المداخلة الثانية على تداعيات الأستاذ خشان

يتميز البحر السريع عن الرجز بتفعيلته الأخيرة (فاعلن) التي يجب أن ترد فيه إمّا عروضاً وإمّا عروضاً وضرباً. وبدون وجودها ـ ولو مرةً واحدةً ـ يعود السريع رجزاً صريحاً، ولذلك لم يكن للسريع صورة مجزوءةً في الشعر. فبمجرّد هدم وتد (فاعلن) الواقع في نهاية الشطر يدخل السريع في حظيرة الرجز.
ولقد باءت كل محاولات دمج البحرين بالإخفاق، سواء على مستوى الاستخدام أم على مستوى التنظير، وذلك لكونها محاولات نظرية ليس لها ما يدعمها من واقع الشعر. كالقول: إن (فاعلن) مشتقة من (مستفعلن)، بسقوط أحد سببيها (تَفْعلن)، كما فعل بعضهم، أو بالقول: إن (مستفعلن) تتحول أولاً إلى (مفعولن) ثم تتحول بسقوط الواو إلى (مَفْعلن) كما فعل أستاذنا خشان!
وإن في قول أخي خشان: إن الرجز (المنتهي بفعولن) والسريع (المنتهي بفاعلن) هما شكلان متّفقا الوزن، مختلفا العروض والضرب خلطٌ بين متمايزين. ولا علاقة كما أرى للقافية في التفريق بين النوعين.
ولو كان الأمر صحيحاً ما التزم الشعراء (فاعلن) في عروض السريع، والعروض غير مقفّاة كما هو معروف، ولَجاءت (مفعولن) بدل (فاعلن) في العروض. وهذا ما لا يصحّ.
فلا وجود (لمفعولن) في وزن السريع، وقد أخطأ الخليل رحمه الله في تصنيفها مع مشطور السريع، خطأً نجَمَ أصلاً عن الخطأ الأكبر في اعتبار (فاعلن) مشتقةً من (مفعولاتُ).
و(فاعلن) في السريع ـ كما قلت أخي ـ هي تفعيلة صمّاء، لا تقبل مزيداً من الانتقاص، ذلك أن الانتقاص فيها هو هدمٌ للوتد الوحيد المميز للسريع.
بينما تعتبر (فعولن) في الرجز زحافاً عَكوساً (لمفعولن)، لأنهما تردان جنباً إلى جنب سواء في العروض أم الضرب. وهي تفعيلةٌ غير صمّاء، تقبل مزيداً من الانتقاص، إذ ليس هنالك ما يمنع من انتقاصها، حيث يبقى النسق رجزاً مهما قمنا بالانتقاص منه.
وقد انتقص الشعراء من هذه التفعيلة، فجاءوا بها على (فعولْ):
يقول محمود حسن إسماعيل:
يا ساجداً بوجهه للهْ
يا مُعرقَ الوجوهِ في تُقاهْ
وسابحاً بالزور في هداهْ

كما جاءوا بها على (فعو)، يقول صالح جودت:
بلادُنا حدائقُ الغزلْ
نجومُنا على السّما قُبَلْ
وبيتنا في شارع الأملْ


ولقد كان الخليل رحمه الله تعالى، صاحبَ نظرة ثاقبة، عندما نظر إلى كلّ من الرجز والسريع والكامل على أنها بحور متمايزة، تسير إيقاعاتها الثلاثة في اتجاهات مختلفة، ولا تلتقي إلا في نقطة واحدة على الطريق، ثم تتابع سيرها في اتجاهها المرسوم.
ولقد كان الخليل مُحقّاً عندما فارقَ بينها منذ البدايات، لأن واقعها الشعري يقول: إنها متفارقة.
وإن النظر إليها على أنها ذات أصل واحد، ثم تشققت عنه، لن يُغير من حقيقة أن الاختلاف فيها هو الأصل، واللقاء فيما بينها هامشي.
وتلك ناحية تربوية تعليمية مهمة، يجب أن يُنظرَ فيها عند وضع القواعد.

بعد إعداد المداخلة للنشر قرأت مداخلة الأستاذ خشان على مداخلتي الأولىن فأشكره، وأعده أن أعود إليها ثانية.
ودمتم بخير، والله أعلم.