2- المصدر الثاني للأسطر الموزونة : حافظة التراكيب اللغوية الإيقاعية في الذاكرة :

مما يلفت انتباهي أن صوت بكاء الطفل الرضيع يكون مشابها إلى حد بعيد لصوت بكاء أمه . وأن نموذج صوت الضحك يكاد يكون نوعيا على مستوى الأسرة . وأن تأثير بعض المدرسين أو المذيعين أو الدعاة على المعجبين بهم يظهر في تقمص هؤلاء المعجبين لنبرة الصوت الخاصة بمن هم محط الإعجاب . ولا أظننا نبالغ إن قلنا: إن نبرة الصوت النمطية تعمل كمؤشر على الشريحة الاجتماعية أو الثقافية التي ينتمي إليها المتكلم في موقف انفعالي معين في مجتمع ما . بل إن نمط النبرة الصوتية في اللهجة والتي تميز لكنة عن أخرى تمثل مؤشرا واضحا للمرحلة الحضارية التاريخية التي يمر بها السكان في منطقة جغرافية محددة .وكل ذلك يعود إلى كم هائل من التراكيب اللغوية الانفعالية ذات الإيقاع والتي يتم تداولها وتوريثها بين الأفراد بحيث تصبح معلما للشخصية الجماعية .وكمثال على ما أقول يمكننا تأمل تلك النبرة التي تصوغ إيقاعية التراكيب اللغوية العربية بلكنة فرنسية عند النطق بها من قبل الجزائريين العرب ، وهي إرث تاريخي حملته الذاكرة اللغوية الإيقاعية في الجزائر ، وقس على ذلك آثار اللهجة البدوية في الجزيرة العربية أو آثار اللهجة النوبية في السودان ...إلخ .
لكن ما يهمنا نحن في مجال هذا البحث هو تدخل الحافظة الإيقاعية في صياغة التراكيب اللغوية الانفعالية في ما يسمى بقصيدة النثر والتي يفترض بها أن تكون خالية من الإيقاع الخارجي تماشيا مع (الشاعر) المتباهي بتمرده على الوزن كإيقاع خارجي مقولب ، فهذا الشاعر الذي تدهشه هو نفسه تلك الإيقاعية الفطرية التي تنسكب بها تراكيبه اللغوية دون قصد أو وعي ليطلق عليها تسمية (الإيقاع الداخلي )هو فرد منتم لشريحة ثقافية اجتماعية ( جماعة ) تعمل - شاء أو أبى - على تشكيل حافظته اللغوية الإيقاعية التي ستزخر بمخزون هائل من التراكيب اللغويةالانفعالية الإيقاعية التي تربى عليها وعيه بدءا من حفظ النصوص المدرسية للشعر الموزون في مراحل التعلم المدرسي المتتالية وانتهاء بالاستماع للشعر المغنى ليلا ونهارا إن لم يكن بخيار الفرد فبكونه ضحية للتأثير الإعلامي .وكل تلك التراكيب التي تلتصق بالمخزون اللغوي والتي يتعامل معها الدماغ كأدوات تعبيرية جاهزة للاستخدام عند الحاجة إليها وفق مبدأ الاستعارة نفسه الذي يتم فيه انتقاء لفظ معين دون غيره للتعبير عن معنى انفعالي عند التحدث أو الكتابة . وسواء أأعلن الشاعر فرحته بتلك التراكيب الإيقاعية الجاهزة التي تثير دهشته أو صب عليها جام غضبه فهو عاجز عن الفكاك منها كونها مرتبطة عنده بعملية التعبير اللغوي التي يستخدم الدماغ أدواتها وفق مستويين أولهما مستوى اللفظ الواحد ( المفردة ) وثانيهما مستوى الألفاظ المترابطة ( التراكيب ) ...يتبع