعـتقاد في سـيادة العربية وانتصاراتها إلى ملاحظة احتضارها إن نحن تخلّـيْـنا عن الفكرة المسـبقة التي نملكها عن العربية في المغـرب والمغـرب العربي أو في عـموم العالم العربـي. هو انتقال ضروري من الإيديـولوجيات إلى الملاحظة التي تصل إلى حد تدمير كل إيديولوجيا قوميـة ترفـض الوقــائع. ما لنا لا نحتكم إلى الملمـوس؟ سـؤال مستخلص من المعـرفة العلمية ذاتها. ليس هناك ما هـو أقوى من الملمـوس الذي يتجـدد في حواســك. الملاحظة هي التي تجـدده في ليلك ونهارك. وأنت تلاحظ أو تفكـر في الذي تلاحـظ.
    أعلمُ أن هناك حدوداً ليس من المسموح للمثقـف العربي تخطيها. حدود وضعها لنا إيديولوجيون، هم حفَــدَة الفقـهاء. وهي حدود رفع اللـواء. في كل مرة، دفاعاً عن الخالد فيـنا وفي لغتنا وثقافـتنا. ولا مانع عندي من أن يكون بيـننا من يرفعـون اللواء بالحماسة الرشـيقة للكلـمات. عندما نجلس إلى طاولة ونتكلــم. العـربية المنتصرة. لك أن تردد العـبارة في نفسك وعلى المـلأ الذي يمر بك ولا يـراك. هو وأنت على جانبي طريقــين لا تتنـاظران. جبلٌ فاصل بينــكما. جبل الوقائع. ولا تحزنْ على ما لم تلاحظ، لأنـك في نفسـك مطمـئن إلى الفتوحات التي تحقـقـها العربية في حياتـك العربية، من بلد إلى بلد، من المغرب إلى المشـرق. ولا خوف عليك مما أصاب العربيـة, وهي تحتضر في الجهة المحجوبة عن بصـرك.
    بين المسموح وغير المسموح به تكون الكتابــة مشروعـاً لإثبات ما تلاحظه النفـس. هناك. في المكان الذي يجب أن تكون فيه. إنك من يلاحـظ ومن له أن يثبت ما يلاحظ. احتضار العربية في سياق جهــوي وسياق دولي. فلا يفطن المقـتنع، السعيد بالانتصار إلى ما هي عليه عربيــته في بيته وعلى يـد أبنائه. هي الملاحظـة اليومية التي تؤلـم عندما نـرى ولا نصمت على ما نرى. بـين الصمت والتصريح سـلالـةٌ مـن المثقـفين. هناك في كل زمن كانت السلالة تفعــل فعلها. والذين يتوهّــمون أن العربية في حـياة منتصرة لهُــمْ ما يتوهّــمون.
    قبل أو بعد. ما يعنيني هو هذا التـناقــض الغريب بين أن نعـيش حياة لغتنا العربية وبين منعـنا من التصريح بما هي عليه اليـوم. لم يعد الأمر يتطلب بطـولة ولا تضحية. ثمـة وقائع تحثــنا على أن نـرى. هذا هــو الأسـبق. نرى ونلاحظ. أما أن ننقـضّ على الناطق بما يلاحظ، محاكمةً له بفكرة مغلوطة، والتـوق إلى الإجــهاز عليه، فهـو لا يفــيد في معرفة وضعية العـربية ولا في الدفـاع عنها. القول باحتضار العربية هو الفعل الأول للمقـاومة. في الكتابة. والـرأي. شهادة على أنــنا لا نقـبل احتضار لغة عربية، هي ما لي في تسـمية الذات والآخر والأشياء والعالــم.

  3. #3
    زائر
    السلام عليكم

    وهذا رد الأستاذ عمرو موسى عليه :

    رداً على محمد بنيس: العربية قادرة على مواجهة تحديات العصر
    عمرو موسى الحياة 2005/06/4
    اطلعت على المقال المنشور في جريدتكم الغراء للشاعر العربي الأستاذ محمد بنيس تحت عنوان «امكنة مختلفة – في احتضار اللغة العربية»، وذلك في العدد الصادر بتاريخ 6/5/2005.
    وتعليقاً على ما ورد في المقال أود ان أسجل ملاحظة استرعت الانتباه وهي ان الكاتب الكبير استخدم في مقاله كلمة «احتضار» ثماني عشرة مرة... الأمر الذي يعكس حال التشاؤم العام والإحباط الشديد التي يشعر بها كاتبنا (وأشعر بها معه)، إلا ان تشاؤمه تجاه اللغة العربية التي يتوقع لها ان تندثر، وتجاه العروبة التي يرى ان لا وجود لها في الواقع ربما جاوزت حدود التوقع المنطقي، وخصوصاً حيث قال إنه لن يكون هناك وجود لعالم عربي، وأن الجامعة العربية لا تعنى بعد هذا شيئاً، فهي مؤسسة ذات وضع سياسي رمزي، تفتقد القدرة على تسمية العالم العربي وأنها ليست المقررة في مصير فكرة العروبة... الخ. وأن لغات عدة تندثر اليوم بسرعة، منها لغات اوروبية، وأن التلفزيون وحده يقوم يومياً بمهمة القضاء على تلك اللغات، وأن الأمر لم يعد يتطلب حملات تطهيرية فالتلفزة تقوم بالمهمة التي كانت الجيوش الإيديولوجية تتقن تنفيذها.
    وكم كنت اود ألا يصل كاتب وشاعر كبير مثل محمد بنيس الى هذه الخلاصة السلبية في حق اللغة العربية، او ان يقول بسهولة خلع رداء العروبة التي واجهت وستواجه – مثل غيرها – الكثير من الصعوبات والتحديات، وأقول انه بفضل العلماء والأدباء والكتّاب من ابنائها – مثل الأستاذ بنيس نفسه – ستظل اللغة العربية لغة يتحدث بها مئات الملايين، وبها ينتجون ويتواصلون ويعبرون عن تاريخهم ويعيشون حاضرهم ويبنون مستقبلهم. وكم اتمنى عليه بل وأطالبه بأن يقود حملة بين ابناء هذا الجيل، المستنيرين منهم على رأسهم، لمواجهة ما اشار إليه من احتمالات احتضار اللغة العربية، وأن يشدوا من أزر مبدعينا ومثقفينا بعيداً من روحية الاستسلام. ولعلي في هذا السياق أذكر كاتبنا الأديب بما تناقلته بعض وسائل الإعلام العربية من بث روح اليأس والقنوط تجاه المشاركة العربية الجماعية في معرض فرانكفورت الدولي للكتاب للعام 2004، واختيار العالم العربي ليكون ضيف الشرف والمحور الرئيس في هذه التظاهرة الثقافية المهمة. وجاءت النتائج الإيجابية التي حققتها المشاركة العربية في هذا المعرض على عكس هذه التوقعات المتشائمة، وتحقق الكثير مما كنا نأمله منها حيث زار الجناح العربي عشرات الألوف واطلعوا على حضارتنا وثقافتنا العربية بانبهار وإعجاب شديدين، وصدرت خلال المعرض تعليقات صحافية عالمية حول الأدب والفكر العربيين زادت على ستة آلاف تعليق وخبر وصورة، وأدى هذا الحدث دوره في مواجهة الهجمة الشرسة على الحضارة والثقافة العربيتين التي اشاد بهما وبدورهما في إثراء الحضارة الغربية المستشار الألماني غيرهارد شرودر في كلمته القيمة في حفل افتتاح معرض فرانكفورت الدولي للكتاب يوم 5/10/2004، والتي تجاوزت مضمونها الثقافي الى مغزاها السياسي.
    إن هذه التظاهرة الثقافية ما كانت تتم لولا اصرار قلة من رجال الأدب والسياسة على رفض كل اسباب اليأس والقنوط، وتلك هي عبقرية الأمة التي تواجه المحن والتحديات بصبر وعزيمة وإصرار، وأذكر هنا بما تم في القمة العربية التي عقدت في تونس في ايار (مايو) عام 2004، من اصدار وثيقة للتطوير والتحديث نابعة من حاجات الإنسان العربي نفسه، نسهر الآن على متابعة تنفيذها، هذا إضافة الى الدور الذي قامت وتقوم به الجامعة العربية من اجل ترسيخ مسيرة الإصلاح والتحديث في الوطن العربي.
    وأود ان اؤكد لكاتبنا المميز الذي طالما سعدنا بكتاباته وإبداعاته، ونتمنى له ان يتجاوز الحال التي كتب فيها مقاله، ان اللغة العربية لن تحتضر، وأن العروبة لن تندثر... فالعربية هي لغة القرآن الكريم وستظل محفوظة بوعد الله في قوله الحق «إنا نحن نزلنا الذكر وإنّا له لحافظون»، فمنذ نزوله استقام اللسان العربي لفظاً وسهل بياناً وترقرق لغة، وبفضل هذا الإعجاز لن تحتضر اللغة العربية، ولن تندثر طالما تمسكنا بها جميعاً وأثرينا اركانها بالجديد في عالم المعلومات والتقنية ومختلف ارجاء منظومة المعرفة العالمية.
    ان اللغة العربية – على رغم كل محاولات النيل من ثوابتها وقواعدها – قادرة على مواجهة تحديات العولمة الراهنة بالتواصل مع الحضارات والثقافات المختلفة والتفاعل معها، وعلى أدبائنا ومبدعينا، والسيد بينيس واحد منهم، ان يدعموا لغتنا بإسهاماتهم وعصارة افكارهم، وعلينا ان ندعمهم بحركة ترجمة نشطة، من اللغة العربية وإليها، تتناول مختلف نواحي العلم والفن والأدب العالمي المعاصر.
    ذهب الكاتب المقتدر في مقاله الى ان العروبة مضت بسرعة مثلما اتت بسرعة، وأن العربية في حال احتضار وأنا وإن كنت، كما قلت، اشارك الكاتب حال الإحباط العام بل والغضب لحال «العروبة» وكذلك لحال الإسلام والمسلمين، إلا انني اعقد الأمل على اهل العلم وأصحاب الفكر وأولي العزم من اعضاء المجتمعات العربية كي يتصدوا لمحاولات اضعاف العروبة وهزيمتها. والتاريخ كما يعلم اخي محمد بنيس ممتد امتداد الدهر نفسه، ولست ارجو ان يكون من انصار نظرية نهاية التاريخ، فالكلمة النهائية لم تقل بعد، هذا إذا كان هناك نهاية كلف البعض نفسه بأن يقول بها دون وجه حق او منطق. وختاماً، اود ان انتهز هذه الفرصة للإشادة بالجهد المميز الذي تبذلونه وزملاؤكم في اصدار جريدة «الحياة» وفي اختيار موضوعاتها الممتعة متمنياً لكم التوفيق، هذا وأرجو التفضل بنشر هذا التعليق بالطريقة التي ترون.
    * أمين العام لجامعة الدول العربية

  4. #4
    زائر
    السلام عليكم

    وأخيراً رد محمد بنيس :

    قرأت متأخراً ردك على مقالي «في احتضار اللغة العربية». وأنا اليوم أود أن أحييكَ على عنايتك بما كتبتُه في موضوع العربية والعروبة. بكل تقدير قرأتُ ردك وتمعنتُ في عباراته وبعض كلماته. فهو صادر عن شخصية مرموقة في عالمنا العربي وتحظى باحترام في الوسط الدولي. والعبارات، التي صغتَ بها ردك، تعكس الدقة في اختيار الألفاظ والحرص على توصيل الرأي في موضوع كان يشغل بال العرب، مثقفين وسياسيين، منذ أكثر من قرن، والصراحة في إعلان الاختلاف. وأحيي، هنا، النبل الذي تعاملتَ به معي شخصياً ومع ما ورد في مقالي. ذلك ما كنتُ أعرفه عنك في مواقفك وتعاملك مع البعيدين والقريبين. كل ذلك زاد من اقتناعي بأن العالم العربي يحتاج إلى المحافظة على مثل هذه النفحة الإنسانية، التي تقربنا من بعضنا بعضاً، وتؤدي بنا إلى أن نجعل من الاختلاف في الرأي طريقاً نحو المراجعة والتصويب، كلما أدركنا أننا على غير صواب.

    لقد أحسستُ، فور الانتهاء من قراءة ردك، أن من واجبي أن أبعث لك بتحية هي التقديرُ الخاص لكَ ولعنايتكَ بكل ما يهم العالم العربي. وردك على ما كتبته في موضوع العربية يبيّن إلى أيّ حد تشغلك الآراء الثقافية بقدر ما تشغلك الأوضاع السياسية الكبرى والملفات الصعبة. ذلك ما ينبئ بما نعرفه عنك من شجاعة وكرامة. بل إن ردك يؤكد لي أن السياسي العربي ليس واحداً ولا من نمط واحد. وتحية التقدير، التي أنا سعيد بتوجيهها لك، أودّ لها أن تكون في مكانها فيما هي تخص من يستحقها.

    ليس في ذلك غرابة. يفتقدُ عالمنا العربي حواراً بين المثقفين والسياسيين، وبين الثقافي والسياسي. هي معضلة لها تاريخ طويل. وما علينا الدفاع عنه والتحريضُ عليه هو هذا الحوار الذي يجب أن يتحول إلى ممارسة عادية في حياتنا الثقافية والسياسية على السواء. الممارسة العادية التي أرمي إليها هي ما يحدث في جهات أخرى من عالمنا الحديث. أعطي مثلاً واحداً. صديقي البرتغالي، الشاعر كازيميرو دي بريطو، يحدثني دائماً عن رئيس الوزراء البرتغالي الأسبق سواريس في علاقته بالمثقفين البرتغاليين. ودائماً أنصت باهتمام إلى ما يرويه لي كل مرة. كان سواريس يدعو نخبة من المثقفين البرتغاليين إلى عشاء عمَل مرة في الشهر ويفتح الحوار معهم. كان الحديث في جلسات الحوار يتناول قضايا ومواضيع عامة، وقد يتناول مسألة محددة، ثقافية، أو اجتماعية، أو حتى سياسية واقتصادية. وكان في أسفاره الديبلوماسية الكبرى يستدعي نخبة من الكتاب والفنانين لمرافقته. كان يتبادل وإياهم الحديث على امتداد الرحلة. حديث مع المثقفين من أجل شحذ الوعي قبل اتخاذ قرار من القرارات المؤثرة في سياسة الحكومة.

    تلك العلاقة مفتقدة في عالمنا العربي. وهي لا تطلب منا أي أسف. فالسياسي العربي المسؤول نادراً ما يعتني بالثقافة والمثقفـين، نادراً ما يعرف مثقفي بلده أو يقرأ كتاباتهم أو يطلع على أعمالهم الفكرية أو الفنية. إنه السياسي الذي يعلمُ كل شيء ويفهم كل شيء ولا يحتاج لمن يتعلّمُ منه أو يتحاور معه. وللمثقف لديه مكانُ التابع، الذي عليه أن يردد ما يقول السياسي. تلك مرتبته في تداول الخطاب.

    لا أريد أن أقحمك في وضعية لست أنت مسؤولاً عنها. فردك يدل على أنك سياسي عربي من صنف حديث. تطلع على آراء المثقفين وتعتني بكتاباتهم المتعلقة، على الأقل، بمجال مسؤوليتك في الجامعة العربية. لذلك فأنا، من هنا، أرغب في أن تكون كلمتي تحية تقدير لسلوك غير معهود في حياتنا السياسية.

    (2)

    تحية تقديري لك تعني أيضاً أن ما جاء في ردك على مقالي يستحق مني اهتماماً في القراءة والنقاش. وهو ما سأحاوله، وأنا في حرج شديد من تواضعك وصدق كلماتك. الحرج لا من أن أكتب ما يجب أن أكتب، بل من خشية أن أغتر بالمثقف الذي يدعي الحقيقة. تلك خشية لا أستصغرها. ما كتبتُه عن احتضار العربية أبعد من أن يكون نزوة جالت برأس طائش في لحظة عربدة. ولو كنتُ كذلك لما عثرتُ فيكَ على إنصات متواضع إلى حد بعيد. لقد وجدتَ في استعمالي لكلمة «احتضار» ثماني عشرة مرة دليلاً على حالة التشاؤم والإحباط. لكن التواضع هو التصريح بأنك تشعر بالحالة ذاتها. وهذا تقاسـمٌ للهمّ الثقافي والهمّ المصيري، حتى لا أقول السياسي. ذلك ما نحتاج إليه. أن نتقاسم الهمّ الكبير، الوقوفَ مذهولين أمام المصير. على أن استعمالي لكلمة «احتضار» يأتي في سياق التساؤل، لا في سياق التشاؤم والإحباط. إنني امتنعتُ ، منذ زمن طويل، عن استعمال التفاؤل والتشاؤم، وبدلاً منهما اخترتُ عن قناعة استعمال التساؤل. من هنا لا يكون اختيار كلمة «احتضار» وربطها بالعربية لصيقاً بالدلالة على تشاؤم شخصي ولكنه انحياز الى التساؤل. بل إن هذا التساؤل هو فعلُ مقاومة. ذلك ما أثبتته في خاتمة المقال عندما أكدتُ أن «القول باحتضار العربية هو الفعل الأول للمقاومة. في الكتابة. والرأي. شهادةً على أننا لا نقبلُ احتضارَ لغة عربية، هي ما لي في تسمية الذات والآخر والأشياء والعالم».

    هل يحق لنا أن نتساءل؟ أو أليس من واجب المثقف أن يختار السؤال ويتعلم كيف يطرح السؤال؟ إنها العتبة الأولى لتوضيح معنى احتضار العربية في خطابي. لم أستعمل احتضار العربية للمرة الأولى. مقالي الأخير يشير إلى أن هذه المسألة تشغلني منذ سنوات وأنني كتبت فيها مقالات وأدرجت موقفي ضمن تحليلات ومواقف نظرية وأعمال شعرية، تخص المصير الثقافي وتخص رؤيتي للعمل الشعري في آن. لا أقصد هنا الوقوف عند التفاصيل. قبل ذلك أشير إلى أن هناك اختلافاً بين المثقف والسياسي: الأول يعتمد السؤال بما هو فعلٌ استكشافي، فيما السياسي يفضل استبعاد السؤال لأنه برأيه منبع البلبلة والفتنة.

    إذاً هي ذي نقطة الانطلاق. لقد اخترتُ السؤال في حياتي الثقافية واخترت أن أتعلم كيف أطرح السؤال. تلك مسؤولية المعرفة التي تفتح أفقاً للنقد. استعمال كلمة «احتضار» هي المؤدية إلى السؤال. سؤال عن سبب هذا الاحتضار. لم أكن في جميع ما كتبت أخترعُ الخلوصَ إلى نزعة عدمية في التعامل مع احتضار العربية. مآل تلك النزعة معروف وله نتائج مختلفة عن التي أتوقف عندها. أما فتح أفق النقد فهو ما يبدو لي مفيداً في حياتنا الثقافية العربية، سواء أوجدنا من يستأنف السؤال أم لم نجد. علينا عدم الخلط. إنني مسؤول عن الفعل الذي أقوم به. تلك هي حدود مسؤوليتي. والسؤال اختيار للمستقبل، للسفـر، للغريب في ثقافة ومجتمع.

    هل من حقنا أن نسأل عن مصير اللغة العربية؟ وعن تسمية هذا المصير بالاحتضار؟ وعن سبب ـ أسباب الاحتضار؟ هذه محددات لا بد منها حتى نشرع في ممارسة سلوك مختلف عما تعودنا عليه من رضى وقناعة وتسليم. في السؤال عن الحق في السؤال يكمن الوعي بما نحن فيه من حيث علاقتنا بالحداثة وبالوعي الحديث. لا أجد حداثة تتنافى مع السؤال ولا أعثر على فكر أو إبداع حديث يجيء من أفق الرضى والقناعة والتسليم، من أفق الطاعة لما هي عليه حياتُنا وموتُنا.

    (3)

    من هنا عليّ أن أوضح لكَ بأني لم أشك في قدرة العربية (ولا في قدرة أي لغة أخرى) على مواجهة تحديات العصر. هكذا أكون متفقاً على صيغة عنوان ردك. وهو موقف علمي كان العرب تبنوه منذ العشرينات من القرن الماضي. ولنا اليوم أن نعتمد دراسات علمية تسير في الاتجاه نفسه، بالنسبة الى جميع اللغات. لكن هذه المسلّمة لا تعفينا من التدقيق. إن العطب موجود في المتداولين للعربية لا في العربية ذاتها. احتضار العربية فعل إرادي لأهل العربية تجاه لغتهم. إنهم يهجرونها إلى اختيار لغات أخرى، لغات المصلحة والامتياز والمنفعة. وللتدقيق أكثر، أشرت في المقال إلى احتضار العربية في «المغرب والمغرب العربي وبلاد مشرقية». لا تلاعب هنا بالكلمات. علينا أن نفرق بين قدرة العربية وواقع هذه اللغة. ثم علينا أن نميز بين حياتها في بلاد واحتضارها في بلاد. هذا ما فعلـته وأنا «أرى وألاحظ» متجهاً نحو التساؤل.

    أما العروبة فهي فكرة، بالدرجة الأولى. بل هي فكرة من أفكار العصر الحديث. بذلك جاءت بسرعة، تأثراً بفكرة القوميات الأوروبية، ومضت بسرعة، لأنها لم تكن تستوعب معنى الشعوب التي أصبحت، بفعل الفكرة، تتسمى بالشعوب العربية، ولا تدرك تاريخها الخاص ولا تركيبها الاجتماعي أو اللغوي أو الثقافي. مآزق لفكرة تصر على أن تبقى جامدة، لا تريد أن تتحول إلى فكرة متحركة. ثم جاءت حرب الخليج الأولى وجاءت الثانية. ولنا ما نريد أن نرى ونلاحظ في هذا العالم الذي ما زلنا مصرين على تسميته بالعالم العربي فيما هو شظايا متطايرة أو هو يتعرض لحملة أصولية منتصرة على الأرض تدعو للانتماء إلى العالم الإسلامي لا العربي أو تعبر عن رفضها لتسميته حركاتٌ كردية وأمازيغية، بل إن الولايات المتحدة الأميركية أول من شطّبَ على هذه التسمية عندما طرحت تسمية جديدة هي الشرق الأوسط الكبير، التي سنصبح مستعملين لها ونحن راضون. فلا المثقفون ولا السياسيون ولا الاقتصاديون نجحوا في إعطاء معنى متحرك لتسمية العالم العربي.

    لكن علينا أن نتتبع الملاحظات. نعيش بالصدفة، هذه الأيام، النتائج الأولية لرفض الشعبين الفرنسي والهولندي المصادقة على الدستور الأوروبي. أحدث هذا الرفض شرخاً في الخطاب الأوروبي. معه بدأنا نقرأ ونسمع تحليلات عن معنى أوروبا وعن معنى الوحدة الأوروبية وهل هي ممكنة أم غير ممكنة. ما حيرني هو أن أوروبا، العتيدة بمؤسساتها ومجتمعاتها وفكرها وآدابها وفنونها وعلومها، تشك اليوم في مستقبل وحدتها، فيما العالم العربي، الذي لا يملك ما يؤهل مجتمعاته لتصبح حديثة، يؤمن أنه عالم موجود وجوداً موحداً وأن عروبته متمكنةٌ من استقرارها في نفوس الناس وحياتهم. اعْذرني. أنا لا أفهم شيئاً في هذا الأمر. فهل وجود مؤسسة الجامعة العربية كاف وحده لتسمية العالم العربي؟ هذا هو السؤال الذي يتطلب منا رؤية وملاحظة الوقائع. لا شيء أكثر من الرؤية والملاحظة. التسمية تصدر عن سلطة لا قاهر لها. فهي مصدر وجود الذي يُسمَّى، أكان شخصاً أم مؤسسة. ولا يمكننا توهم أن الجامعة العربية تملك هذه السلطة لأنها لا تملك ما يسمح لها بمعرفة العالم العربي قبل التأثير في واقعه أو التقرير في تسميته. فما الذي تعرفه الجامعة العربية عن العالم العربي؟ وما السلطة التي تستند إليها في التعامل مع أوضاعه؟ وكيف تتعامل الدول والمؤسسات العربية والأجنبية مع هذه السلطة؟ هذه أسئلة تبدو مزعجة ولكنها من صميم ما نعيش. وهو يتطلب منا الرؤية والملاحظة. واسمح لي أن أعبر عن استغرابي من مبالغتك في النظر إلى دور العلماء والأدباء والكتاب في المحافظة على اللغة، من خارج البنية التي تشرطهم. ثمة مبالغة، لأن نظركَ يتخلى عن العناصر الواقعية التي توجه الإنتاج العلمي والفكري والأدبي والفني. إن هؤلاء المنتجين الثقافيين يحتاجون في وجودهم الحديث إلى مؤسسات حديثة. وما كان كتبه طه حسين، قبل ثمانين سنة، في تقديمه لكتابه عن الأدب الجاهلي، لا يزال قابلاً لوصف وضعنا الحالي. إن بنية المجتمع العربي وبنية مؤسساته تقليدية لا تسمح بسيادة ثقافة حديثة. وأهم ما يمكن استخلاصه من معرض فرنكفورت هو أن هذه الثقافة العربية المعزولة، المغضوب عليها من طرف المؤسسة العربية أو المجهولة من لدنها، هي التي اعتنى بها المهتم الألماني. عدم النظر إلى الوقائع وتجنب اعتماد المعرفة النقدية يغريان بالحديث الذي لا ينجح في بناء خطاب حديث وجديد في آن. فاستحضار دور القرآن في المحافظة، اليوم، على اللغة العربية لا يعتمد الوقائع الملموسة. الآية القرآنية «إنا نحنُ نزلنا الذكر وإنا له لحافظون» تخص حفظ القرآن تحديداً. فالله حافظ للقرآن من التحريف والتبديل في العربية وفي لغات أخرى. هذا هو الوعد الإلهي. فالقرآن اليوم مترجم إلى لغات عدة، ولم يعد مرتبطاً باللغة التي نزل بها وحدها، كما كان الحال في القرون السالفة. هذا وضع جديد، وله علماء مختصون به. على أن هناك ما هو أبعد. فعربية اليوم، عربية الكتاب والصحافيين، مختلفة عن لغة القرآن وعن العربية القديمة. ولربما أمكننا اعتمادُ قولة أبي عمرو بن العلاء بشأن لغة حمير وعربيتهم في عهده عندما قال: « ما لسانُ حميرَ وأقاصي اليمن اليومَ بلساننا، ولا عربيتُهم بعربيّتنا».

    عربيتنا، اليوم، عربية حديثة. وهي أصبحت كذلك بفضل الكتاب والصحافيين، من داخل مؤسسات التحديث، التي كانوا بادروا بأنفسهم إلى إنشائها أو واكبت إنتاجاتهم. أما ما تعيشه هذه اللغة اليوم، «في المغرب والمغرب العربي وبلاد مشرقية» فهو يحاصر فعْل تحديثها ويقلص دورها في حياة وفي مجتمع، حتى أصبحت عربية لا حافظ لها ولا ساهر عليها.

    (4)

    نحن، إذن، متفقان في قدرة العربية على مواجهة تحديات العصر. ولكن هذه القدرة نظرية فقط، لأننا لا نتوفر على ما يمكّن العربية من الوصول إلى المواجهة. فماذا يمكن للجامعة العربية أن تفعل، مثلاً، في اختيار المغرب (وبقية البلاد المغاربية) للفرنكوفونية وفي اختيار بلاد مشرقية (بما فيها مصر) للإنكليزية، لغة للحياة العملية ولغة للمصلحة والامتياز والمنفعة، من طرف الحديثين والأصوليين، على السواء؟ أي سلطة تملكها الجامعة العربية لتبدي رأيها وتعلن عن موقفها وتنفذ هذا الموقف؟ كيف تتعامل الجامعة العربية مع استعمال لغات أجنبية في الاقتصاد والتعليم الخصوصي والتعليم العالي والمؤسسات العمومية والمهن الحرة ومع اللغات غير العربية واللغات المحلية في المغرب والمغرب العربي وبلاد مشرقية؟

    هذه أسئلة أخرى تبرز مدى تعقد الوضع اللغوي في العالم العربي وغربة العربية واحتضارها على يد أبنائها، من دون أن نقلل من شأن مؤسسات أجنبية. ولا ينفعنا، في هذه الحال، سوى طرح السؤال وتعلم كيفية طرح السؤال على وضعية صعبة للعربية وبالتالي على فكرة العروبة ذاتها. أسئلة يمكنها أن تتفرع لتشمل تاريخ الأفكار مثلما تشمل المؤسسات السياسية والدينية والثقافية واللغوية، في عموم البلاد العربية، أو التأليف والنشر والتوزيع والقراءة، أو المواقع الثقافية الإلكترونية، أو تنقل الثقافة بين منطقة عربية ومنطقة أخرى، على غرار مكانة ثقافة البلاد المغاربية في البلاد المشارقية، أو بين بلد وآخر. علينا ألا نخشى طرح الأسئلة، مهما كانت قاسية، ما دمنا نحن الذين نوجهها لأنفسنا، بحثاً عن أفق مختلف لقراءة ما نحن عليه وما هي عليه لغتنا العربية. بذلك يمكننا أن نبحث عما يجب أن نفعل إن نحن كُنا حقاً معنيين بأمر حاضر العربية ومستقبلها، في بلداننا.

    (5)

    هذا رأيي، الذي أريد أن يكون التعبير عنه تحية تقدير لك ولنبلك. وهو سيظل مبتوراً إن أنا لم أتوجه بالتحية إلى كل المجانين بلغتهم العربية، إلى هؤلاء الكتاب والأدباء والمفكرين والإعلاميين الذين لا يتوقفون عن فعلهم اليومي. في الكتابة والإنتاج الثقافي. وهم يدركون أن هناك ما يمنعهم ويمنع لغتهم وإنتاجهم من أن يكون. وفي فعلهم اليومي ينظرون إلى بعضهم البعض وكأن كل واحد منهم يودّع غيره. يعلمون أنهم ليسوا من هنا ولا من هناك. وإعلان احتضار العربية هو الفعل الأول للمقاومة. مقاومة احتضار ومقاومة كل من لا يتوقفـون عن تسريع هذا الاحتضار.(عن الحياة).

  5. #5
    زائر

    لو أن الشاعر محمد بنيس استعمل ( انحطاط ) أو (هوان ) بدل ( احتضار) لكان بين رأيه ورأيي مساحة مشتركة كبيرة.
    ذلك أن اللغات تنهض وتنحط بنهضة أهلها وانحطاطهم. وليس بصفاتها الذاتية. وأكبر دليل على ذلك حال العرب ولغتهم – عالميا- قبل الإسلام وبعده.
    ومن غير المعقول أن ينحط قوم في سائر أمرهم وتكون لغتهم هي المسيطرة عالميا.
    فلا يمكن أن يكون العرب خاصة والمسلمون عامة في هذا الحال وتكون لغتهم دون سائر أمورهم مسيطرة أو على الأقل على قدر من السيادة عالميا.
    فالحديث عن النهضة يشمل السياسة والعلم واللغة والاقتصاد وسائر أمور الحياة. والاقتصار على نهضة في أمر واحد بمعزل عن سواه كالحديث عن سلامة دم عضو في جسم دون سائر الأعضاء. ولهذا شعرت بالشفقة على الأستاذ عمرو موسى وهو يمثل الجامعة في حديثه عن الأمر بمعزل عن تناول أس البلاء الذي لا أستطيع تسميته اتقاء – على الأقل – لقول أخي محمد ب. بأني أقلبها. ولا يستطيع الأستاذ عمرو موسى أن يسميه وهو – على ما هو مشهود له من إخلاصه - في هذا المنصب على رأس مؤسسة الجامعة التي تقوم بديلا وحائلا.
    لا يستقيم الظل والعود أعوج. إنها الشمولية في كل أمر وليست في الرقمي فحسب.

  6. #6
    زائر
    بصراحة تفوقت على نفسك أستاذ خشان وخالفت شنشنتك الأخزمية وأخذتنا على قد عقلنا.
    فلك مني خالص التهنئةنقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي
    في الواقع العربي الراهن من الصعب الحديث عن لقاء أو اختلاف لأن الالتباس هو سيد الموقف الثقافي.
    وفي هذه الصفحة اللغوية يحاول العبد لله دوما ً أن يقاوم إغراء القلب لكي لا يكون مثالاً سيئاً يفتح باباً للانحراف في هدف المنتدى باتجاهات تغطيها منتديات وجرائد وإذاعات كثيرة.
    وأبقاك الله ذخراً للعروض والشعر والأدبنقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي و...فقطنقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

معلومات الموضوع

الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع

الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)

المفضلات

المفضلات

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •  
الاتصال بنا
يمكن الاتصال بنا عن طريق الوسائل المكتوبة بالاسفل
Email : email
SMS : 0000000
جميع ما ينشر فى المنتدى لا يعبر بالضرورة عن رأى القائمين عليه وانما يعبر عن وجهة نظر كاتبه فقط