ومع هذا أجد أن حسي البلاغي يرفض :

لا تنفِيـنّ اختلاجـات مـوكـدةً
فـإن وجهـك بالإحسـاس نمّـامُ

فالنميمة مصطلح ارتبط بدلالته الاصطلاحية التي ينصرف لها الذهن مباشرة


في هذه القصيدة من الجمال البلاغي الكثير.
وخيرا ما دعت إليه الأخت سارة الهذلي من تناولها بالنقد، فالنقد يكشف الكثير من تركيب النص ومضامينه الفنية.

وأركز على ما ذكرته حول النميمة فأبين اختلافي مع قولها أعلاه من رفض الحس البلاغي للفظ النميمة لارتباط مصطلحه بصورة [ لعلها تراها سلبية] ينصرف إليها الذهن.

فأنا أرى في قول الشاعرة : فـإن وجهـك بالإحسـاس نمّـامُ

جمالا تشبيهيا بلاغيا عكس ما تراه الناقدة الكريمة. ويزداد إحساسنا بجمال هذا التعبير إذا قرأناه في سياقه المفعم بالصور وظلال المعاني:


فقد وفقت الشاعرة في قولها:
وللشفـاه استـدارات لأسفلـهـا
كأني بها هنا رسامة كاريكاتير.

فمن احمرار جفنيها وانهمار دمعها إلى ثغرها الذي تعود البسمة مستديرةً شفتاه بها للأعلى تنعكس استدارة شفتيه للأسفل كناية عن حزن دفين، وهي في هذا البيت توطئة للبيت التالي، وكأنها تتصور الشاعرة تكابر فتنفي ما اكتنفها من ألم الفراق، فتقول لها إن وجهها بتعابيره التي قدمت بعضا منها في البيتين السابقين ينم عن حقيقة ما تخفيه من مشاعر.

وأرى في هذا موفقة أيما توفيق. تصويرا وتعبيرا وبلاغة وتخلصا.

والتخلص بحد ذاته فن ربما يكون المتنبي الأبرع فيه، والمقصود بالتخلص الانتقال من غرض في مقدمة القصيدة كالغزل إلى غرض آخر هو في الأغلب موضوع القصيدة كالمدح أو الفخر.

وأجد في القصيدة ملامح من هذا الفن في تنقل بارع سلس بارع إن لم يكن بين أغراض مختلفة فهو بين درجات من المشاعر ولا تخلو المواضيع من تنوع

فمن عهد المخاطب بوجه بسام للشاعرة إلى وجه تنم ملامحه عن حزنه، إلى إدارة حوار تعبر فيه الشاعرة عن مقام ممدوحها لديها ثم إلى أفضاله على طلابه، ثم إلى فكره الذي تتخذه مدخلا من الخاص إلى العام.

وعودة إلى مصطلح النميمة فإني أراه جميلا موفقا ينسجم مه مدلولة هذا المصطلح في الشعر العربي الذي يضفي عليه في سياق معين لونا من الجمال.
وأغتنم هذه الفرصة لأذكر أبياتا حول هذا الاستعمال لا لمجرد الرد على انتقاد الناقدة الكريمة وإنما لإثراء هذه الصفحة بهذه الباقة من الأبيات:


ابن زيدون
هذا عذارُكَ نمَّامٌ ومسكنُهُ...... نارٌ بخدَّيْكَ والتمامُ في النارِ
فَدَيتُكِ أَنّى زُرتِ نورُكِ واضِحٌ...... وَعِطرُكِ نَمّامٌ وَحَيلُكِ مُرجَفُ

الطغرائي
فكم دونَ ذاك البرق من متجلِّدٍ...... يُكاتمُ أسرارَ الغَرامِ صحَابَا
وآخرَ نمّامِ الجفونِ زفيرهُ...... يشُقُّ وراءَ السابريِّ حِجابَا

سيف الدين المشد
ومجلسٍ راق من واشٍ يكدّره...... ومن رقيب له في اللوم إيلام
ما فيه ساع سوى الساقي وليس به...... على الندامى سوى الريحان نمّام

ابن الوردي
هذا عذارُكَ نمَّامٌ ومسكنُهُ...... نارٌ بخدَّيْكَ والتمامُ في النارِ
إنْ قالَ صفْ لي عذاري وَصْفَ مبتكر...... ووجنتي قلتُ خذْ يا صنعةَ الباري


إبراهيم أطيمش
ينم دمعي على سري فيظهره...... حسب الرقيب فإن الدمع واشيه

ابن الرومي
وصفراءَ بكرٍ لا قذاها مُغيّبٌ...... ولا سرُّ من حَلّتْ حشاهُ مُكتّمُ
ينمُّ على الأمرين فرطُ صفائها...... وسوْرتِها حتى يبوحَ المُجمجمُ

ولهُ كذلك:
أَلُوفُ عطرٍ تُذكَّى وهي ذاكيةٌ...... إذا أساءتْ جوارَ العِطْرِ أبدان
نمَّامةُ المِسْكِ تُلقى وهي نائيةٌ...... فنأيُها بنميم المسكِ لقيان

ابن حمديس
بِنَفسِيَ من حورِ المها غادَةٌ لَها...... فمٌ عن شديدِ الخوف بالصمتِ مُلجَمُ
يَنِمُّ عَلَيها طيبُ رَيّا كَلامها...... فَيَدري غيورٌ أَنَّها تَتَكلَّمُ

محمود سامي البارودي:
أَبَى الشَّوْقُ إِلَّا أَنْ يَحِنَّ ضَمِيرُ...... وَكُلُّ مَشُوقٍ بِالْحَنِينِ جَدِيرُ
وَهَلْ يَسْتَطِيعُ الْمَرءُ كِتْمَانَ لَوْعَةٍ...... يَنِمُّ عَلَيْهَا مَدْمَعٌ وَزَفِيرُ

الشريف الرضي:
فَزِعتُ إِلى فَضلِ الرِداءِ مُبادِراً...... تَلَقِّيَ دَمعي أَن يَنُمَّ عَلى سِرّي

ولمصطفى صادق الرافعي:
ما لكِ تخفينَ الهوى والهوى...... يقولُ في عينيكِ لي ها أنا
وتلكَ أنفاسكِ نمّامةٌ...... وبينَ نهديكِ أرى مَكْمنا

عباس الملا علي
نم دمعي على هواكم والدمـ...... ـع على كل ذي هوىً نمام


أتمنى أن يتبع هذه المشاركة سواها من المشاركين الكرام. وخاصة من الأستاذتين الشاعرة والناقدة، مرحبا بعودتهما متطلعا إلى المزيد من مشاركاتهما القيمة.