كان عليها أن تذرع الغرفة جيئة ًوذهاباً لعشرات المرات كلما راودتها فكرة التصدي للوتد المجموع . وفي هذه المرة ذرعت سبب ثقيل الغرفة وجاءت وذهبت وهي تفرك جبهتها بأصابعها القلقة كما لو كانت تحاول جمع قصاصات أفكارها المبعثرة في باطن عقلها بمغناطيسٍ في رؤوس أصابعها .
ما الذي علي فعله الآن . ؟ وحاولت تجميع أفكارها أكثر .
كيف أصنف هذا الرجل ؟ أهو في الحقيقة كما يحاول أن يبدو ؟ هل أصدق فعلا ما أسمع وأقرأ عنه ؟ أتراه يمثل جزءا من مخطط ما ؟ لماذا أرغب بتصديقه ؟ ولماذا لا أستطيع تصديقه في الوقت نفسه ؟
وبدأت سبب ثقيل البحث عن الأجوبة : حسنا ..أرغب بتصديقه لأنه ....بل لا أستطيع تصديقه لأنه ....
ولم يجدها البحث نفعاً فوبخت نفسها :
كفى ...كفى بالله عليك يا سبب ثقيل . عار عليك هذه الحيرة .لم يكن ينقصك إلا أن تحتاري في أمره .
لكن ما هذا ؟ أأوبخ نفسي بسببه ؟ ومن هو ؟
توجهت إلى النافذة المفتوحة و اتكأت بذراعيها على حافتها وحدقت عيناها في اللاشيء الخارجي البعيد الذي حدّق فيها بدوره وبادلها حيرة بحيرة قبل أن تسد بوجهه جفنيها وتتنهد تنهيدة الإخفاق في اتخاذ القرار ... وفي مثل هذه الحال كان بوسعها أن تفعل شيئا ًواحدا بعد وهي متكئة على حافة النافذة ، الطرق بكعب حذائها الرفيع على الأرض العارية طرقات متلاحقة أشبه بما تفعله راقصات الفلامنغو في حوارها مع الأرض التي كانت تأمل أن تلبيها وتتخذ عنها القرار وترد لها الجواب .لكن الأرض اليوم كانت لينة ،وامتصت طرقات الحذاء وادعت أنها لم تسمع شيئا .
كانت سبب ثقيل صحافية ناشطة في مجال حقوق الإيقاع , وكانت تقدم تقاريرها الشخصية تباعا لجمعية حقوق الإيقاع في منطقة دائرة المؤتلف ..غير أنها كانت أكثر حضورا في دائرة الجوار ( المشتبه )..هناك راقبت الأوضاع الإيقاعية عن كثب .وظلت دائما في محيط الوتد المجموع تحلل الأحداث وتجمع الأدلة و تلتقط الصور من أرض الحدث.. إلى أن اصطدمت بالعلاقة التي تجمع بين الوتدين المجموع والمفروق ، تلك العلاقة التي لم تخطر على بال أحد من المراقبين والتي لاحظتها هي مصادفة في صورة التقطتها دون استئذان في فناء بيت الوتد المجموع ، صورة ظهر فيها الوتدان المجموع والمفروق متعانقين . كان الوتد المفروق في يسار الصورة قد أحاط بذراعه الممدودة كتف الوتد المجموع من يمين الصورة وكانا متلاصقين ..كانا متلاصقين إلى درجة توحي بأنهما وجهان لعملة واحدة . وكانت وجوه الأسباب الخفيفة البلهاء تملأ أقصى اليسار وأقصى اليمين ..
ما لا تستطيع سبب ثقيل فهمه حتى الآن هو ذلك الذي يجمع بين الوتدين ويقربهما بعضهما من بعض .. أليس الوتد المجموع عدو الشعب الخببي الأول ؟ فكيف يعانق من يناصر الشعب الخببي وهو الوتد المفروق ....؟ ما الذي بينهما ويخفى على العامة ؟ لكن هل الوتد المفروق نصير الشعب الخببي حقا كما يشاع عنه ؟ أم أنه مجرد ادعاء إعلامي مقصود ومخطط له ؟ بالله كيف يتعانق وتدان إلى درجة توحي بأن أحدهما يصلح بديلا للآخر ؟ وأيهما يرى لنفسه استحقاقا أكثر من الآخر في هذه الدائرة الغرائبية دائرة المشتبه ....؟ من سيجيبني على هذه الأسئلة ؟ كانت سبب ثقيل تحدث نفسها بصوت مسموع ..ولم تكن ترغب بأن تأتيها الأجوبة الجاهزة والمعدة مسبقا ..كان عليها أن تكتشف الأجوبة اكتشافا وتسترق الحقائق استراقا .فاليقين ما كان يوما منحة ...اليقين عين الاحتراق.
صدمتها حين اكتشفت العلاقة بين الوتدين أرقتها ،لم تكن لتتوقع أن يكون البروفيسور وتد مفروق سوى ما يظهر عليه في الإعلام . لم يحيرها الرجل عند لقائها به للمرة الأولى حين دعا إلى المؤتمر الصحفي بعد عودة فريق بعثته من الرحلة البحثية الاستكشافية إلى دائرة المتفق . حينها حضرت سبب ثقيل مع من حضر من الصحافيين من جميع دوائر كوكب الإيقاع لتغطية المؤتمر إعلاميا والمشاركة فيه .
كان الإعلام يقدم البروفيسور وتداً مفروقًا كشخص مرموق ذي شعبية كبيرة بسبب اقترابه من قضايا الشعوب ومناصرته لحقوقها المسلوبة ،وبسبب حضوره الجذاب وبساطته التي تذوب معها الجدران الجليدية التي قد تقوم بين المتحاورين . فما كان الاقتراب منه إلا ليزيد محاوره تسليماً له ..كان من السهل عليه أن يعطيك ما يريد هو لا ما تريد أنت ثم يشعرك بانتصارك عليه واكتسابك منه فوق ذلك . وعلى الرغم من بشرته السوداء وشعره المجعد الفاحم كنت لتشعر بأنك تستحم في شلالا من النور حين ينظر باتجاهك ..كانت عيناه العسليتان لتمنعك من محاولة مخالفته خشية تكدير الصفاء المترقرق فيهما....هذا ما أسرّت به سبب ثقيل لنفسها وكتبته في دفتر يومياتها . عندما سجلت انطباعها الأول عنه عقب المؤتمر الصحفي . غير أن حب التحدي عند سبب ثقيل كان ليدفعها إلى مغامرة تكدير الصفاء في عيني البروفيسور وتد مفروق ، وما الذي كانت ستفعله إن لم تفعل ذلك ؟ ؟ ثم إن قضية الشعب الخببي هي قضيتها الشخصية الأولى بحكم جنسيتها الخببية ..ومهما كان البروفيسور وتد مفروق جذابا فلن يكون أكثر جاذبية من قضية الشعب الخببي التي بدأ يتضح أنه يستغلها إعلاميا ً ليروج لنفسه كشخصية أممية ذات تأثير واسع وقبول في مختلف بقاع كوكب الأيقاع .
هزت سبب ثقيل رأسها لتحذف نافذة انبثقت بصورة البروفيسور وتد مفروق على شاشة سطح المكتب في خيالها . ومع ضغطها على خيار الحذف قالت لنفسها : ما جمعته من معلومات حتى الآن لم يكن مطمئنا ً ..الوتد المفروق والوتد المجموع متلاصقان ؟ ترى ما طبيعة العلاقة بينهما ؟ طيب كيف يشاع عنه أنه مناصر للشعب الخببي ؟ أهو مجرد ادعاء ؟ لماذا لم تثبت تحرياتنا عنه شيئا من هذه المناصرة سوى في الخطاب الإعلامي ؟ وهل الخطاب الإعلامي شيء قليل الأهمية ؟
وفركت جبهتها من جديد ...سبب ثقيل .
كان عليها أن تتخذ قرارها ..وفجأة فعلت ..أمسكت هاتفها الجوال وضغطت على رقمه :
- ألو ...
- نعم ..
- كيف حالك بروفيسور وتد
- أنا بخير ..أنت كيف حالك عزيزتي ؟
- وهل عرفتني ؟
- لعلي أعرفك ...
- حسنا ...أنا الصحفية سبب ثقيل ..وأرغب بإجراء مقابلة معك .
- فلماذا لم تتصلي بالسكرتيرة لتحدد لك موعدا ؟
- لأنني أخشى المزيد من الانتظار .
- وفيم العجلة ؟ الانتظار ليس بالأمر السيئ
- الانتظار يزعجني ... ثم إنني من دائرة المؤتلف وأرغب باللقاء بك قبل موعد مغادرتي دائرة المشتبه ..وهو بعد غد ، فإن أحببت مساعدتي على ذلك وهو ما أتوقعه منك وأرجوه فسأكون شاكرة للطفك .
- وعم ستسألينني في المقابلة معك ؟
- وهل علي أن أخبرك الآن ؟
- إن كان علي أن أقبل لقاءك غدا .
- حسنا ..سنتحدث في مواضيع متفرقة .
- أعطني مثالا .
- قضية الشعب الخببي وحقوقه المستلبة .
- سأنتظرك غدا صباحا في الساعة العاشرة في مطعم الأوزان
- شكرا سيدي ..
يتبع بإذن الله