في منتدى العروض، على الشبكة الالكترونية، قدم الأستاذ سليمان أبو ستة مشاركة طيبة حركت في النفس عدداً من المشكلات، وقد آثرت أن أقسم مشاركتي إلى مداخلتين، تتعلق الأولى بالمشكلة الرئيسية، وتجمع الثانية عدداً من المشكلات التي نثرها طيّ مشاركته. فإلى المداخلة الأولى.
فقد أثار الأستاذ سليمان قضيةً مفادها؛ أنّ الدوبيت الذي يتألف من تشكيلين خببيين يحصران بينهما تفعيلةً وتدية على النمط:( أ ب أ )، وأنه طالما أمكن اشتقاق مجزوئه:( أ ب )، وذلك بحذف الجزء الخببي الأخير "فإنه من الممكن منطقياً افتراض وجود النمط:( ب أ )"، وذلك بحذف الجزء الخببي الأول. معتبراً النمط الأخير "شكلاً دوبيتياً، يبدأ بالتفعيلة [الوتدية]، وينتهي بالنسق الخببي".
وأغرب من ذلك؛ أنه لم يشترط أن تكون التفعيلة الأولى هنا هي (مستفعلن) الواردة في أصل الدوبيت، وإنّما "أي تفعيلة وتدية أخرى، بحيث يكون النمط الحاصل هو ( ج أ ) أو ( د أ ) مثلاً".
وقد أورد على النمط ( ب أ ) أي على الصورة:(مستفعلن فعْلن فعْلن) نموذجاً عامياً مغنّى، كما أورد على النمط ( ج أ ) نموذجاً آخر مغنّى، على الصورة (فاعلاتن مفعولن).
ثم دعى المشاركين في المنتدى إلى إبداء الرأي في هذا "النمط الجديد من الدوبيت" كما قال، " وأن يُدْلوا بأية شواهد عرفوها له"، داعياً الشعراء إلى النظم عليه للتعرّف على إمكانياته الإيقاعية.
واعتراضي على ذلك منصبٌّ على اعتبار هذه النماذج أنماطاً دوبيتية جديدة!. لذلك كان لا بد من إقرار حقيقة ليست غائبة عن علم أخي سليمان، أو المشاركين في المنتدى، وهي أن إيقاع البحر ـ أي بحر ـ إنما يتشكل متنامياً من بدايته حتى الوقوف به على ساكنه الأخير. وقد تشترك بعض البحور بمعظم تسلسلها المقطعي، لكنها تتمايز عن بعضها بعضاً عند نقطة قد تكون المقطع ماقبل الأخير. فإذا ضربنا المثل بالرجز والسريع (وهما إيقاعان متمايزان وإن ادّعى بعضهم غير ذلك)، نجد أن ما يميز السريع عن الرجز هو نقص سبب واحد قبل وتده الأخير:
فالرجز يساوي : /ه /ه //ه /ه /ه //ه /ه /ه //ه
والسريع يساوي: /ه /ه //ه /ه /ه //ه /ه x //ه
فإذا سقط الوتد الأخير من السريع دخل إيقاعه في إيقاع الرجز. ولذلك لم يكن للسريع صوراً مجزوءة. وقل مثل ذلك في الرمل والمديد:
فالرمل يساوي : /ه //ه /ه /ه //ه /ه /ه //ه /ه
والسريع يساوي: /ه //ه /ه /ه //ه /ه x //ه /ه
فإذا سقط الجزء الأخير من المديد ( //ه/ه )، كان المتبقي رملاً بلا شك. ولذلك لم يكن للمديد صوراً مجزوءةً كذلك، ( وقد أخطأ من اعتبر الشكل: فاعلاتن فاعلن) من المديد، وإنما هو الرمل لا غير.
وبناءً على ما تقدم؛ فإن الاقتطاع من بداية الوزن يرمي بالنسق المتبقي على ساحل بحر آخر يبتعد قطعاً عن أصل الوزن المقتطع منه.
ولقد كان الخليل ـ رحمه الله ـ موفقاً عندما جعل المقتضب: (مفعولاتُ مستفعلن) بحراً قائماً بذاته، على الرغم من أنه يشكل التفعيلتين الأخيرتين من المنسرح: (مستفعلن مفعولاتُ مستفعلن).
فإذا كان النمط الأول الذي أورده أبو ستة مُقتَطعاً من الدوبيت بنفس الطريقة فهو ـ والنمط الذي يليه ـ أبعد ما يكونان عن الدوبيت.
وأميل شخصياً إلى اعتبار النمط الأول شكلاً رجزياً: (مستفعلن مفعولاتانْ)، وجدتُ عليه عدداً من الشواهد القديمة والحديثة.
يقول الششتري:
يا طالباً وهْوَ المطلوبْ
أنتَ المنى أنتَ المرغوبْ
إشربْ فما يُلفى مشروبْ
ويقول أبو خليل القباني:
قد أشرقتْ شمسُ الإصْلاحْ
وكوكبُ الأفراحِ لاحْ
هيا بنا نجْلو الأقداحْ
فالأنسُ وافى والأفراحْ
ويقول أبو شادي:
والطيرُ في صمتٍ كَعَليلْ
والدّوحُ في لَهَفٍ مكْبوتْ
والبحرُ مرأى كلِّ جميلْ
أمسى كتيهٍ فيهِ يموتْ
هذا الضياءُ لفَقْدِ خليلْ
وهو ذات النسق: (مستفعلن مفعولاتن)، وعليه أمثلة عديدة، أذكر منها قول الأعمى التطيلي:
عذْرٌ لِطُلاّبِ العُذْرِ
عونٌ على طولِ الدهْرِ
أنْ ينتهي مَنْ يلحاني
فليسَ لي قلبٌ ثانِ
وكالغمامِ الهتّانِ
كما أنه ذات الشكل الخليلي المشهور (مستفعلن مفعولانْ)، والذي يعده الخليليون منهوك المنسرح، وهو عندنا من الرجز. ومنه تلبية قيس:
لبّيكَ أنت الرحمنْ
أتتْكَ قيسُ عيلانْ
رجالُها والرّكْبانْ
مُذْلِلَةً للدّيّانْ
وقل مثل ذلك في الشكل (مستفعلن مفعولن)، و(مستفعلن مفعولْ)، و(مستفعلن فعْلن) ...إلخ
وأما الشكل الآخر، فهو أقرب ما يكون إلى الرمل: (فاعلاتن مفعولن)، وليس له عندي إلاّ شكلاً مقصّراً عنه (فاعلاتن مفعولْ). ومن ذلك قول ابن سناء الملك:
وخليعٍ هيْمانْ
بغلامٍ أمْلودْ
دارَ حولَ الهمْيانْ
فرآهُ معقودْ
جاءَ بابَ البستانْ
فرآهُ مسدودْ
فأعانَ الشيطانْ
وأصابَ المقصودْ
وقول الآخر:
يا فريدَ الغزلانْ
وشقيق الولْدانْ
تِهْ دلالاً يا قانْ
وامْلَ كأسي ياجانْ