التفعيلة نموذج صوتي
‏***

هذه إشكالية اعترضتني وأنا أقارن في نفسي بين خصائص التفعيلة كواحدة للإيقاع تقتضي وجود حدود بين التفعيلات ، وخصائص الرقم كواحدة إيقاع لا تعترف بوجود فواصل بين مكونات الإيقاع الرقمية .
وبدأت أردد في نفسي أن استخدام الرقم يفيد في تحليل الوزن ولا يفيد في تركيبه . لأننا في التحليل نضع المركب ( بيت الشعر ) بين أيدينا ثم نقوم بتقطيعه وترميز مقاطعه بالأرقام .
وأثناء هذه العملية لا نحتاج لنموذج صوتي ويكفينا اصطفاف الأرقام على الورق وفق النسق المطلوب للوزن .
لكننا في عملية التركيب ( نظم الشعر ) لا نستطيع الاعتماد على الأرقام فقط كونها لا تقدم نموذجا صوتياً لضبط الإيقاع المحتمل للمركب المنشود .
لذا فنحن نلجأ للتفعيلة كنموذج صوتي يرن في الذهن كي نقيس عليه الإيقاع ، وتكون هذه الحالة أوضح عندما ننظم الشعر ذهنيا بدون الكتابة على الورق ،
حيث تقف الأرقام خارج حقل الحس الموسيقي ولا يسمح لها بالدخول إلا بعد انتهاء عملية التركيب ويكون دخولها بهدف اختبار دقة وزن المركب الشعري ليس أكثر .

وقد اعتدنا على حفظ بيت من الشعر كضابط إيقاعي لكل بحر شعري صدره ألفاظ عامة وعجزه تفعيلات البحر المقصود .مثل ضابط بحر الوافر
بحور الشعر وافرها جميل .......مفاعلتن مفاعلتن فعول
فترديد هذه التفعيلات يصنع في الذهن انطباعا صوتيا يبقى إيقاعه مؤثرا في الوعي ومهيمنا عليه أثناء النظم ، في حالة مشابهة لما يحدث عندما ننظر إلى منبع ضوئي
كنافذة تدخل منها أشعة الشمس ثم نغمض أعيننا فنرى النافذة المضيئة أثناء الغمض . وما ذلك إلا لبقاء أثر الضوء في الخلايا العصبية المستقبلة له . وفي مثال أقرب لحالة تأثير ضابط التفعيلات في الذهن ، يمكننا أن نتحدث عن شعورنا بالغرابة عندما تعلق في ذهننا أغنية مألوفة قد استمعنا إليها مرارا كيف نأخذ بترديدها بشكل عفوي لمدة زمنية قد تطول حتى تشعرنا بالملل منها
ونستمر مع ذلك في ترديدها كما لو كنا نفعل ذلك قسرا .وما ذلك إلا لبقاء أثر انطباع الصوت في الخلايا العصبية المستقبلة له مما يؤدي إلى استمرار تأثيرها في الوعي .
هذا الانطباع الصوتي هو النموذج الموسيقي الذي يوفره لنا ترديد التفعيلات الضابطة لإيقاع الوزن والذي لا يمكن للأرقام بحال من الأحوال أن تسعفنا به .

بل إنني لأرغب في القول :إن النموذج الصوتي للتفعيلة يمتاز بقابليته للشحن العاطفي إذ أن الصوت وعاء للانفعال كما هو الكأس وعاء للماء .
فعندما نحزن نختار إيقاعا صوتيا يستوعب حزننا يمكننا لفظه بلهجة انفعالية مطواعة عبر لفظ التفعيلة ولا يمكن بحال من الأحوال أن نتمثله في تردد الأرقام المتوالية أو لفظها .
تخيلوا معي كيف يمكننا تعبئة الفاظ التفعيلات المجردة من الانفعال أصلا بالشحنة العاطفية ونحن ننطق بها حتى بدون أية صورة شعرية . ولنجرب الآن نطق إيقاع البحر الوافر بلهجة غنائية مماثلة لنغمة غنائية
سكابا يا دموع العين سكابا ......على شهداء سوريا وشبابا
مفاعلتن مفاعلتن فعولن ......مفاعلتن مفاعلتن فعولن
هل لاحظتم كيف يمكننا شحن صوت تلك التفعيلات بالحزن ؟

إن الفارق بين الحس الموسيقي في شعر انفعالي مشحون بالعاطفة وتألق الخيال وشعر آخر منظوم بتفصيل ألفاظه لتتطابق مع إيقاع الوزن على الورق
هو الفارق بين تأليف الشعر تحت تأثير الشحنة الانفعالية المحملة بصوت التفعيلة الماثل في الذهن وبين نظم مقاطع الكلمات لتتلاءم مع الترتيب المطلوب للأرقام فهنا مجرد عمل آلي للعقل و هناك عمل نفسي وجداني للعقل .
إلى ماذا أريد أن أصل من وراء هذا الكلام ؟ صدقوني لا أعرف ..هذه حالة حيرة إشكالية تنتابني أضعها بين يدي الأستاذ خشان لأرى ما قوله في هذا .