صفي الدين الحلي - عبدالعزيز بن سرايا - ت سنة 750ه

هذا الشاعر المتأخر خالف حقاً وفعلاً في عدد من قصائده مألوف عصره وعاد إلى جزالة الشعر في العصور الزاهية.
وقد يثير الاستغراب أن أقول إن صفي الدين الحلي بمثابة بداية مبكرة للغاية- بقرون عديدة - لحركة الإحياء التي بدأها محمود سامي البارودي، والتي تخلصت من قيود شعر عصور الانحطاط الأدبي والسياسي وعادت لتمسك بزمام اللغة من جديد فتظهر نصوص فصيحة وقصائد تخلصت من النزعات البهرجية للعصور المتأخرة.
والمقارنة مع البارودي شيقة لأسباب أخرى فكلاهما فارس خاض غمار الحروب ورأى أن يذكرها في قصائده ولذلك لعله ليس من المصادفات أنك تجدهما عادا إلى قواميس الشعر الفروسي القديم فكأنك تقرأ لعنترة أو عمرو بن كلثوم حين تقرأ لهما:
والقصيدة التالية طويلة (خمسة وخمسون بيتاً) اخترتها لكم في هذا الصباح الصيفي البعيد في المنافي الأوروبية وحرصت على تصحيحها لأنها على ما يظهر مأخوذة من الموسوعة، وجزى الله من أصدر الموسوعة خيراً فقد أفاد وترك عملاً صالحاً، ولكنه هداه الله ليته وكل الأمر إلى أهله وكلف عالماً بصيراً بالشعر بالطباعة فحين أرى أخطاء الموسوعة أعتقد أن الطابع شخص بعيد كل البعد عن الشعر العربي لذلك فأخطاؤها كثيرة للأسف: لم أصلح بالمناسبة التشكيل وليته لم يشكل!
وفي القصيدة وصف لأخلاق عربية أصيلة كثيرة وهي كما تذكرنا بشعر الفروسية تذكرنا أيضاً بقصائد الحكمة كلامية العجم ومقصورة ابن دريد. ونمط "لامية العجم" الشعري واضح من حيث أنه بدأ القصيدة بداية غير مألوفة : بدأها بالحديث عن الحكمة التي اكتسبها:
لئن ثلمت حدي صروف النوائب..فقد أخلصت سبكي بنار التجارب
وهي بداية تذكر بفاتحة قصيدة الطغرائي:
أصالة الرأي صانتني عن الخطل..وحلية الفضل زانتني لدى العطل!
ولم يبدأ الشاعران بالأطلال أو بالغزل كما هو المألوف في القصيدة العربية.
وفي نهاية القصيدة ترى أثر الملك الضليل امرئ القيس في الشاعر صريحاً حين اقتبس وصف البرق في المعلقة.
وحين ذكر "الكبش" عدنا إلى عمرو بن معدي كرب حين قال:
لما رأيت نساءنا..يفحصن بالمعزاء شدا
وبدت لميس كأنها..بدر السماء إذا تبدى
وبدت محاسنها التي..تخفى وكان الأمر جدا
نازلت كبشهمو ولم أر من نزال الكبش بدا!
ومن الطريف الجديد في القصيدة إظهار الحلي، ربما لأول مرة في الأدب العربي، عقدة المثقف الذي يحس أن الآخرين قد لا يأخذونه بجدية في الأمور التي تتطلب رجولة ومواجهة، فهو يدافع عن نفسه تجاه من وصفه بأنه ليس مجيداً إلا في الكتابة!:
فقُلْ للذي ظَنْ الكِتابة َ غايَتي، ولا فَضلَ لي بينَ القَنا والقَواضِبِ
بحدّ يَراعي أمّ حُسامي علَوتُهُ، وبالكتُبِ أردَيناهُ أمْ بالكتَائِبِ
وأنصح القارئ بالقراءة المتأنية لهذه القصيدة الجميلة التي هي، وإن لم تشتهر شهرة "سلي الرماح"، فإنها مع ذلك لا تقصر عنها في جوانب أخرى ولعلها أغنى من حيث تنوع المواضيع:

لئن ثلمتْ حدّي صُروفُ النّوائبِ فقدَ أخلصتْ سبَكي بنارِ التَجاربِ
وفي الأدبِ الباقي، الذي قد وهبنَني عَزاءٌ مِنَ الأموالِ عن كلِّ ذاهبِ
فكَم غايَة ٍ أدركتها غير جاهدٍ وكَم رتبة ٍ قد نلْتُها غيرَ طالبِ
وما كلّ وانٍ في الطِّلابِ بمُخطىء ٍ ولا كلّ ماضٍ في الأمورِ بصائبِ
سمَتْ بي إلى العَلياء نَفسٌ أبيّة ٌتَرى أقبحَ الأشياءِ أخذَ المواهبِ
بعزمٍ يريني ما أمامَ مطالبي، وحزم يُريني ما وراءَ العَواقبِ
وما عابَني جاري سوى أنّ حاجَتي أُكَلفُها مِنْ دونِهِ للأجانِبِ
وإنّ نَوالي في المُلِمّاتِ واصِلٌ أباعِدَ أهلِ الحيّ قبلَ الأقاربِ
ولَيسَ حَسودٌ يَنْشُرُ الفَضلَ عائباً ولكنّهُ مُغرًى بِعَدّ المَناقبِ
وما الجودُ إلاّ حلية ٌ مُستجادَة ٌ، إذا ظَهَرَتْ أخفَتْ وُجوهَ المَعائبِ
لقد هَذّبَتني يَقظَة ُ الرّأيِ والنُّهَى إذا هَذّبتْ غَيري ضروبُ التجارِبِ
وأكسَبَني قَومي وأعيانُ مَعشَري حِفاظَ المَعالي وابتذالَ الرّغائِبِ
سَراة ٌ يُقِرُّ الحاسدونَ بفَضلِهِم كِرامُ السّجايا والعُلى والمناصِبِ
إذا جَلَسوا كانوا صُدورَ مَجَالسٍ وإنْ رَكِبوا كانوا صُدورَ مَواكِبِ
أسودٌ تغانتْ بالقَنا عن عَرينِها، وبالبيضِ عن أنيابِها والمخالِبِ
يجودونَ للرّاجي بكلّ نفيسة ٍ لديهِمْ سوى أعراضِهِم والمنَاقِبِ
إذا نَزَلوا بطنَ الوِهَادِ لغامِضٍ من القَصدِ، أذكوا نارَهم بالمناكِبِ
وإن ركَزُوا غِبّ الطّعانِ رِماحَهُمْ رأيتَ رؤوسَ الأُسدِ فوقَ الثّعالِبِ
فأصبَحتُ أفني ما ملكتُ لأقتَني به الشّكرَ كَسباً وهوَ أسنى المكاسِبِ
وأرهنُ قولي عن فِعالي كأنّهُ عَصا الحارثِ الدُّعمي أو قوس حاجبِ
ومن يكُ مثلي كاملَ النفسِ يغتَدي قليلاً مُعادِيه كثيرَ المُصاحِبِ
فَما للعِدى دَبّتْ أراقِمُ كَيدِهمْ إليّ، وما دَبّتْ إليَهِمْ عقَارِبي
وما بالُهُمْ عَدّوا ذُنُوبي كَثيرَة ً وماليَ ذَنبٌ غَيرَ نَصرِ أقارِبي
وإنّي ليُدمي قائمُ السّيفِ راحَتي إذا دَمِيَتْ منهم خدُودُ الكَواعِبِ
وما كلّ مَن هَزّ الحُسامَ بضارِبٍ. ولا كلّ مَن أجرَى اليَراعَ بكاتِبِ
وما زِلتُ فيهِم مثلَ قِدحِ ابن مُقبلٍ بتسعينَ أمسَى فائزاً غَيرَ خائِبِ
فإنْ كَلّموا مِنّا الجُسومَ، فإنّها فُلُولُ سيوفٍ ما نبَتْ في المَضارِبِ
وما عابَني أنْ كلّمتني سيوفُهمْ إذا ما نَبَتْ عنّي سيوفُ المَثالِبِ
ولمّا أبَتْ إلاّ نِزالاً كُماتُهُمْ درأتُ بمُهري في صُدورِ المقَانِبِ
فَعَلّمتُ شَمّ الأرضِ شُمّ أُنوفِهِمْ، وعودتُ ثغرَ التربِ لثمَ التَرائبِ
بطرفٍ، علا في قَبضهِ الريح، سابح، لهُ أربْعٌ تَحكي أناملَ حاسِبِ،
تلاعبَ أثناءَ الحُسامِ مزاحُهُ، وفي الكر يبدي كرة ً غيرَ لاعبِ
ومَسرودَة ٍ من نَسجِ داودَ نَثرَة ٍ كلمعِ غديرٍ، ماؤهُ غيرُ ذائبِ
وأسمَرَ مَهزوزِ المَعاطفِ ذابِلٍ، وأبيَضَ مَسنونِ الغِرارينِ قاضِبِ
إذا صَدَفَتهُ العَينُ أبدَى تَوقَّداً، كأنّ على متنيهِ نارَ الحباجبِ
ثنى حَدَّهُ فَرطُ الضُرابِ، فلم يزَل حديدَ فِرِندِ المَتنِ رَثّ المَضارِبِ
صدعتُ بهِ هامَ الخطوبِ فرعنَها بأفضَلِ مَضُروبٍ وأفضَلِ ضارِبِ
وصفراءِ من روقِ الأراوي نحيفة ٍ، إذا جذبتْ صرتْ صريرَ الجنادِبِ
لها وَلَدٌ بَعدَ الفِطامِ رَضاعُهُ يسر عقوقاً رفضُهُ غيرُ واجِبِ
إذا قرّبَ الرّامي إلى فيهِ نحرَهُ سعَى نحوَهُ بالقَسرِ سعيَ مجانبِ
فيُقبِلُ في بُطْء كخُطوَة ِ سارِقٍ، ويدبرُ في جريٍ كركضة ِ هاربِ
هناكَ فجأتُ الكَبشَ منهمْ بضَرْبَة ٍفرَقْتُ بها بَينَ الحَشَى والتّرائبِ
لدَى وقعَة ٍ لا يُقرَعُ السمعُ بينَها بغيرِ انتدابِ الشُّوسِ أو ندبِ نادِبِ
فقُلْ للذي ظَنْ الكِتابة َ غايَتي، ولا فَضلَ لي بينَ القَنا والقَواضِبِ
بحدّ يَراعي أمّ حُسامي علَوتُهُ، وبالكتُبِ أردَيناهُ أمْ بالكتَائِبِ
وكم لَيلَة ٍ خُضتُ الدُّجى ، وسماؤهُ مُعَطَّلَة ٌ من حَلْيِ دُرّ الكَواكِبِ
سريَتُ بها، والجَوُّ بالسُّحبِ مُقتِمٌ، فلمّا تبَدّى النَجمُ قلتُ لصاحبي:
اصاحِ ترى برقاً أريكَ وميضَهُ يُضيءُ سَناهُ أم مَصابيحَ راهِبِ
بحَرْفٍ حكَى الحَرفَ المُفخَّمَ صَوتُها سليلَة ِ نُجبٍ أُلحِقَتْ بنَجائبِ
تعافُ ورودَ الماءِ إن سَبَقَ القَطا إليهِ، وما أمّتْ بهِ في المشاربِ
قطعتُ بها خوفَ الهوانِ سباسباً، إذا قلتُ تمّتْ أردَفَتْ بسبَاسبِ
يسامرني في الفِكرِ كلُّ بديعة ٍ مُنَزَّهَة ِ الألفاظِ عن قَدحِ عائبِ
يُنَزّلُها الشّادونَ في نَغَماتِهِمْ، وتحدو بها طوراً حُداة ُ الركائبِ
فأدركتُ ما أمّلْتُ من طَلبِ العُلا، ونزهتُ نفسي عن طِلابِ المواهبٍ
ونِلتُ بها سُؤلي منَ العِزّ لا الغِنَى وما عُدّ مَن عافَ الهِباتِ بخائِبٍ،