للدكتور عبد المنعم خضر الزبيدي مقال نشر بمجلة " الثقافة العربية " الليبية قبل ربع قرن بالتمام والكمال ، وهو بعنوان " البحر المتدارك بين الخليل والأخفش " . وقد تضمن هذا المقال أفكارا تستحق الوقوف عندها لما تظهره من صلة كل من الخليل والأخفش ببحر المتدارك وذلك قبل ظهور كتابي أبي الحسن الأخفش وأبي الحسن العروضي محققين بعد سنوات من تاريخ نشر المقال ( 6 / 1981 ) ، ويسرني أن أقتطف فيما يلي بعضا من هذا المقال القيم آملا أن يجيب ما أثبته منه على سؤال أختنا الأستاذة رغداء زيدان :
" جاء في الفصل الأول من كتابي " مقدمة لدراسة الشعر الجاهلي " الذي صدر مؤخرا أن الخليل بن أحمد كان قد وضع الوزنين أو البحرين " المتقارب " و " المتدارك " في دائرة عروضية رياضية فلكية واحدة دعاها " دائرة المتفق " ، وأنه اعتبر " المتدارك " وزنا مهملا ، إذ لم يجد للعرب شعرا عليه . ولكن الشائع في كتب العروض أن الخليل لم يذكر في هذه الدائرة سوى وزن واحد هو " المتقارب " وأن " المتدارك " وزن أو بحر كان الأخفش قد تداركه على الخليل ، وأنه يسمى لذلك " المتدارَك " بفتح الراء وليس بكسرها . وهذا خطأ شائع يردده كل من يكتب في العروض ...
" لقد حاول الخليل أن يحصي في نظريته العروضية جميع الإيقاعات أو الأوزان المحتملة في العربية سواء أكانت مستعملة في شعر الشعراء أم لا . ولذلك ضمت أربع من دوائره الخمس ، التي تذكر بالكواكب الخمسة السيارة في علم الفلك القديم وتشير إليها ، أوزانا مستعملة أثبت لها شواهد وأمثلة من الشعر العربي ، وأخرى مهملة لم يجد لها أمثلة في هذا الشعر . ومن الحق أيضا أن بعض الأوزان التي اعتبرها مستعملة في الدائرة الرابعة ، وهي دائرة " المشتبه " كالمقتضب والمضارع والمجتث لم تكن مستعملة في الشعر الجاهلي والإسلامي الأول ، فصنع لها شواهد وأمثلة أخذها العروضيون عنه . وهو أمر وكده أبو العلاء المعري في كتاب
" الفصول والغايات " حين عرض لهذه الأوزان الثلاثة ، فذكر أنها مفقودة في شعر العرب ،
" وأنها قل ما توجد في أشعار المتقدمين " وقد " رفضها المتجزلون " . والكثير من الأوضاع أو الصور التي أثبتها لبحور الشعر العربي أوضاع وصور أملاها عليه نظام الدائرة الرياضي الفلكي ، ولا يوجد لها في الشعر العربي حتى عصره على أقل تقدير ، كما هو الأمر بالقياس إلى
" المديد " و " الوافر " و " السريع " .
ومن المؤكد عندي أن المتدارك مصطلح استعمله الخليل نفسه لوزن مهمل في الدائرة الخامسة ، وأن نطقه بكسر الراء وليس بفتحها ، أي كـ " المتقارب " سواء بسواء . ذلك أن الخليل دعا أوزان أو بحور كل دائرة ، باستثناء دائرة المشتبه ، التي يدل اسمها على اشتباهه أو شكه وارتيابه في طبيعة إيقاع أوزانها ، وهي عنده الدائرة الوحيدة التي يكون الوتد فيها " مفروقا " لا
" مجموعا " ، دعا أوزان كل دائرة بأسماء متوافقة أو متوازنة في الصيغة والدلالة . فأسماء البحور في الدائرة الأولى وهي " الطويل " و " المديد " و " البسيط " على وزن " فعيل " ، وتدل جميعا على الطول والانبساط . وأسمى البحرين المستعملين في الدائرة الثانية " الوافر "
و " الكامل " أي أنهما على وزن " فاعل " ، وهما متقاربان كذلك في الدلالة اللغوية . وأسماء بحور الدائرة الثالثة هي " الهزج " و " الرمل " و " الرجز " أي أنها على وزن " فعل " ودلالاتها المعنوية أو اللغوية متقاربة أيضا . كذلك فعل في أسماء الدوائر الخمس بين " مختلف "
و " مؤتلف " و متفق " وبين " مجتلب " و " مشتبه " .
ولقد أوضحنا في الفصل الأول من الكتاب أن كلا من مصطلحي " المتقارب " و " المتدارك " يدل على نوع من السير أو العدو يشير إلى تقارب الخطى أو تداركها فيه . ونضيف إلى ما ذكرنا من أمثلة بيتي كعب بن زهير الآتيين ، وفيهما ما يدل على أن " الدراك " كـ " التقريب " نوع من الإيقاع أو الوقع في السير . يقول كعب واصفا ناقته :
عذافرة ، تختال بالرحل ، حرة ................ تباري قلاصا ، كالنعام الجوافل
بوقع دراك ، غير ما متكلف ..................... إذا هبطت وعثا ، ولا متخاذل
وقد شرح السكري البيت الثاني ، فقال : " يقول تباريهن بوقع من سيرها متدارك ، أي متواتر على قصد واحد لا تكلفه تكلفا ، ولا تحمل عليه ...
ومما يؤكد أن الخليل هو الذي دل على البحر " المتدارك " أن مقياس أو تفعيلة هذا البحر مقلوب تفعيلة " المتقارب " . فتفعيلة " المتقارب " مؤلفة من وتد مجموع يليه سبب خفيف ، هكذا :
" فعو + لن " أما تفعيلة المتدارك فمؤلفة من سبب خفيف يليه وتد مجموع ، هكذا : " لن + فعو" وتساوي " فاعلن " . ويدل على ذلك أيضا قول ابن خلكان في ترجمته للخليل في كتابه " وفيات الأعيان " : " وهو الذي استنبط علم العروض ... وحصر أقسامه في خمس دوائر ، يستخرج منها خمسة عشر بحرا ، ثم زاد فيه الأخفش " وهذا الأخفش هو الذي زاد في العروض بحر الخبب " ومعنى هذا أن الأخفش زاد " الخبب " وليس " المتدارك " ، وإن كان أصحاب العروض يخلطون بين الوزنين ، وأن الخليل كان قد أهمل " الخبب " ولم يذكره في دوائره .
وسبب ذلك عندي أن تفعيلة " الخبب " تتألف من سببين خفيفين " فع لن ـــ ـــ " أو من سبب ثقيل يليه آخر خفيف " ف ع لن ن ن ــــ " أي أنها تفعيلة لا وتد فيها أو لا مركز لها . ووزن يقوم على تفعيلة لا وتد لها لا يندرج ضمن نظرية الخليل العروضية . ذلك أن الوتد عنده أس التفعيلة أو نواتها ، وهو الجزء الذي لا يجوز أن يقع فيه زحاف أو تغيير مهما كان طفيفا . ولذلك اعتبر الوحدات الإيقاعية أو المفاعيل التي تبدأ بوتد أصولا وتلك التي تبدأ بسبب فروعا ، وقدم الأولى على الثانية . ولكن هذا لا يعني أن الخليل لم يكن يعرف هذه التفعيلة والوزن الذي ينشأ عن تكرارها . فأبو الطيب اللغوي ( ت 340 و . ر ) يذكر في ترجمته للخليل في كتاب " مراتب النحويين " أن الخليل " أحدث أنواعا من الشعر ليست على أوزان العرب " ثم يروي في إسناد يرتفع إلى أبي علي إسماعيل بن محمد اليزيدي عن أصحابه أن للخليل بن أحمد قصيدة على
" فَعِلن فَعِلن " ثلاثة متحركات وساكن ، وأخرى على " فَعْلن فَعْلن " بمتحرك وساكن . فالتي على ثلاثة متحركات وساكن قصيدته التي يقول فيها :
سئلوا فأبوا فلقد بخلوا..............فلبئس لعمرك ما فعلوا
أبكيت على طلل طربا.............فشجاك وأحزنك الطلل
والتي على " فَعْلن " ساكنة العين قوله :
هذا عمرو يستعفي من ........... زيد عن الفضل القاضي
فانهوا عمرا إني أخشى........... صول الليث العادي الماضي
ليس المرء الحامي أنفا........... مثل المرء الضيم الراضي
فاستخرج المحدثون من هذين الوزنين وزنا سموه " المخلع " وخلطوا فيه من أجزاء هذا وأجزاء هذا ....
ودليل آخر على أن " المتدارك " مصطلح عروضي أو إيقاعي كان الخليل قد استعمله لهذا البحر الذي ينسب إلى الأخفش ما ذكره الأخفش نفسه في كتابه المعروف بـ " كتاب القوافي" حين قال : " وقد وضع الخليل أسماء من الأفعال للقوافي ، منها ( فيعل ) و ( فاعل ) و ( فال ) و ( فيل ) فجعل كل واحد من ذا قافية . وهي ثلاثون قافية يجمعها خمسة أسماء : ( متكاوس ، متراكب ، متدارك ، متواتر ، مترادف ) "
وبعد أن ذكر قوافي كل من المتكاوس والمتراكب قال : " وللمتدارك ست قواف ، وذلك كل قافية توالى فيها حرفان متحركان بين ساكنين "
ووزنها " فاعلن ـــ ن ـــ " وتأتي مقياسا تاما منفردا حينا وجزءا من مقياس حينا آخر كما في
" متفاعلن " و " مفاعلن " وذلك في بحري الكامل والرجز ، وهي " تفعلن " حين يكون المقياس
" مستفعلن " في الرجز ويساوي " فاعلن " وهي " لن فعو " أو " لن فعل " في البحر المتقارب حين يكون مقياساه الأخيران " فعولن فعو " أو " فعولن فعل "...
والمتواتر عند الخليل " كل قافية فيها حرف متحرك بين حرفين ساكنين " أي ما كان على وزن
" فع لن ـــ ـــ " الذي هو مقياس الخبب أو تفعيلته ( وحدته الإيقاعية ) . وتكون قافية المتواتر مقياسا تاما منفردا كما في " مفاعيلن " و " فاعلاتن / فاع لا تن " و " مفعولن " و " فعولن " أي أن تفعيلة بحر الخبب هي مقياس القوافي في المتواتر، وأن تفعيلة البحر المتدارك هي مقياس القوافي في المتدارك .