تشكيل ساعة البحور :
أصبح من الحري بنا بعد الذي ذكرناه عن استخدام واحدات القياس الصغرى وما تتيحه من المستوى الأعمق في دراسة البنية الإيقاعية للبحور في دوائر الخليل أن نتوقع من العروض الرقمي تقديم مشهد جديد وشفاف للنظرية الخليلية يكشف فيه عن نظام البنية الإيقاعية وقوانينها اعتبارا من ذلك المستوى الأكثر عمقا .
ولقد قدم الأستاذ خشان هذا المشهد بالفعل عبر تشكيل ساعة البحور التي ينبغي توصيفها بصفتين تشملان فاعليتها التطبيقية عمليا و أهميتها المرجعية نظريا : فهي الساعة في الإجراءات العملية لمنهج الخليل وهي الموسوعة في البعد النظري لهذا المنهج . ويمكن لمن يعي تفاصيل هذه الساعة أن يدعي الإحاطة بعلم العروض .
بدأ الأستاذ خشان تشكيل الساعة البحور من حيث انتهى الخليل في استخدامه لدوائره كمجموعات تصنيفية منفصلة ذات ترتيب تصنيفي داخلي يحدد لكل منها مجالا من السعة تحتوي فيه عددا محددا من البحور المحتملة نظريا . فالتصنيف بمعنى الفرز كان في البدء غرضا أساسيا لدى الخليل جعل من الدوائر حقائب مختلفة الحجم ضمت في كل منها البحور ذات البنية الإيقاعية المشتركة على مستوى التفاعيل خماسية أو سباعية أو كليهما معا . ثم قادته- على الأغلب - ملاحظة الأقسام المشتركة من البنية الإيقاعية بين بحور الدائرة نفسها إلى اكتشاف ظاهرة فك البحور أو تركيبها بعضها من بعض .
ولا يمكننا أن ننسب إلى الخليل ظاهرة فك البحور إلا بوصفه مكتشفا لها بالملاحظة حتى وإن كان قد وصل من خلال تبشيره بها إلى درجة التنبؤ ببحور محتملة . ذلك لأن تأسيس الإيقاعات البحرية قد جرى في الواقع على أيدي الشعراء الأقدمين بناء على فك البحور فتأسيس المديد مثلا قد تم من فك البسيط وإعادة توزيع تفعيلاته والبسيط تأسس بدوره من فك الطويل وهذا حدث في الواقع قبل أن يولد الخليل . الخليل صنف هذه البحور معا في الدائرة نفسها . وبسبب ملاحظته ظاهرة الفك كظاهرة واقعية نشر ترتيب الأوتاد والأسباب على محيط الدائرة ليظهر صلة القربى بين هذه البحور .
وقد أسس بترتيبه محيط الدائرة لفكرة التدوير التي اقتصرت عنده على تغيير نقطة البدء عند تغيير قراءة البحر . وهذا الدور للتدوير كان محدودا بالقياس إلى الدور الكبير الذي أسنده الأستاذ خشان لإجراء التدوير .
الأستاذ خشان بدأ من حيث توقف الخليل بنشر الأسباب والأوتاد على محيط الدائر فقام بما يلى :
1-أسقط رموز الأرقام علي الأسباب والأوتاد في محيط كل دائرة .
2- بهدف مقارنة ترتيب الأرقام بين الدوائر المختلفة جمع الدوائر جميعا فرتبها متتالية بالاعتماد على تزايد القيمة العددية لأرقامها الزوجية )أسبابها ( فدائرة المتفق رمزها أ وتحتل مركز ساعة البحور لأنها ذات القيمة العددية الأصغر للأسباب وهي 2 . ثم تليها دائرة المختلف ب لأن قيمة أسبابها 4 2 . تليها دائرة المجتلب ج وقيمة أسبابها 4 4 . ثم المشتبه د وقيمتها 4 6 ويبدو أن الأستاذ خشان كان مضطرا لأن يختم المحيط الخارجي للساعة بدائرة المؤتلف ه مع أن القيمة العددية لأسبابها 4 4 تتناسب مع الدائرة ج وربما كان من الأجدر دمجهما معا في موقع ج المنسق في ترتيبه مع مبدأ ترتيب الدوائر . فامتيازها باحتواء السبب الخببي أو ) الثقيل ( كان عذرا يدعم مخالفتها لمبدأ الترتيب ولعل الأستاذ عروضية مكثفة . وبسبب هذه المحاور أصبحت المقارنة بين خصائص مواقع أجزاء البنية الإيقاعية العميقة في البحور المختلفة متاحة وسهلة . بل يمكن القول إن هذه المقارنة أصبحت أمرا مفروضا ولا مفر منه بمجرد أن تتابع بنظرك امتداد محور ما وانسحابه من دائرة إلى أخرى لتكتشف كيف تتكرر خصائص المواقع المتناظرة في البنية الإيقاعية للبحور عبر الدوائر كما لو كانت خصائص وراثية أو جينات تنتقل عند سكان منطقة جغرافية محددة من جيل إلى جيل عبر التاريخ . كان للمحاور إذن أن تكشف بقوتها الشمولية أو التعميمية عن صلات القربى بين الدوائر و بين البحور مما يؤكد اتساق الذائقة الإيقاعة وانسجامها مع نفسها أو مع القوانين الطبيعية التي تحكمها كما ستكشف مناقشة البدهيات والمشتقات وغيرها من معطيات الرقمي . يتبع بإذن الله .