في الغزل يكثر المجيدون لما فيه من أجواء ومشاعر وصور تيسر الشعر.
في السياسة والأمر العام الأمر مختلف. ذلك أن الفكرة تتصدر اهتمام الشاعر فتراه يركز على إبرازها ودعم وجهة نظره وهذا يجعل الشعر يميل إلى الموضوعية التي تقربه من البيان السياسي. ولا يتغلب على هذا المنحى إلا الكبار من الشعراء، ويعد شوقي رحمه الله إماما في هذا المجال.

وشاعرتنا هنا من القلائل المجيدين في هذا المجال. فقصيدتها تبدأ بداية رومانسية لو كانت في غزل لكانت من أبدعه.

نامى علـى سُهْدِى, فرمْشــكِ للسَّمَا .... مَـدَّ الشِّــرَاكَ لِكــى يَصِيدَ فـؤادِى
يامَــنْ علــى جَفنــيْكِ يَنتحِرُ الـهوى... مِــنْ فـَرْطِ عِشـْـقٍ, قدْ سَئِمتُ رُقـادِى
شفــتاىَ مِنْ خَـمْر الخــدود تـثاقلتْ....أنـَّـى أقـَـبـلُ ذا الجــبين النـادى؟!

ثم تدخل الموضوع العام في هذا الإطار الشاعري فتبلغ بالاثنين معا مبلغا تستحق أن نهنئها عليه.

يا مِــصْرُ يا ليلى أذابـتْ مُهـجَتى ... غـدْراً رُمِــيتُ ُبسَاحـةِ الأوغادِ
برَصَــاص مَنْ قتـلوا العُروبة مِـنْ بَنِى ...وطـنى لأجــلِ عَبـاءةِ الأسْيـادِ
يا وَرْدة َالعــمْر الــذى مَــا عاشَـنِى ....لأعِيـشَ مُشْتــَهياً عَبـيرَ بــلادِى
وأمَــوتَ تذرفــنِى عيـونُ الكـونِ آ-...سِفـةً, وتنعـينى زهُـورُ الـوادِى

وعندما تحلق النفس الشاعرة فإن ظلالا من الجمال والتوفيق تلازم ذلك التحليق أو تندّ عنه دون أن يعيها أو يتعمدها الشاعر . أقول ظلال لطيفة خافتة لا تدركها النفس إلا بالتركيز والتأمل.

لنأخذ الشطرين الذين تذكر فيهما الشاعرة مصر :

يا مِـصْرُ يا ليلى أذابـتْ مُهـجَتى

يا مِصْـرُ يا أمَّــاً تـُجــمِّعُ أمـةً

في كليهما ورد لفظ مصر مرة واحدة وتكرر حرف النداء ( يا ) مرتين في كل منهما كذلك (يا مصر يا )، تأمل هذا التعبير بهاتين الـ (يا ) ـتين – إن صح التعبير وتذوق ما فيه من حميمة.

هذا ما يجمعهما ثم يفترقان كل في سبيل

في الشطر الأول رقة متناهية ، حروف مد تذوب وتذيب والميم وردت وردت مرتين في بداية كلمتي مصر ومهجة ،وهي متحركة غير مشددة. وهذه الرقة بمظاهرها اللغوية هذه تناسب رقة المعنى التي تضفي عليها كلمة ( ليلى ) المزيد من الروعة.

في الشطر الثاني قوة وأي قوة، قوة لكنها حانية تعبر عن الحنو كلمة ( أمّ ) ولكن هذه الكلمة تعبر عن الحنو في الإطار الأعم للقوة كما سنرى، وذلك كما عبرت الشاعرة عن الموضوع العام في إطار الشاعرية.

في هذا الشطر لا وجود لحروف المد في غير أداتي النداء. وتتكر الميم المشددة ثلاث مرات تضاف لها الميم الأولى في ( مصر) فهذه سبع ميمات لكأنها في أركان البيت حبال تضمه كما تُضم الشفتان عند نطق الميم المشددة خاصة وفي الميم وتشديدها.

وفي السياق لنختبر م/ع في الشطرين

يا مِـصْرُ يا ليلى أذابـتْ مُهـجَتى.....0,8

يا مِصْـرُ يا أمَّــاً تـُجــمِّعُ أمـةً.....=3,0

معامل الاختلاج بينهما 4,0

تمنيت لو أن الشاعرة راعت شكلية التصريع في مطلع القصيدة فذلك أدعى لانسدال الجمال عليها من رأسها حتى ...

نامى علـى سُهْدِى, فرمْشــكِ للسَّمَا .... مَـدَّ الشِّــرَاكَ لِكــى يَصِيدَ فـؤادِى
فلو قالت مثلا :
نامى, فرمْشــكِ قد أطال سهادي .... مَـدَّ الشِّــرَاكَ لِكــى يَصِيدَ فـؤادِى

لو تأمل القارئ لرآني قلت ما قلته في نقطة أو نقطتين، وفي القصيدة الكثير مما يستدعي التوقف عنده وتأمله، ولكن هذا النوع من التحليل يتطلب التأمل العميق وهذا بدوره يتطلب تركيز ووقتا لا يتوفران.
على أن القصيدة تغري بالعودة إليها لاصطياد المزيد من ملامح جمالها.

في معظم المنتديات تجد التعليقات على القصائد عامة. وإني أنفر كثيرا من عبارات المديح للقصائد التي قد تكون هذه هذه القصائد تستحقها ولكنها لا تقدم تفصيلا أو تناولا أدبيا أو نقدا يستفيد منه القارئ أوو الكاتب أو الشاعر.

ولَأنْ يتناول الإنسان جزئية بموضوعية وتحقيق خير من أن يشمل في تعليقه الكل بعبارات سرعان ما تمحي من ذهن القارئ حتى لو كانت محقة. وإني أفضل عدم التعليق على التعليق بشكل عابر .

تحية لشاعرتنا والله يرعاها.