الجزء الثاني



وفي التوبة أيضا جاء جزء من آية على وزن الوافر التام ، انتبهوا ، لكي لا أكون مخطئا الوافر ليس تاما ، الوافر يعد مجزوءا كما قلت الآن ، الأصل أن لدينا من النصوص الشعرية القديمة ما جاء على وزن مفاعلتن مفاعلتن مفاعلتن أصل دائرته العروضية ، فعندما يدخل القطف في تفعيلتي العروض والضرب تُحَوَّل (مفاعلتن) إلى (فعولن) ، يعد إذن مجزوءا وليس تاما ، وصدق الباقلاني ، وصدق كل المخلصين لله ولرسوله وللقرآن الكريم وللمؤمنين.
انتبهوا ، فهناك فروق ، في سورة التوبة :
قَٰتِلُوهُمۡ يُعَذِّبۡهُمُ ٱللَّهُ بِأَيۡدِيكُمۡ التوبة: 14 انتبهوا معي ! كيف يقرأ القارئ هذه الآية
وَيُخۡزِهِمۡ وَيَنصُرۡكُمۡ عَلَيۡهِمۡ وَيَشۡفِ صُدُورَ قَوۡم مُّؤۡمِنِينَ التوبة: 14، كيف أقرأها أنا ؟ (ويخزهمو/ وينصركم/ عليهم) بإشباع الميم وهذا جائز في الشعر العربي ، كل شعرنا العربي هكذا ، (ويخزهمو/ وينصركم/ عليهم/ ويشف صدو/ر قوم مؤ/منينا) .
فهذا ليس بيتا ، لم ؟ لأنه من الوافر ، و الوافر لو تم تمامه لا يعد بيتا .(37)
• أُوْلَٰٓئِكَ لَمۡ يَكُونُواْ مُعۡجِزِينَ هود: 20
• وَأَحَلُّواْ قَوۡمَهُمۡ دَارَ ٱلۡبَوَارِ إبراهيم: 28 .(38)
• وَلَمَّا يَأۡتِكُم مَّثَلُ ٱلَّذِينَ البقرة: 214
• وَيَبۡقَىٰ وَجۡهُ رَبِّكَ ذُو ٱلۡجَلَٰلِ وَٱلۡإِكۡرَامِ الرحمن: 27
• بِسِيمَٰهُمۡ فَيُؤۡخَذُ بِٱلنَّوَٰصِي الرحمن: 41
• كَلَٰمَ ٱللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُۥ البقرة: 75
• أُوْلَٰٓئِكَ لَمۡ يَكُونُواْ مُعۡجِزِينَ هود: 20
• فَأُوْلَٰٓئِكَ مَا عَلَيۡهِم مِّن سَبِيلٍ الشورى: 41 (39)

هناك بيت يعجبني ، ويخوفني كذلك ، ولا أستطيع أن أقوله :
فَلَا خَوۡفٌ عَلَيۡهِمۡ وَلَا هُمۡ يَحۡزَنُونَ البقرة: 38 ، نقرأها مرات ومرات ، مفاعيلن فعولن مفاعيلن فعولن ، والوافر مفاعلتن مفاعلتن فعولن ، كأنه حذف من الوافر تفعيلتيه الأوليين ، من الشطر الأول تفعيلة ومن الشطر الثاني تفعيلة ، هذا في المجتث نراها الآن .(40)
• تَعَٰلَى ٱللَّهُ عَمَّا يُشۡرِكُونَ النمل: 63

إذن لكي يستقيم الوزن قد يزيد الله في النص القرآني حرفا ، وقد يحذف – سبحانه ، وتعالى!- حرفا ، طبعا عمدا ، ليس هناك شيء في القرآن سهوا ، أستغفر الله ألف مرة ، كل ما جاء في القرآن وفي غير القرآن عن الله – تعالى!- عمد وكان بوسع الله – سبحانه ، وتعالى !- أن يحذف ما شاء ، وأن يضيف ما يشاء ، لكن بما أنه عمد إلى زيادة حرف قصد أن لا يكون بيتا تاما ، أو أنقص حرفا ، أو زاد حرفا ، أو أنقص كلمة ، أو زاد كلمة ، قاصدا أن يقرأ المسلم النص فيشعر بموسيقية يطرب لها ولا يعرف لها مصدرا إلا الشعراء .

أما إذا انتقلنا إلى وزن الرجز – هذا بعد الوافر بسرعة - نجده أكثر انتشارا في القرآن الكريم من غيره ، حتى لفت ذلك نظر أحد العلماء الأجلاء تصوروا من يكون ؟ هو فضيلة الشيخ محمود محمد خطاب السبكي ، شيخ الجمعية الشرعية الأول ، لفت نظره هذا ، فراح يتتبع إيقاعات الرجز في كتاب الله – تعالى !- ، وأنا تعرضت لهذا وأنا أكتب كتابي عن الرجز ، سبحان الله! له كتاب رائع جدا اسمه "المقامات العلية" ، فجمع فيه سبعا وأربعين آية جاءت على هذا الوزن ، وقد راجعت ذلك على فضيلته ، لا أخفي عليكم ، فوجدته صدقا وحقا، لكن أنا لو أني الذي بدأت كنت أخرجت عشرين أو ثلاثين ، لكنه أخرج سبعة وأربعين، ويمكن أن يخرج أحدكم أكثر ، الله أعلم ، لأن المسألة تحتاج لفيفا من الشعراء أو من المهتمين بالموضوع ، لفيف من الشعراء يضعون الفكرة في أذهانهم ، ويقرؤون أداء شعريا ، وأنتم تعرفون الفرق بين الأداء الشعري والأداء القرآني .
انظروا هذه الأمثلة السريعة(41) :

• يُثَبِّتُ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ إبراهيم: 27
• حَتَّىٰ يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيۡرِهِۦٓ النساء: 140 ، في النساء والأنعام .
• تَّبَيَّنَ ٱلرُّشۡدُ مِنَ ٱلۡغَيِّۚ فَمَن البقرة: 256
• فِي لَيۡلَةِ ٱلۡقَدۡرِ وَمَآ أَدۡرَىٰكَ مَا القدر: 1 - ، مستفعلن مستفعلن مستفعلن .
• يُرِيدُ أَن يُخۡرِجَكُم مِّنۡ أَرۡضِكُمۡۖ الأعراف: 110
• وَرَبُّكَ ٱلۡغَفُورُ ذُو ٱلرَّحۡمَةِۖ الكهف: 58
• لِّكُلِّ أُمَّة جَعَلۡنَا مَنسَكًا الحج: 67
• يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱصۡبِرُواْ آل عمران: 200
• إِن يَنتَهُواْ يُغۡفَرۡ لَهُم مَّا قَدۡ سَلَفَ الأنفال: 38

كثير جدا ، سبعة وأربعين ، وتفعيلة مستفعلن يا أولادي ، معروف انتشار فن الرجز في العصور الأدبية القديمة ، وهذا قلته في كتابي ، فهو أصل الشعر ومبتداه ؛ أولا كان الشعر سجع كهان ، ثم رجز ، ثم تطور ، فأصبح شعرا ، هذا الكلام في كتابي بالتفصيل(42) .

تفعيلة (مستفعلن) سببين خفيفين ووتد مجموع ، ما سر انتشارها في الشعر وفي القرآن كله ؟ لأن تفعيلة (مستفعلن) التي يبنى عليها وزن الرجز اشتركت في التشكيل الموسيقي لسبعة أبحر ، مثل البسيط والسريع والخفيف والمنسرح والمقتَضَب والمُجْتَث والكامل . الكامل! الكامل (متفاعلن) ، إذا أُضمِر يعني دخله زحاف الإضمار تسكين الحرف الثاني (متَفاعِلُن) تصبح (مُتْفاعِلُن)- فتساوي (مُسْتَفْعِلُن) ، وانتبهوا ، ظاهرة موسيقية في قراءة الشعر بعامة أتحدى لو أن شاعرا كتب قصيدة في بحر الكامل فلم يُضْمِرْ فيها ، بل يمكن – أستغفر الله إن قلت – في كل بيت ، بل أستغفر الله إن قلت في كل بيت أكثر من تفعيلة ، ولا يُثبت أن هذا البيت أو أن هذه القصيدة من الكامل إلا ورود (متَفاعِلُن) مرة واحدة ، يعني ورود فاصلة صغرى مرة واحدة ثلاث متحركات فساكن فمتحرك فساكن ، لم ؟ لأنه في البيت يجوز تسكين المتحرك ، ولا يجوز تحريك الساكن ، نحن اتفقنا أن الحركة ثقيلة والسكون خفيف، فكلما أراد الشاعر أن يخفف زاد النص جمالا في الجرس ، في الموسيقى ، في الإيقاع في الأذن ، فهو يسكِّن دائما، يُضْمِر ، يسكن المتحرك ولا يحرك الساكن ؛ لو حرك الساكن لانكسر الوزن ، لأجل ذلك لا توجد قصيدة – أعتقد – قصيدة كاملة من الكامل تخلو من الإضمار ، بل يمكن في كل بيت ، والشاعر لا يقصد ، وإنما يأتي الإضمار عفويا .(43)

أما إذا انتقلنا من الرجز إلى الكامل فهو أقل انتشارا من سابقيه ، من الوافر ومن الرجز ، لا يوجد منه إلا ثلاث أو أربع شَطَرات ، أو هكذا ما أعرفه ، لوقرأتم أنتم بتأنٍّ ربما تستخرجون نصوصا أخرى .

• وَكَفَىٰ بِرَبِّكَ هَادِيا وَنَصِيرا الفرقان: 31
• فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهۡلِكُواْ بِٱلطَّاغِيَةِ الحاقة: 5 (44)
• إِنَّ ٱلَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا الفتح: 10
• وَٱللَّهُ يَهۡدِي مَن يَشَآءُ إِلَىٰ صِرَٰط مُّسۡتَقِيمٍ البقرة: 213

نقول عنه مجزوء ، تعرفون أن التام ست تفعيلات ، إذا بني على أربع صار مجزوءا ، وعلى ثلاث صار مشطورا ، وعلى اثنتين صار منهوكا(45) .
مما بُني على اثنتين :
• فَيَقُولُ رَبِّيٓ أَكۡرَمَنِ الفجر: 15 ، متَفاعلن متْفاعلن .
• وَلَهُم مَّقَٰمِعُ مِنۡ حَدِيد الحج: 21 ، مُتَفاعِلُن مُتَفاعِلُن أو مُتَفاعِلاتُنْ وهذا تَرْفيل ، الترفيل زيادة حرفين .

• مُصَدِّقا لِّمَا بَيۡنَ يَدَيۡهِ وَأَنزَلَ ٱلتَّوۡرَىٰةَ وَٱلۡإِنجِيلَ آل عمران: 3 ، هذه قراءة القارئ العادي ، أما القارئ الشاعر فيقرأ : مصدقا لما بين يدي/ هِ وَأَنْزَلَ التَّوراةَ والإنْجيلَ ، متفاعلن متْفاعلن متْفاعلن ، ثلاث تفعيلات ، الأولى فيهن متفاعلن ، والاثنتين الأخريين فيهما إضمار.(46)
• وَلِيَعۡلَمَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ آل عمران: 140 ، لام التعليل وليست لام الأمر ، لتعطيني فاصلة صغرى ، لو (وَلْيَعْلَمَ) لصارت من الرجز .
الاثنتين :
• وَلِتَبۡتَغُواْ مِن فَضۡلِهِۦ النحل: 14
• وَأُتُواْ بِهِۦ مُتَشَٰبِهاۖ البقرة: 25
• يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتۡ البقرة: 225 ، اثنتين أيضا .

لو انتقلنا إلى الأبحر الطويلة مثل المتقارب ذو التفاعيل الثمانية الصافية ، ولكنه لم يرد في القرآن إلا مصراعا ، أربع تفعيلات على الأكثر .

• وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتُواْ ٱلزَّكَوٰةَ البقرة: 83 ، في البقرة 83 و43 و 110 ، وفي الحج 88 .(47)
• فَذُوقُواْ ٱلۡعَذَابَ بِمَا كُنتُمۡ تَكۡفُرُونَ آل عمران: 106 ، في آل عمران(48) .

وما يكون مصراعا ورد كثيرا ، مصراع يعني شطرا :
• وَلِلَّهِۤ يَسۡجُدُۤ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ الرعد: 15 ، يقف عند واو السماوات ، لكي تكمل التفعيلة .
• وَمِمَّا رَزَقۡنَٰهُمۡ يُنفِقُونَ البقرة: 3 ، في البقرة .(49)

وقد يرد على هيئة بيت تام ، لولا أن لفظ الجلالة في وسطه قد أخرجه من هذا الوزن، وهو قوله تعالى ، انتبهوا ، المسألة فصل وعمد من المولى – عز ، وجل! - ، انتبهوا، كيف سيستقيم ! لذلك نريد شاعرا يقرأ النص ، انظروا معي :

• (وَلِلَّهِ مُلۡكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۗ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡء قَدِيرٌ) فسد الشطر الثاني تعرفون لو أن لفظ الجلالة هذا استبدل - أستغفر الله - في غير القرآن الكريم بضميره : (ولله يسجد من في السماوات والأرض و(هو) على كل شيء قدير) - لاستقام الوزن ، فلو ناب عن لفظ الجلالة ضميره (هو) لاستقام الإيقاع ، ولكن لم يشأ الله ذلك– سبحانه ، وتعالى !- .(50)

من الأوزان الصاخبة أيضا وزن السريع ، فلا يرد في القرآن إلا على وزن مصراع واحد ، مثل قوله : يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱعۡبُدُواْ رَبَّكُمُ البقرة: 21 . لو قرأناها قراءة القرآن : بسم الله الرحمن الرحيم يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱعۡبُدُواْ رَبَّكُمُ البقرة: 21 لن يخطر على بال أي قارئ للقرآن أن فيها موسقة شعرية إطلاقا ، إنما لو قرأتها بميزان الشعر العربي : يا أيها النْ/ناسُ اعْبدوا/ ربكمُ.

وعلى وزنها أيضا : يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمُ النساء: 1 ، ومثل ذلك في النساء والمؤمنون ، ولم أقف هنا كثيرا ، لأجل الوقت فقط .(51)

من الأوزان الصافية المنتشرة في الشعر الهزج لأنه وزن ، أستغفر الله إن قلت وزن راقص ، مفاعيلن مفاعيلن مفاعيلن مفاعيلن ، يصلح للأناشيد و الغزل ، فقد وافقت بعض الآيات القرآنية هذا الإيقاع مشطورا ، يعني تفعيلتين اثنتين فقط مثل :
• يُحَاسِبۡكُم بِهِ ٱللَّهُۖ البقرة: 284 ، مفاعيلن مفاعيلن .
قد يرد مرة على أربع تفعيلات ، أيضا قضية كسر الوزن ، بِمَعۡرُوفٍ أَوۡ تَسۡرِيحُۢ بِإِحۡسَٰنۗ البقرة: 229 ، أليس كذلك ؟ تصوروا فإمساكٌ/ بمعروفٍ/ وتسريحٌ/ بإحسان. لكن فسد المعنى كذلك – أستغفر الله العظيم - لأن (أو) غير (و) ؛ (أو) للتخيير ، والأخرى للعطف ، يعني أريد أن أقول لكم فقط إن الله – سبحانه ، وتعالى!- هو الذي يعمد إلى كسر الوزن ، يعمد عمدا إلى كسر الوزن ، لئلا يكون القرآن شعرا ، لكن به موسقة الشعر ، وأنغام الشعر ، وتفاعيل الشعر ، وإيقاعات الشعر .(52)

وعلى نفس المنوال يجري وزن المتدارك ، وهو صاف أيضا ، مبني على فاعلن ، كان أصل المتدارك فاعِلُن فاعلن فاعلن فاعلن ، ماذا حدث فيه ؟ سقطت الألف ، فصار فَعِلن، ماذا نقول عنه ؟ نعم خبن ، أو يدخله قطع يُحَوِّل الوتد الأخير إلى سبب خفيف ، أو سببين خفيفين ، وقد يختلطان معا فعِلن فعْلن ، فمما يوافقه في القرآن مصراع فقط ، يعني ليس بيتا كاملا ، هو : وَلَوۡ شَآءَ ٱللَّهُ لَأَعۡنَتَكُمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيم البقرة: 220 ، فعْلن فعْلن فعِلن فعِلن.(53)
ومما يُبنى على ست :
• ثُمَّ ٱزۡدَادُواْ كُفۡرا لَّن تُقۡبَلَ تَوۡبَتُهُمۡ آل عمران: 90 ، إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بَعۡدَ إِيمَٰنِهِمۡ ثُمَّ ٱزۡدَادُواْ كُفۡرا لَّن تُقۡبَلَ تَوۡبَتُهُمۡ وَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلضَّآلُّونَ آل عمران: 90
انظروا : ثُمَّ از/دادوا/كُفرًا/لنْ تُقْ/بَلَ تَوْ/بَتُهُمْ ، كلها إما فَعِلُن أو فَعْلُن.
وما يبنى على ست تفعيلات يعد حدا أقصى ، في مثل قوله – تعالى !- :
• وَتِلۡكَ ٱلۡأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيۡنَ ٱلنَّاسِ آل عمران: 140 ، ستة ، فعْلن فعْلن فعِلن فعِلن فعْلن فعْلن ، ومثله :
• وَإِن تُبۡدُواْ مَا فِيٓ أَنفُسِكُمۡ أَوۡ تُخۡفُوهُ البقرة: 284 ، فعْلن فعْلن فعْلن فعِلن فعْلن فعْلن.(54) ، هذه الأوزان الصافية .

أما الأوزان المزدوجة فأكثرها انتشارا في الشعر هو الطويل ، كلنا نعرف ذلك، معلومة معروفة عند كل المتأدبين ، لكنَّ القلة والندرة حظه في القرآن ، ما هذا ! هو أكثر أوزان الشعر العربي انتشارا ، الطويل ، لكن في القرآن سبحان الله ! لكي تثبت صحة نظرية الباقلاني من ألف عام ، ما ورد في القرآن بضع شطرات ، فعندما نأتي إلى الأوزان الطويلة الكبيرة الصاخبة الضخمة التي انتشرت ، وحفل بها الشعراء قديما من الجاهلية حتى اليوم - نجد القرآن الكريم يعرض عنها ، سبحانه ، تعالى !، لكنَّ حظه في القرآن القلة والندرة ، أو ربما – أنا أقول عن نفسي - لم يفتح الله علينا إلا بقوله– تعالى !- على وزن مصراع واحد وهو فَمَن شَآءَ فَلۡيُؤۡمِن وَمَن شَآءَ فَلۡيَكۡفُرۡۚ الكهف: 29 ، لم يفتح الله علينا إلا بهذا ، ربما لو قرأنا القرآن مرة أخرى أو مرات لفتح الله علينا بغيره .

وكذلك البسيط ، فلم أعثر إلا على قوله – تعالى! – الذي وجده الحِلِّيّ : فَأَصۡبَحُواْ لَا يُرَىٰٓ إِلَّا مَسَٰكِنُهُمۡۚ الأحقاف: 25 ، في الأحقاف ، وكذلك قوله – تعالى! - : وَزَادَهُۥ بَسۡطَة فِي ٱلۡعِلۡمِ وَٱلۡجِسۡمِۖ البقرة: 247.
وربما ورد شيء على وزن منهوكه ، يعني تفعيلتين اثنتين مستفعلن فاعلن ، أو من الطويل فعولن مفاعيلن ، ربما ، ولم ألتفت إليه ، جل من لا يسهو ، يعني ما بني على تفعيلتين اثنتين، ولكن حتى الآن لم أعثر عليه ولا على منهوك سابقه الطويل ، إن جازت هذه التسمية ، لأننا لا نقول البسيط والطويل منهوك ، وإن جازت هذه التسمية ، لكن ربما توجد في القرآن أو لا توجد .

أما مخلع البسيط فقد ورد في القرآن منه أو على وزنه أو على إيقاعه أمثلة أعتقد أنها ثلاثة :
• وَقُودُهَا ٱلنَّاسُ وَٱلۡحِجَارَةُۖ البقرة: 24 ، التي اكتشفها الحِلّيّ .
• وكذلك قول الله – تعالى! - : أَفَكُلَّمَا جَآءَكُمۡ رَسُولُۢ البقرة: 87 ، مستفعلن فاعلن فعولن(55) .
• يَٰلَيۡتَنِي مِتُّ قَبۡلَ هَٰذَا مريم: 23 ، مستفعلن فاعلن فعولن .

أما الخفيف وهو من البحور المزدوجة والمنتشرة في الشعر العربي ، فاعلاتن مستفعلن فاعلاتن ، خطير ، فقد ورد في القرآن ما يوافق وزنه منهوكا أو مشطورا ، فالمنهوك ما بني على تفعيلتين مثل قوله – تعالى! - : وَٱتَّقُواْ يَوۡما تُرۡجَعُونَ البقرة: 281 ، مستفعلن مستفعلن ، وهنا يوجد سبب خفيف في الآخر في مستفعلن ومتفاعلن ، الرجز والكامل يجوز فيه زيادة حرف في الآخر أو حرفين التذييل والتسبيغ والترفيل ، وقد يرد مصراعا أي شطر مثل :
• وَيُرِيدُونَ أَن تَضِلُّواْ ٱلسَّبِيلَ النساء: 44 ، فعلاتن متفعلن فاعلاتن .
إِنَّ قَٰرُونَ كَانَ مِن قَوۡمِ مُوسَىٰ القصص: 76 ، فاعلاتن متفعلن فاعلاتن وقد يوافق الوزن التام ، مثل قوله – تعالى! - : وَسَارِعُوٓاْ إِلَىٰ مَغۡفِرَة مِّن رَّبِّكُمۡ وَجَنَّةٍ عَرۡضُهَا ٱلسَّمَٰوَٰتُ وَٱلۡأَرۡضُ أُعِدَّتۡ لِلۡمُتَّقِينَ ٱلَّذِينَ آل عمران: 133 – 134، أرأيتم بكم آية مررنا ! وَسَارِعُوٓاْ إِلَىٰ مَغۡفِرَة مِّن رَّبِّكُمۡ آل عمران: 133 ، هذه خارج الميزان أما أول الكلام الموزون فهو: (جنة/عرضها الس/سماوا/ت والأر/ض أعدتْ/ للمتقي/نَ الذين) . فما هذا ؟ بيت كامل تام ؛ فاعلاتن متفعلن فاعلاتن فعلاتن مستفعلن فاعلاتن(56) .
وأما الرباعية فقد اكتشفها الباقلاني حين قال : وَمَن تَزَكَّىٰ فَإِنَّمَا يَتَزَكَّىٰ لِنَفۡسِهِۦۚ فاطر: 18 ، سبقنا بألف سنة(57) .

أما توأمه المديد ، وما توأمه ؟ ولدا من رحم واحدة ، الخفيف فاعلاتن مستفعلن فاعلاتن ، المديد فاعلاتن فاعلن فاعلاتن ، ما الفرق بينهما ؟ في التفعيلة الوسطى سبب خفيف واحد يحذف من (مستفعلن) فتصير (فاعلن) ، لذا سموه توأمه ، وعلى فكرة القارئ للشعر العربي يجد الخفيف منتشرا ، والمديد نادرا ، كأن أخاه الأكبر قد ابتلعه ، ابتلع المديد ، ليس عندنا إلا بضع قصائد من التراث قديما يَعْزِفُ الناس عنها ، فليس منتشرا لا في القديم ولا في الحديث، المديد هذا لم يرد إلا نادرا ، فلا فرق بينهما إلا التفعيلة الوسطى ، كذلك لم يرد وزنه في القرآن إلا نادرا ، مجزوءا يعني مصراع ، أو منهوكا يعني ما بني على اثنتين ، مثل قوله- تعالى! - : قُلۡ هُوَ ٱللَّهُ أَحَدٌ الإخلاص: 1، تصوروا ، قل/هو اللا/هُو أحد ، فاعلاتن فاعلن ، صلب العقيدة !
أحد الطلاب : لم أشبعنا ؟
أ.د. سالم عياد : لم ! من أجل موسيقى الشعر .
الطالب نفسه : لكن قبلها ساكن .
أ.د. سالم عياد : قبل ماذا ؟ .
الطالب نفسه : قبل الهاء ساكن .
أ.د. سالم عياد : الهاء ضمير يا ابني .
الطالب نفسه : هاء (الله) .
أ.د. سالم عياد : أنا أخطأت في النحو ؟
بعض الطلاب : يقصد الهاء من كلمة (الله) .
أ.د. سالم عياد : نعم ، لأني محتاج إلى الإشباع ، لأملأ التفعيلة ، وهذا جائز في الشعر العربي(58) .

طبعا أنتم عارفون : تِلۡكَ ءَايَٰتُ ٱلۡكِتَٰبِ ٱلۡحَكِيمِ لقمان: 2 ، في لقمان . ومثله :
تِلۡكَ ءَايَٰتُ ٱلۡكِتَٰبِ ٱلۡمُبِينِ الشعراء: 2 في الشعراء .

أما المنسرح فهو وزن قليل نادر في الشعر، لأن - أستغفر الله إن قلت - به قلقا في إيقاعه ، المنسرح مستفعلن مفعولاتُ مستعلن ، التفعيلة الوحيدة التي تنتهي بمتحرك فتستوجب من الناظم أن يكون يقظا جدا ، وعلى فكرة لدينا ديوان نادر لا أدري كيف لم تعرفوه ديوان "لزوميات وقصائد أخرى" الذي هو للأستاذ الكبير الدكتور عبد اللطيف عبد الحليم أبو همام .
أ.د. محمد جمال صقر : إنه أخرج بالإضافة إلى ذلك كتابا مستقلا اسمه من مقام المنسرح ، والذي سماه له أحمد عبد المعطي حجازي ، قال له سمه من مقام المنسرح ، فسماه ، إنه رجل منسرحي قديم !
أ.د. سالم عياد : خطير ! كله منسرح ومقتضب ومجتث(59) .
أ.د. محمد جمال صقر : وعلاقته بالمنسرح علاقة عضوية !

ففي القرآن لا يرد إلا قليلا وَقَدۡ فَرَضۡتُمۡ لَهُنَّ فَرِيضَة البقرة: 237 ، وقد فَرَضْ/مُتَفْعِلُنْ، تُمْ لَهُنَّ/فاعلاتُ ، فريضةً/متفعلن ، فهو نادر ، حتى في الشعر العربي قليل ، أأرجو أن أجده في القرآن الكريم ! هو لا يستقطب أنظار الشعراء أنفسهم .



أما المقتضب وهو عكس المنسرح وإن كان ثنائيا ، فاعلاتن مستفعلن ، فهو قليل نادر في الشعر العربي أيضا ، وكذلك لا يكاد يرى وزنه في القرآن الكريم إلا لِماما ، مثل قوله – تعالى !- :
• وَٱعۡفُ عَنَّا وَٱغۡفِرۡ لَنَا البقرة: 286 ، فاعلاتن مستفعلن .
• (إن الله كان على) ، وأقف ، (كل شيء قدير) .
• ءَامَنَ ٱلرَّسُولُ بِمَآ البقرة: 285 ، فاعلات مستعلن ، (مستعلن) يعني فيها طي ، سقط الرابع الساكن من (مستفعلن) ، (مستفعلن) – كما قلت - تفعيلة الرجز تقبل الزحافات والعلل بكثرة ، ولذلك فهي منتشرة – كما قلت - في سبعة أوزان ، والرجز وحده منتشر أيضا لأن التفعيلة طيعة ، تتحمل الزحافات والعلل : خبن ، وطي ، وخبل .

إذن فالمقتضب من المنسرح بعد حذف تفعيلتيه الأوليين كما تعلمون من الشطرين، يعني المنسرح مستفعلن مفعولاتُ مستعلن ، الآخر المقتضب مفعولات مستعلن مفعولات مستعلن .

أما المجتث وهو مجتث من الخفيف ، يعني منتزع منه بعد حذف ، أيضا ، تفعيلتيه الأوليين من الشطرين ، يعني مستفعلن فاعلاتن - فهو رغم ندرته في الشعر إلا أنه من العجب أن يشيع وزنه في القرآن كثيرا - هذه أوقفتني مذهولا ، ولي تعليق سأقوله سريعا ، أسأل الله أن نستوعبه - فقد ورد ثنائيا ورباعيا ، أي تاما كاملا ، كيف ؟(60)

• حَقًّا عَلَى ٱلۡمُحۡسِنِينَ البقرة: 236 ، مستفعلن فاعلاتن
• وَبَشِّرِ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ البقرة: 223
• لَا يَسۡتَطِيعُونَ ضَرۡبا البقرة: 273
• وَهَبۡ لَنَا مِن لَّدُنكَ آل عمران: 8
• ذُوقُواْ عَذَابَ ٱلۡحَرِيقِ آل عمران: 181
• يَٰٓأَيُّهَا ٱلۡكَٰفِرُونَ الكافرون: 1
وغير ذلك كثير ، قد يكتمل ، فيصير أربعا ، مثل ماذا ؟(61)

• إِنِّيٓ أَخَافُ عَلَيۡكُمۡ عَذَابَ يَوۡمٍ عَظِيم الأحقاف: 21
• وَإِنِّيٓ أَخَافُ عَلَيۡكُمۡ عَذَابَ يَوۡم مُّحِيط هود: 84
• تُبَوِّئُ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ مَقَٰعِدَ لِلۡقِتَالِۗ آل عمران: 121 ، (مقاعد للقتال) انكسر الوزن ، لكن لو نوَّنّا، لو صرفنا الممنوع وُزن البيت ، وهذا جائز في الشعر لا في القرآن ، أقول مرة أخرى هذا جائز في الشعر لا في القرآن ، يعني - أستغفر الله !- في غير القرآن لو فيه (نبوئ المؤمنين مقاعدا للقتال) لاستقام الوزن ، معي ؟

أما الرمل فهو فاعلاتن فاعلاتن فاعلن ، فلعله لم يرد وزن مصراعه هذا إلا في قوله– تعالى !- : وَلَقَدۡ رَٰوَدتُّهُۥ عَن نَّفۡسِهِۦ يوسف: 32 ، في يوسف ، التي اكتشفها الحِلِّيّ ، ولكنه لفت نظر الباقلاني منذ ألف عام ، فمثل عليه بقوله – تعالى !- : لَن تَنَالُواْ ٱلۡبِرَّ حَتَّىٰ تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَۚ آل عمران: 92 ، وقف عند واو الجماعة(62) ، في آل عمران ، وكذلك قوله – تعالى!-: وَجِفَان كَٱلۡجَوَابِ وَقُدُور رَّاسِيَٰتٍۚ سبأ: 13 ، وتناولنا هذا ، وغير هذا وذاك فقد ورد ثنائيا مثل قوله – تعالى !- :
• وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيّ آل عمران: 146 ، فاعلاتن فاعلاتن .
• وَهَٰذِهِ ٱلۡأَنۡهَٰرُ تَجۡرِي الزخرف: 51 ، فاعلاتن فاعلاتن .(63)
• وَسَنَجۡزِي ٱلشَّٰكِرِينَ آل عمران: 145 ، فعلاتن فاعلاتن .

أما المضارع - وهو الأخير- فلا سامحني الله إن أَنْحَيْتُ عليه باللائمة ، هو الذي ضارع الهزج ، سمي مضارَعا لأنه ضارع الهزج ، مفاعيلن ، فاعلاتن ، يشترط علماء العروض في مفاعيلن أنها تُخْتَم بمتحرك ، أو فاعلاتن الأخرى تختم بمتحرك ، فكيف لو لم تختما بمتحرك، وجاءتا تامتين ؟ مفاعيلن ، فاعلاتن ، ماذا نفعل ؟ أتدرون ماذا تكون ؟ تكون المجتث ، وما عكس المجتث ؟ مستفعلن فاعلاتن ، ولذلك اختلط بالمجتث كثيرا ، عندي كثير من الأمثلة للتفعيلتين التامتين ، فلعله كان مضارعا لكن الشاعر وهو ينظم لم ينتبه ، أو ربما أكون أنا مخطئا في الفهم ، فليس في القرآن الكريم مضارع ، أستغفر الله إن قلت ذلك ، ربما لو قرأتم أنتم لاستخرجتم شيئا مما غفلت عنه(64) ، مثل :
• لَكُمۡ عَدُوّ مُّبِينٌ البقرة: 168.
• لَعَلَّكُمۡ تَتَّقُونَ البقرة: 21 .


إذن فالآيات القرآنية التي جاءت على وزن من أوزان الشعر العروضية كثيرة جدا ، ولكثرتها فقد تفوت على القارئ الذي يؤديها أداء قرآنيا خاضعا لعلم التجويد لا للإيقاع الشعري .

توصيات سالم عياد :
1- من يؤدي الأيات القرآنية أداء علم التجويد سيفوت عليه الانتباه للأوزان الشعرية ، ليس حراما !


2- تحتاج إلى أكثر من قارئ ، ليستدرك كلٌّ ما فات الآخرين ، وقد لا يكون عجيبا إذا قرأ عالم أزهري القرآن الكريم بإتقان وبتأن ، فوقف على مئات الآيات التي تُكوِّن مصراعا من وزن ما ؛ رجل مازال حيا ، والديوان منشور ، فراح ينظمها في سلك قطعة شعرية من إنشائه ، يختم بالآية الكريمة التي نظم على وزنها قطعته الشعرية ، وهذا الأستاذ هو العالم الفاضل الدكتور محمود علي السمان عميد كلية اللغة العربية في إيتاي البارود في البحيرة ، أعتقد هذا ، خرج ديوانا كاملا من جزئين كبيرين ، توفر لديه من هذا العمل جزآن كبيران ، ماذا كان يعمل ؟ يضع الآية القرآنية الموزونة ، وينسج على منوالها قطعة ، أو مقطعة صغيرة أو كبيرة ، بيتين أو ثلاثة ، ما يفتح الله به عليه ، ويختم بهذه الآية ، أنا نقلت أمثلة من الكتاب، وللأسف الشديد الكتاب وقع في يدي منذ خمس عشرة سنة ، ولم يكن التصوير بالألكترون في هذه الحال منتشر ، ففرطت فيه ، وأنا نادم عليه ، ولم أجده حتى الآن ، فاسمعوا بعض الأمثلة التي كتبها(65) :

- قدموا الشكر لرب أكرمِ فهْو من علمكم بالقلمِ .
واقرأوا ما استعطمو باسم الذي "علم الإنسان ما لم يعلمِ" .

- يا رسولَ اللهِ ما أعظمَ في الدارينِ أمركْ .
يا حبيب الله هذا ربنا يرفع قدرك .
"قد شرحنا لك صدركْ ووضعنا عنك وزركْ" .
"الذي أنقض ظهركْ ورفعنا لك ذكركْ" .

- يا أخي فلتترفقْ قبل أن يَصْدر حكمُ .
ظن بالمسلم خيرا "إن بعض الظن إثمُ" .

ديوان من جزئين كاملين للدكتور محمود علي السمان ، وهو شيخ أزهري .

- إن عددنا نعمة الله فلن نستطيع الحصر كي نشكرهُ .
لكنِِ الْإنسان ينسى ربه "قتل الإنسان ما أكفرهُ" .
في سورة عبس وتولى .

وقد قدم لهذا الديوان العالم والمحدث الكبير الأستاذ الدكتور أحمد عمر هاشم - كلاهما حي يرزق - قدم لهذا الديوان بتقريظ رقيق جدا مما يشجع الناشئة على العمل الدؤوب على اكتشاف مزيد من كنوز القرآن الكريم كتاب الله – تعالى! - وأشكر لكم حسن استماعكم ، وشكرا، والسلام عليكم .

أ.د. محمد جمال صقر :
الله الله الله الله ! هذه ليلة مشهودة ؛ تجلت فيها أرواح القراء والشعراء ، يتنازعون أداء الآيات ؛ فأما القراء فيُجوِّدون ، ليثبتوا لك أن هذه هي الطريقة ، وأن القراءة سنة متبعة ، وأن هذا كلام ربنا ، يتميز من سائر الكلام بما ينبغي له من تجويد ، وأما الشعراء الذين تعودوا على طريقتهم في الأداء فيقرؤون بطريقتهم ، وينتبهون ، وينبهونك على إحساسهم الخاص .

من أروع الأفكار التي قدمها أستاذنا هذه الفكرة التي تقول لك كأن القرآن الكريم الذي هو دستورنا وأصل الأصول لدينا لم يخل من تأصيل هذا الأصل كذلك مع الأصول الأخرى ، فكما أصل أصول الأصوات والصرف والنحو - هاهو أستاذنا يدلنا على أنه أصل أصول أنغام الشعر كذلك ، ولكنه في الوقت نفسه يعلمك أنه ليس بشعر ، فتفاجأ بكلمة في الوسط ، بحرف ، بكذا .

ليلة فريدة ، لا تتيسر هذه ، لا تتيسر ، لا أظنها تتيسر ! وهذا الموضوع الذي طرحناه لم يعهده الناس في هذه الكلية ، وهو غير معهود على العموم ، ولم أسمع به حدث في أي مكان ؛ فلله الحمد على نعمته .

تسمية أستاذنا للمسألة بأنها "نظام الإيقاع في القرآن الكريم" بدلا من "التراكيب العروضية في القرآن الكريم" تسمية موفقة جدا ، كلمة إيقاع ، يا جماعة ، كلمة عامة تشمل في داخلها العروض ، فبينهما عموم وخصوص ؛ كل عروض إيقاع ، وليس كل إيقاع عروضا ، فالعروض إيقاع خاص ، فكلمة إيقاع تشمل العروض ، وأستاذنا إذن عبر عن مسألة واشتمل عليها في عنوانه من غير أن يواجه الناس بكلمة عروض الشديدة التعلق بخصائص الشعر ، لكن أنا لي طريقتي ، أحببت أن نَتَهَدّى إليها سريعا ، وعنوان أستاذنا يشمل مع مسألتنا غيرها من المسائل ، هذا فرق كذلك ، نظام الإيقاع في القرآن الكريم يشمل مع مسألتنا غيرها من المسائل ؛ يعني مثلا مما أشاروا إليه أن السورة إذا تسمت بحرف كقاف وصاد وكذا - وهذا الذي دلنا عليه الباقلاني على ما أظن - غلب الحرف عليها ، حتى إنك لتجده في الآيات في الداخل غالبا على غيره بطريقة ما ، فهناك من الإيقاعات كذلك إيقاع توظيف الأصوات ، إيقاع توظيف الصيغ ، إيقاع توظيف التراكيب ، بعيدا عن العروض ، كل هذا داخل في الإيقاع ، فنظام الإيقاع في القرآن الكريم عالم ، بحر لا سواحل له ، كما قال أستاذنا .

تلاحظون أن أستاذنا وقف في تمثيله على ما يؤدي الأشطار إحساسا منه بأقل مقدار من الكلام الموزون ، كنا نكلمه قبل المحاضرة في كلمة أبي نصر الفارابي في كتاب "الموسيقى الكبير" الذي دلنا فيها على ما نتفق عليه في الكلام الموزون ، الذي نتفق عليه دوما هو أقل مقدار يخيل لك الوزن ، فنلاحظ أن أستاذنا نبهنا على أن الأشطار أشيع في هذا مما يثبت أن الشطر أقل مقدار من الكلام الموزون في تمثيل الوزن ، ووقفك عليه ، لكن أنا كنت أتمنى ، وأريد من أستاذنا أن يَخُصَّ الفواصل بتعليق ، فنحن سنتكلم عن الفواصل عن فواصل القرآن ، أنا ألاحظ أن أستاذنا يتحرك فيها حرا من غير مشكلة ، يعني مثلا (المؤمنينا) ويشبع على رغم أن هذا ليس في القرآن ، فأستاذنا تحرك في الأمثلة حركة حرة ، أنا أريد أن يقول لنا في هذه كلمة لكي نعتمدها في البحث ، نحن نتحرج لأن إشباعك للنون في (المؤمنينا) ليس من القرآن ، فهذه إضافة ، أنت نفسك ، يا أستاذنا ، كنت تعلمنا كيف منعنا القرآن من أن نستمر بإضافة حرف ، بحذف حرف ، بكذا ، وها أنت ذا تضيف حرفا في (المؤمنينا) لكي تكمل البيت ، هذه لابد أن نحسمها .

أ.د. سالم عياد : أستغفر الله ، هذا ليس جائزا في القرآن ؟
أ.د. محمد جمال صقر : أنا لا أعرف هذا .
أ.د. سالم عياد : لو أننا وصلنا ؟
أ.د. محمد جمال صقر : لا الوصل غير الإشباع ، مثلا (الحمد لله رب العالمينَ الرحمن الرحيم)، لكن لا نقول (الحمد لله رب العالمينا) .
أ.د. سالم عياد : لا ، أنا لم أقل هذا ، سأقول لكم ، الحركة وحدها كافية .
أ.د. محمد جمال صقر : جميل ، إذن أستاذنا يا جماعة لا يشبع ، أستاذنا يقصدها من غير إشباع.
أ.د. سالم عياد : أقصدها لكي أطمئنكم أن هذا الإِشباع يعطيني ساكنا ، وغير الإشباع يعطيني ساكنا أيضا ، أنا أريد حرفا ساكنا .
أ.د. محمد جمال صقر :
يعني يعطيني النغمة ، حتى (فاعلاتن) نفسها في الرمل ربما كانت (فاعلاتُ) واستقام الوزن، لامشكلة ، إذن أنا فهمت الآن فكرة أستاذنا ، بارك الله فيك ، يا أستاذنا!

كما قلت لكم من أروع اللقطات انظروا إلى هذه الفكرة في كلام أستاذنا ، من أروع اللقطات ، أن الطويل الذي هو ملك البحور لا نكاد نجد له أمثلة كثيرة في القرآن ، ليستمر تمييز إيقاع القرآن من إيقاع الشعر ، جميل !

في النهاية أوصى بتوصيات لنا لابد أن نراعيها :
الأداء ، لأنك إذا أديت أداء قراء لن تصل إلى شيء ، وكان أستاذنا الدكتور عبد الصبور شاهين كان يعكس في بعض المحاضرات ، يعكس يتندر على حملة القرآن حين يؤدون الشعر، وبالله ، مازلت أذكره في المدرجات الكبيرة يُجَوِّد معلقة امرئ القيس :

قفا نبْكِ منْ ذكرى حبيبٍ وَّمَنْزل .

والدكتور عبد الصبور من حملة القرآن والمُحَكَّمين ، فكأنه يقول لك انتبه ، للشعر إنشاد، وللقرآن تجويد ، وللنثر خطابة ، ولكلٍّ من هذا طريقه ، فأستاذنا يقول لك إذا أردت أن تنتبه إلى هذه الأنغام فلابد من أن تؤدي القرآن أداء الشعر بطريقة ما ، أما أداؤه على الطريقة المعهودة فهذه كما ترى ، أستاذنا نفسه قرأ بعض الآيات بالطريقتين ؛ بطريقة (فمنْ شاء فليؤمن وَّمنْ شاء فليكفر) مستحيل أن تصل إلى الطويل ، مستحيل !

كذلك أوصانا بالفريق ، وهذا الذي كنا نتمناه ، يا شيخ محمود ، في أول الفصل كنا نقسم القرآن على الشباب ، وفشلنا ، وانتهينا في النهاية إلى الاكتفاء بسورة البقرة التي زعموا أنها ليس فيها شيء(66) ، فجئتكم برأس الأمر وملاكه وذروة سنامه يدلكم على مئات المواضع في البقرة، إلا إذا جاءونا بأسئلة بني إسرائيل ، إلا إذا استشكلوا علينا بأسئلة بني إسرائيل ؛ ما هي ، إن البقر تشابه علينا ، فإذن حاجتنا إلى فريق حاجة مؤكدة .

ثم من أطرف ما ختم به - وهو ختم على طريقة المحاضرين الكبار طبعا - قدم هذه الطرفة للدكتور السمان في النهاية ، هذا الكتاب مدهش هذا الكتاب ! تدرون ما الذي تذكرت ؟ تذكرت تخميس الشعر ، لدينا في الشعر شيء يسمى التخميس ، يعني يأتي إلى بيت مثلا:

قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل بسقط اللوى بين الدخول فحومل .

فيقدم بين يديه ثلاثة أشطار على طريقته ، كأنها حاشية بين يدي الملك ، هكذا كنا نشبهها ، حاشية بين يدي الملك ، ثم يأتي البيت ، فأستاذنا الدكتور السمان كأنه خمس الآيات ، فيقدم أربعة أشطر من عنده ، ليكون الخامس جزء الآية .

أ.د. سالم عياد :
وليس ملتزما بالأعداد ، كما قلت ، بما فتح الله عليه به ، بيتين ، ثلاثة ، أربعة ، خمسة ، الله أعلم .

أ.د. محمد جمال صقر :
حتى هذا عندنا ، عندنا تثليث وتربيع وتخميس ، كل هذا يسمى عندنا شعر المشطرات ، شعر المشطرات يا جماعة المبني على هندسة الأشطر وكما يتفق ، طبعا هذا تجلى وتطور وتألق في الموشحات، وكل هذا لم ينجح كثيرا ، فوضع الدكتور السمان منه ديوانا كاملا بهذا الحجم يدل على عزم وهمة ، ويبدو أنه من أهل الله ، من أهل الإحساس الخاص بالآيات ، رأينا هذا في أهل الله الذين يحسون بالقرآن إحساسا خاصا ، فيزينون به الشعر .
أ.د. سالم عياد :
الجزآن شعر ديني .

أ.د. محمد جمال صقر :
رأيتم ! يعني فيه معاني الصوفية .

أ.د. سالم عياد :
لا فيه غزل ولا مدح ولا هجاء إلا المدح لسيدنا رسول الله وآل البيت .

أ.د. محمد جمال صقر :
يعني هذا متبع – يبدو - عند المتصوفة ، من كبار الصوفية الذين قرأت لهم أبو مسلم العماني، هذا مشهور ، وكتبت عنه(67) ، مثلا يكتب لك قصيدة في ألف وخمسمئة بيت ، كل بيت آخره لا إله إلا الله ، كل بيت ! آخره لا إله إلا الله ، هذا معروف عند الصوفية عند السالكين، أبو مسلم البهلاني ، ويقال العماني أبو مسلم ، هذا من عصر شوقي ، ليس بقديم ، هو من عصر شوقي ، وهو أكبر شعراء عُمان على الإطلاق ، وكان يتدفق بالشعر ، وعاش في زنجبار ، تعرفون زنجبار هذه التي كانت تملكها عمان ، وفتحتها ، وحكمتها ، وتنقل بينها وبين عمان ، ولعمان مدرسة في التصوف ، للعمانيين مدرسة في التصوف ، هذا من كبارها، فانظروا ، يبدو أن الدكتور السمان من هؤلاء كذلك .

الآن أنا أريد أن أسمع ، لكي لا أستولي على المحاضرة . تفضل أستاذ محمد كمال(68) .


أ.محمد كمال (أحد الطلاب) :
أشكر أستاذنا الدكتور محمد جمال على استضافته أستاذنا الدكتور سالم ، وأعتقد أن هذه المحاضرة كانت مغنية وممتعة ومفيدة في نفس الوقت ، ولم نشعر فيها بالوقت بصراحة ، لكن لي سؤال واحد ، أنا أعتقد ، وهذا رأيي ، ربما أكون مخطئا ، إذا قرأنا القرآن بالوزن العروضي أعتقد أننا بذلك أخرجناه عن كونه قرآنا ، وإذا قرأناه بترتيل وتجويد أخرجناه عن كونه شعرا .

أ.د. سالم عياد :
القارئ للقرآن الكريم المؤمن مهما تملكته الشاعرية ، وقرأ القرآن بأداء شعري لا يخرجه عن كونه قرآنا ، أنا بدأت كلامي بأن البيان العربي ثلاثة أنواع : شعر ، ونثر فني، وقرآن كريم ، ليس قرآنا فقط بل قرآن كريم ، فلا أعتقد أن القارئ للقرآن الكريم أو الذي يؤدي القراءة أداء شعريا أخرجه عن كونه قرآنا ، كيف ! هو قرآن قبل كل شيء ، لكنه يتميز بأنه جمع فنية الشعر وفنية النثر الفني معا ، فأنت تقرؤه بروح القارئ للنثر الفني وهو ليس نثرا فنيا ، أليس كذلك ؟ أليس قرآنا كريما متفردا ، نص متفرد من الذات العلية – سبحانه ، وتعالى! - فلا هو نثر فني ، ولا هو شعر ، اقرأه كما شئت ، لكن لا يخرج عن كونه قرآنا كريما ، والمسألة مسألة عقدية ، ليست مسألة ميول فحسب ، لا ، العقيدة هي التي تحكمني وتحكمك ، العقيدة ، وأنت تقرأ القرآن الكريم لِمَ تُدهَش حينما تقرأ نصا قرآنيا وتكتشف فيه أمرا ما ! ومن العلماء الدكتور زغلول النجار قرأ القرآن ، فاستوعبه ، فأخرج منه ما لم يخرجه أحد من علماء الكون ، هل هو أخرجه عن كونه قرآنا(69) !

الطالب :
لكن هذا استنباط ، الدكتور زغلول النجار هو يستنبط .

أ.د. سالم عياد :
طيب ، ما الذي أوحى إليه بهذا الاستنباط ؟

أحد الطلاب :
لكنه لم يتطرق إلى اللفظ القرآني .

أ.د. سالم عياد :
لا ، وقف عند اللفظ وقوفا جيدا .

أ.د. محمد جمال صقر :
على أية حال ، يا جماعة ، حتى الشعر نفسه أشاروا فيه إلى مذهبين من مذاهب أداء الشعر ، مذهب الفصحاء الذين لا يشعرون بالموسيقى ، ومذهب المغنين ، فأما الفصحاء فيعنيهم ضبط اللغة وإجادتها ، فإذا اختلف لديهم وضعان للكلمة بين زحاف يخرجها عن اللغة وتسليم اللغة آثروا الوضع ، وقد أشار إلى هذا ، مثلا ، المعري :

أبيت على معاريَ فاخرات بهن مُلَوَّب كَدَمِ العِباط .

قال فأما الفصحاء فيقولون : أبيت على معارٍ ، وأما المطربون المغنون فيقولون : أبيت على معاريَ ، كذلك القرآن ، أنت تؤدي ، أنت لاتَكْرُب نفسك ، أنت تؤدي ، فحيثما اتجهت نفسك اتجه الإيقاع ، وأحيانا يستقيم هل محمد رفعت مثلا - رضي الله عنه! - في أسلوبه الأدائي هذا يؤدي كما يؤدي سائر الناس ! أحيانا يتكون لديه أداء يثير موسيقى غير معهودة عند الناس ، ثم لماذا تنسى ما يسمى بالإعجاز ! الآية يختلف الناس فيها ، فهي تثبت نفسها ، تثبت خصوصيتها ، تثبت استقلالها عن الشعر باختلاف الناس الشديد فيها واختلاف الميول. رأيت !

ثم من ؟ تفضل .

أحد الطلاب :
تخوفنا عندما سمعنا العنوان ، لكن بعد المحاضرة أنا أظن أن دراسة القرآن من جانب الإيقاع(70) فيه تدليل على إعجاز القرآن ، بدراسة القرآن من جهة الإيقاع نثبت نفي الشعرية عن القرآن .

أ.د. سالم عياد :
جانب آخر من جوانب الإعجاز البياني كما قلت .

الطالب نفسه :
وكنت أقرأ الآية أو الآيات التي تحدى الله – عز ، وجل ! - فيها الكفار بأن يأتوا بمثل القرآن ولم يستطيعوا ، ربما زاد فهمي لها الآن .

أ.د. محمد جمال صقر :
الله يكرمك ! صحيح ، عبد الرحمن .

أ.د. سالم عياد :
الله يبارك فيك ، تسلم يا ابني !

عبد الرحمن (أحد الطلاب) :
أولا أشكر أستاذي على هذه المحاضرة ، وأريد أن أقول إن ذكر القرآن الكريم للشعر والشعراء ليس فيه ذم بل هو تنزيه للشعر عن سائر فنون القول عند العرب .

أ.د. محمد جمال صقر :
تنزيه للشعر أم تمييز للشعر ؟

الطالب نفسه :
تمييز وتنزيه للشعر عن سائر فنون القول ، فلم يكن الشعر وحده هو الفن الموجود عند العرب، كانت الخطابة ، وغيرها .

أ.د. سالم عياد :
وقبل الشعر وقبل الخطابة سجع الكهان ، أول الفنون العربية .