شعراء أم مجانين ؟؟ ... مانـي الموسوس مثالاً

صهيب السيد ذاكر
الثلاثاء/11/8/2009
يعتبر الشعراء على مر العصور حالات فريدة و مميزة عن أقرانهم و ذلك أن لديهم ملكة لا توجد عند الكثير من غيرهم بالرغم من تقارب الثقافات أو تفاوتها أناس تميزهم تلك القدرة على التعبير و الصياغة و الإبداع منهم الغني المترف
و منهم الفقير الذي لا يجد قوت يومه . منهم من يقف على أبواب السلاطين و منهم من يستجدي العامة ليكسب لقيمات تقيم أودّه . منهم من اشتهر بحدة الذكاء و الفطنة و سرعة البديهة و منهم من اشتهر كونه مجنوناً من المجانين و لو بحثنا في أسباب جنونهم كما ادعى الناس لوجدناهم مجانين بحالات مختلفة مجانين الحب و العشق و الهيام كقيس ليلى و أمثاله ومنهم من اعتبر مجنوناً لمخالفة العادات والنظم العامة لمجتمعه الذي فيه متخذاً من المجون ساحة من ساحات الجنون ومنهم من يطلق عليهم البهاليل ومفردهم بهلول وهم من اتخذ الزهد وترك الدنيا وزينتها ساحة يطلقون من خلالها ما يسمى بالحكم البهلولية حتى على الخلفاء والحكام فكان الخليفة أو الحاكم يقبل تلك الحكم بروح طيبة أو على مضض كون هؤلاء عند العامة لهم ميزة الفقر وترك الدنيا و(الجنون)وكما قيل في كتب الأخبار أن هارون الرشيد قد سأل بهلولاً فقال يا بهلول ماذا تقول قال:ماذا أقول هذه قصورهم وتلك قبورهم فبكى الخليفة أما من يحملون صفة الجنون الحقيقي ومنهم محمد بن القاسم المصري فهم من الحالات الفريدة ومحمد بن القاسم هو من يطلق عليه لقب أو يعرف باسم (ماني الموسوس) وهو من الشعراء شبه المجهولين بالرغم من رقة شعره وهو ممن يجعل من الخمر ذات غلبة على كينونته الذاتية والشعرية و قد أبدع في شعره رقة و عذوبة فهو يصف محبوبه بقوله:‏
لو صافح الماء القراح بكفه لجرت أنامله كجري الماء‏

وقد أبدع ماني الموسوس صوره الخاصة وتركيباته المختلفة عن أقرانه من الشعراء برقة و عذوبة متناهية فهو القائل :‏
بكت عيني غداة البين دمعا ً وأخرى بالبكا بخلت علينا‏
فعاقبت التي بخلت علينا بأن أغمضتها يوم التقينا ‏
وقد أعرب الكثير ممن عاصره عن دهشته لأسلوب المدح لديه كقوله لأحدهم مادحاً:‏
كرّات عينك في العدا تغنيك عن سل السيوف‏
وقد وصفه البعض في كتاب طبقات الشعراء لابن المعتز بقولهم(كان ماني المجنون من أشعر الناس شعره ينضح بغنائية وبمعانٍ ليحب الكثير ترديدها)‏
إلا أن تلك الأشعار المغناة ينسى الشاعر الذي أبدعها كقوله :‏
حجبوها عن الرياح لأني قلت يا ريح بلغيها السلاما‏
لو رضوا بالحجاب هان ولكن منعوها يوم الرياح الكلاما‏
وهو القائل واصفا الوجنات المتوردة :‏
له وجنات من بياض وحمرة فحافاتها بيض وأوساطها حمر‏
رقاق يجول الماء فيها كأنها زجاج أجيلت في جوانبها الخمر‏
ويصف رقة الحبيب بقوله :‏
بالذي أنبت في خد يك وردا ليس يقتطف‏
لا تميلن فإني خائف أن تتقصف‏
إنما ميلك في مشيك مرعوب مخوف‏
وقيل في كتب الأدب أن ماني الموسوس ابتعد عن الناس آخر أيامه و قد أصبح شيخاً كبيراً في السن ناعم الوجه حسن الثياب رقيق القلب و قد دخلت عليه جماعة فسألهم ما يريدون قالوا ننشد الشعر والأدب فأنشدنا فأنشدهم قصيدة مطلعها :‏
الله يعلم أنني كمد لا أستطيع أبث ما أجد‏
ثم أغمي عليه فتركوه وانصرفوا فأفاق فناداهم فقال تنشدوني أم أنشدكم فقالوا أنشدنا فقال:‏
لما أناخوا قبيل الصبح عيسهم وثوروها فثارت بالهوى الإبل ‏
و أبرزت من خلال السجف ناظرها ترنو إليّ و دمع العين ينهمل‏
و ودعت ببنان خلته عنماً فقلت لا حملت رجلاك يا جمل‏
ويلي من البين ماذا حل بي و بها من نازح الوجد حل البين فارتحلوا‏
يا حادي العيس عرج كي أودعها يا حادي العيس في ترحالك الأجل‏
حتى إذا ما جاء إلى بيته الذي يقول فيه :‏
إني على العهد لم أنقض مودتهم يا ليت شعري بطول العهد ما فعلوا‏
قال له فتى من المجان كان مع القوم : ماذا تراهم فعلوا ؟ ـ لقد ماتوا فقال له ماني :و ماذا أنا فاعل من بعدهم إذاً أفأموت ؟ قال الشاب: مت راشداً فما كان من ماني الموسوس إلا أن تمدد في فراش له و سكن فقلبه القوم فوجدوه قد مات و لم يغادروا مكانهم حتى دفنوه هذا ما ورد في أخبار الأدب و الأدباء عنه‏
مات ماني الموسوس الذي ذهب به الجنون كل مذهب كما يقال ذاك المجنون الذي شغل أهل الحب و الخمر و الوصف و لكن لم يمت شعره الذي أصبح ضمن التراث الغنائي و الأدبي و إن لم يذكر أن الشاعر الذي أبدعه مجنون اسمه ماني‏ .