سادسا : إنه تنبؤي. فإن الأنماط التي يخترعها أو يستقرئها تشمل توقعات لما سيحدث تاليا، وفيما يخص المستقبل الأبعد فإنها تشمل التوقعات التي تنتظر التأكد من تحقيقها والتي تختبرهاالحواس.

تبدو الأحلام بدلالة إنتاج شكسبير وديكارت وكيكول وفرويد، مرحلة التكوين في خلق النموذج: فالأحلام تمخضت عن حلم ليلة صيف، فلسفة الشك، حلقة ( خاتم) البنزين، والذات الحية ( معذرة لاحتمال عدم دقة الترجمة ). ويبلغ التكيف البشري مع التوقع الحسابي حدا يمكن معه القول بأن حواسنا البشرية وسيلة للتحقق من صحة تنبؤاتنا وليس دورها مقصورا على قدح زناد التصرف الصائب كما في معظم الحيوانات الأخرى.
إن أمر التوقع برمته معقد جدا. ويبين ( بوبيل) في هذا المقام العلاقة بين التنبؤ والذاكرة قائلا إن مهمة الذاكرة من حيث التكيف هي التنبؤ..
ولو كان الكون عشوائيا بالكلية وبدون أي تحديد لما كان للذاكرة من جدوى. ولهذا فإن حقيقة أن الآلة العصبية للذاكرة المكلفة ( أيضيّـًا – metabolically ) تطورت وأثبتت نجاح تكيفها تقوم دليلا على أن الكون– على الأقل محليا- قابل للتنبؤ الأمر الذي يبرر استثمارا كهذا.

ومن جهة إخرى فإنه لا فائدة من الذاكرة في كون محدد وقابل للتنبؤ. إن عالم الحيوانات الدنيا كما تقرره مستقبِلاتُها والمؤثرات عليها محدود لدرجة أن الكون بموجبه يكون متوقعا. ولهذا فلا ذاكرة لها إذ يكفيها ما عندها من نماذج أفعال يطلقها المنبه المناسب. فالذاكرة تكتسب معناها في عالم فيه عدة احتمالات للمستقبل، عالم غير ليس محددا بالكامل، فلو كان كذلك فإن من الممكن أن نُبَرمَجَ للقيام بمجموعة ثابتة من التصرفات الآلية، المناسبة لحاجاتنا التكيّفيّة.
كلُّ صور المستقبل لها ماض واحد. وهنا يأتي دور الذاكرة للتعامل مع المستقبل المحتمل.
ثمّة معارضةٌ لفكرة أن العالم محدد وقابل للتنبؤ به. لصالح أنه معقد جدا لدرجة أن لا حيوانَ يتسطيع أن يقرر تصرفه بدقة. وأن الجهاز العصبي للحيوانات العليا تطور بدقة لتحسين قواها التنبؤيّة. ومنشأن مقولة كهذه أن تولد جدلية ممتعة تستحق المتابعة. فمن الممكن الإجابة على الاعتراض بأن الجهاز العصبي للإنسان أكثر تعقيدا بأضعاف مضاعفة من الكون المادي – الذي يُدّعى – أنها صممت للتنبؤ به. فهناك من الحالات الممكنة في دماغ إنسان واحد ما يفوق ببلايين المرات ذرات الكون المادي تحوي علاقات أجزاء الدماغ معلومات مفيدة، بينما لا تحوي علاقات ذرات ( جزيئات، دقائق ) الكون المادي مثل ذلك.
على أن هناك ردا على هذه المقولة بأن الأدمغة البشرية جزء من الكون وأنها بوجودها تصعّب من مهمة إدراكه دون تغيير مدى تحديده.
إن حقيقة أن من المهام الرئيسة للأدمغة البشرية التنبؤ بالتصرفات المعقدة لبعضها البعض لا يضعف بحال من الأحوال قضية أن العالم قابل للتنبؤ.