http://www.odabasham.net/show.php?sid=4132

أقتطف من مقالة ثرية طويلة لأستاذي ما أراه أكثر إفادة لأهل الرقمي وما قد يستدرج التعليق على ضوء الرقمي:

التَّوافُقُ
أَحَدُ مَظاهِرِ عَلاقَةِ عِلْمِ الْعَروضِ بِعِلْمِ الصَّرْفِ
بَحْثٌ فيما بَيْنَ الْعَروضِ وَاللُّغَةِ

[16] وكما صار صائغ الذهب يستعمل في وزنه جهاز الحساب العددي ، صار بعض الدارسين المحدثين لعلمي العروض والصرف ، يستعملون في وزن الكلمة ، أدوات علمي الأصوات والموسيقا الحديثين ، ويدعون إلى ترك الأداة القديمة البالية 32 .
ولم يعد أحد يستطيع أن يطرح عنه منجزات علمي الأصوات والموسيقا الحديثين في دراسته لعلمي العروض والصرف ؛ ففي الأخذ بها كشف كثير من الدقائق الخفية المعضلة التي تعترض طريق الدراسة .
ولكن ينبغي أن نثبت لأداة الوزن القديمة ، صفتها العليا التي لا تنازعها إياها أداة أخرى ، وهي وَظيفيَّتُها ؛ فإن المتعلم متى وعى تلك الأداة وفكرتها ، استطاع دائما أن يميز في التَّوِّ ما يلقى عليه ، بل أقول مع الأستاذ محمد العلمي الذي حَصَرَ قوله في علم العروض - وأنا أضيف إليه علم الصرف - : إن تلك الأداة القديمة نفسها ، بما لها من خصائص كخصائص موزونها ، تبين لنا الوزن سمعيا وبصريا ، أي بالصوت والصورة ، إذا جاز هذا التعبير 33 .
• طَبيعَةُ السّاكِنِ وَالْمُتَحَرِّكِ وَتَواليهِما :
[17] يطلق مصطلح الساكن والمتحرك في علمي العروض والصرف ، على الحرف ؛ فكل من اللام والألف والواو والياء في أواسط هذه الكلمات : ( عِلْم ، باب ، قَوْل ، دور ، بَيْن ، عيد ) ، حرف ساكن ، وكل من اللام والواو والياء في أواسط هذه الكلمات : ( طَلَع ، أَوَد ، قِيَم ، حَلُم ، عَلِم ، حَوِر ، أَيِس ) ، حرف متحرك .
وقد قام على أساس طبيعة الساكن والمتحرك وطريقة تواليهما أحدهما أو كليهما ، حديث علماء العروض والصرف جميعا ، في الوزن وغيره من مسائل هذين العليمن ، حتى صارت معرفة هذا الأساس ضرورة ، قال ابن عبد ربه : " اعلم أن أول ما ينبغي لصاحب العروض أن يبتدئ به ، معرفة الساكن والمتحرك ؛ فإن الكلام كله لا يعدو أن يكون ساكنا أو متحركا " 34 ، وليس صاحب الصرف بمَنْأًى ، وتَفَقُّد كُتُبِه دليل لا يُرَدُّ .
[18] وبتقدم البحث في علم الأصوات وأدوات القياس ، مَيَّزَ الباحثون المحدثون طائفتين من الأصوات ، واضحتي المعالم ، لم يطابقا طائفتي المتحركات والسواكن السابق بيانهما تماما :
1 طائفة ما يقبل من الأصوات موقع بداءة المقطع ، ولا يصح قمة له .
2 طائفة ما لا يقبل موقع بداءة المقطع ، ويصح قمة له .
ثم رجعوا إلى المتحرك فشقوه نصفين ، ليجعلوا نصفه الأول من الطائفة الأولى ، ونصفه الآخر من الطائفة الأخرى ، وإلى ( الساكن ) ، ليخرجوا مما أودعه القدماء فيه ، ألف المد وواوه وياءه ؛ فيجعلوها من الطائفة الأخرى لديهم ، وواو اللين وياءه ، ليجعلوهما نمطا مزدوجا من أصوات الطائفة الأخرى نفسها ، غير أن بداءته تنتمي إلى الطائفة الأولى ؛ ومن ثم احتاج هؤلاء الباحثون المحدثون إلى أن يستبدلوا بالساكن والمتحرك ، مصطلحين مقبولين ؛ فكان منهم من أطلق على صوت الطائفة الأولى مصطلح ( الصامت ) ، وعلى صوت الطائفة الأخرى مصطلح ( الصائت ) ، وكان منهم من قال بـ( الصامت ) و( المصوِّت ) ، ولكن كان منهم من أخذ من القدماء وعدل ؛ فقال بـ( الساكن ) لصوت الطائفة الأولى ، و( الحركة ) لصوت الطائفة الأخرى ، وكل منهم معنيٌّ بالجانب الوظيفي من الأصوات ، لا النُّطقي ولا الفيزيقيّ ، وهو ما أراه بقية تَأَثُّرِ منهج القدماء 35 .


[19] لقد انكشف أن علماءنا القدماء كانوا يرون أن الصوائت الطويلة ( حروف المد ) ، مشكولة بالسكون ، ومسبوقة بحركة من جنسها ، وأنهم راعوا رأيهم هذا في علمي العروض والصرف جميعا ؛ ففي حين ميزوا فتحة ما قبل ألف التَّأْسيس ، عن الألف ، وسموها ( الرَّسَّ ) ، وحركات ما قبل ألف الرِّدْف وواوه ويائه ، عنها وسموها ( الحَذْوَ ) ، وحركات ما قبل ألف الوصل وواوه ويائه ، عنها وسموها ( المَجْرى ) ، وغير ذلك ، في علم العروض - جعلوا ما يسكن من حروف العلة بعد حركة مناسبة ( أي فتحة قبل الألف ، وضمة قبل الواو ، وكسرة قبل الياء ) ، مدا ، في حين يجعلون الواو والياء ، متى سكنتا بعد فتحة ، حرفي لين لا مد ، وكذلك جعلوا تغيير ( لَمْ يَخافْ ) إلى ( لَمْ يَخَفْ ) تخلصا من التقاء الساكنين بحذف الألف بعد الخاء ، وغير ذلك ، في علم الصرف .
إنما كان ذلك ، عند بعض اللغويين المحدثين ، نتيجة أمرين :
1 " أن الصائت الطويل في التحليل العروضي كما وضعه الخليل يحسب صوتا ساكنا مسبوقا بحركة من جنسه ؛ فتحليل كلمة مثل ( بي ) تحسب على أنها مؤلفة من : متحرك + ساكن ، أي من صوتين ، وهي فونولوجيًّا مؤلفة من : باء + كسرة + كسرة ، أي من صامت وحركتين قصيرتين ، وهي تشبه من الناحية العروضية كلمة مثل ( لَمْ ) التي تحسب على أنها مكونة من : متحرك + ساكن ، وهي فونولوجيًّا مؤلفة من : لام + فتحة + ميم ، أي من صامت وحركة قصيرة وصامت . وسوغ ذلك للخليل أن مثل هذه الكلمات من حيث الكم المقطعي متساوية . وهو ما يوضحه تبادلهما في بيت من الشعر ، ودون أن يؤدي ذلك إلى إخلال بالوزن .
2 المساواة في طريقة الكتابة بين الصامت والصائت الطويل " 36 .
لقد كان من ذكاء هذا اللغوي الفاضل ، أن وازن بين ( لم ) و( بي ) ، لأن الهواء والجهر كليهما ، يستمران في الميم على رغم سكونها ؛ فيتطابق زمنا المقطعين ، أما إذا وازن بين المقطع ( قد ) في ( قدرة ) ، والمقطع ( قا ) في ( قارة ) ، فلن نستطيع أن نحكم بتطابقهما زمنا كما كان فيما قبلهما ، لاحتباس الهواء والجهر كليهما في الدال الساكنة ، لكنني لا أنكر أنهما متقاربان زمنا ، وأن الشاعر أولا ثم المنشد من بعده ، يستفيدان من هذا التقارب ، إنابة أحدهما عن الآخر ، مما كان عند أستاذنا الدكتور محمد حماسة ، أحد مقومات مرونة الشعر العربي 37 ، وهو ما راعاه علم العروض بإطلاقه مصطلح السبب الخفيف عليهما جميعا ؛ فكان موضع نقد بعض الباحثين ؛ إذ رأوا فيه مجافاة للحقيقة ومراعاة للشكل البحت ، وأنه لم يعد مقبولا أن نصبر على هذه التسوية بين ما لا يتساوى ، بعد النتائج المذهلة للقياس الصوتي والزمني المتطور 38 .
ومازلت أدعو مع الداعين إلى الانتباه إلى مخالفة غاية شيخنا الخليل ومن تبعه ، لغاية علمي الأصوات والموسيقا الحديثين ومن اعتمد عليهما ، في أن الأولى وظيفيَّة ، لا ضرر من أن نتغياها مع الأخرى ؛ فننجح عملا وعلما .
أما خداع الكتابة للباحث ، فشائع ذائع ، يظل مانعا من الاعتماد عليها والاستناد إليها عند التحقيق . ولقد زاد من التخليط في هذه المسألة ، أن بعض الكاتبين كان يضع فتحة على ما قبل ألف المد ، وضمة على ما قبل واو المد ، وكسرة على ما قبل ياء المد 39 .
[20] إن الوزن نمط خاص من الإيقاع ؛ فإن الإيقاع عبارة عن التناوب المتوالي لظاهرتين أو حالين متضادتين ، كالمشي والوقف ، والصحو والنوم ، وليس الوزن ( الإيقاع اللغوي ) بمختلف عن هذا ؛ فهو " يتولد من توالي الأصوات الساكنة والمتحركة على نحو خاص ، بحيث ينشأ عن هذا التوالي وحدة أساسية ، هي التفعيلة التي تتردد على مدى البيت ، ومن ترددها ينشأ الإيقاع ، ومن مجموع مرات التردد في البيت الواحد يتكون ما يسمى بالوزن الشعري " 40 .
إنه إذا كان الوزن العروضي يخرج بترديد هذه الوحدة الأساسية ، فإن الوزن الصرفي يخرج فيها ومن خلالها هي نفسها .