حينما يقول السّياب([1]): " إذن هاهو الشاعر العربي يتخطى بدوره زمن العافية والانسجام ، ينوء تحت عبء الزمن الرهيب ، يشرع في تمزيق أقنعة المنطق ، والمتعارف عليه ، يطمح لأن ينقب جدران المعقول ، ويسمِّر عينيه على وجه الواقع العادي ليبحر بالخطايا وهي تطبق على العالم كأخطبوط هائل ، فتفترس الرؤيا عينيه " .
وأضع بجوار هذا تعريف الشعر عند إليوت بأنه : " ليس انطلاقاً للانفعال ، لكنه هروب من الانفعال ، إنه ليس تعبيراً عن الشخصية ، ولكنه هروب من الشخصية "([2]).
أجد أن السياب يهرب من انفعالاته التي أرهقت بنيته الضئيلة ، وروحه المضطربة ، وقلبه المتوهج بكم النفي والغربة والوحدة والحرمان والاضطهاد اللامنطقي ، وعبودية المكان والزمان ، والموت الفاجع في والديه ، ومرضه من بعد ..
يهرب من هذه الانفعالات المحمومة التي تعتصره إلى الرمز أو الأسطورة إلى المطر .. إلى العراق .
وقد يعني المطر أو العراق عنده أشياء عدّة ، فهو يتعامل مع لفظة المطر خاصة تعاملاً مختلفاً ؛ إذ أوضحت بعض قصائده أنه كان يرى فيه الفكرة السائدة قديماً من أنه أصل الحياة ، بينما نجده في قصائد أخرى يحمّله معنى الثورة على القهر الاجتماعي والسياسي ، وربط بين المطر وجوع العراق الدائم ، في حين نجده مرة ثالثة يعدّه صنواً للدم ، كذلك لانعدم أن نجده في قصائد أخرى رمزاً للبعث والحياة ، وقد يكون حاملاً للنقيضين : الموت والحياة([3]). لكن ترانيم العراق والمطر بالإضافة إلى أهميتهما في حياته وارتباطه بهما كانتا كالقناع الذي يتوارى خلفه ..
لقد ارتفع عن معناهما السطحي الظاهر إلى ألفاظ سحرية دالة .. دافقة في شعره ، حيّة ، تجسّم لنا الإنسان ، والحياة ، والصراع ، والحبّ ، والفشل ، ومشاعر أخرى مختلطة ..
وهاهي نماذج من شعره يتردّد فيها المطر .. أو يتردد العراق ..
جوعان في القبر بلا غذاء
عريان في الثلج بلا رواء
صرفت في الشتاء ..
أقضّ يا مطر ..
.
(مدينة السندباد) ، ثم يستمرّ في نفس القصيدة :
غداً سيصلب المسيح في العراق
ستأكل الكلاب من دم البراق
.
إلى أن يقول :
يا أيها الربيع ..
يا أيها الربيع ، ما الذي دهاك ؟
جئت بلا مطر
جئت بلا زهر([4])..
.
ويقول في قصيدته : (صياح البطّ البري) :
صياح كأجراس ماء .. كأجراس حقل من النرجس
يدندن والشمس تصغي ، يقول :
بأن المطر ..
سيهطل قبل انطواء الجناح ..
وقبل انتهاء السفر([5])..
.
أو يقول :
يا ليل أين هو العراق ؟
يا ليتني طفل يجوع ، يئنّ في ليل العراق !
يا ليل ضمخك العراق
بعبير تربته ، وهدأة مائه بين النخيل([6]).
والحقيقة أن كلمة المطر إنما هي المرادف الذي لازمه خلال تطوره الشخصي والنفسي ، يقول عن (لاة) الحزينة ، ويقصد أمه الميتة :
ترفع بالنواح صوتها مع السحر ..
ترفع بالنواح صوتها ، كما تنهد الشجر
تقول : (يا قطار ، يا قدر)
قتلت - إذ قتلته - الربيع والمطر ..
.
ويعرّي الواقع الإنساني المزيف الذي لا يرحم جوع الأطفال ، صغار بابل الذين يحملون سلالاً من الصبار ، فيقول في قصيدته التي يتوحد في عنوانها العراق والمطر ، وهي (مدينة بلا مطر) :
مدينتنا تؤرق ليلها نار بلا لهب
تحم دروبها والدور ، ثم تزول حماها ..
ويصبغها الغروب بكلّ ما حملته من سحب([7]).
... إلى أن يقول :
مدينتنا تؤرق ليلها نار بلا لهب
.
... سحائب مرعدات مبرقات دون أمطار.
لقد كان لجوء السياب إلى الأسطورة في كثير من أشعاره نوعاً من الاغتراب الذاتي عن طريق الهرب من المدينة وأخيلة اليسار الصناعي([8]).
وليس من التنكر للشعر الذاتي أن نقول : إن بدراً كان على خير أحواله إجادة حين كان يستطيع أن يوحّد بين أزمته الذاتية وأزمة أمته ، أو حين يجعل التجربتين غير متباعدتين ، ذلك أنه لم يكن قادراً على أن يخرج نفسه من الصورة في كلّ حين([9]).
ولعلّ العراق هي الأم التي يبحث عنها ، والتي فقدها ولما يرتوي بعد من عطفها وحنوّها والتفافها حوله .. أو لعلّها المرأة التي طالما اشتاقت إليها روحه لتتفهمه و يلوذ بدفئها .. وأقصد الحبيبة ، لكن أياً كان حبه للمرأة فإن العراق هو حب آخر يشمل كلّ هذا ، ويحتضن كلّ همومه وعذاباته وانفعالاته .. التي ربما لم يحتضنها سوى (عراقه) . أما المطر فلعله الأنشودة - كما أسماها - التي تبعث فيه الحياة .. أو هي الانعتاق من ربقة القلق والتوتر والتناقض ، ونسيان هذا كله .. وهو ينشد :
مطر .. مطر .. مطر ..
والحق أن حياة السياب تتضمن قوسين كبيرين ، هما مرحلة البحث عن الأم .. أو العلاقة بين الشاعر والموت ، وبينهما خط قصير نحيل متعرج يمثل انسجامه الفني في الجماعة أو نقمته عليهما ، وفي أثناء تلك الفترة القصيرة زمنياً وجد الشاعر نفسه ثم فقدها في سرعة([10]).
والملاحظ في شعره أنه يزاوج فيه ما بين الحب والموت ، والموت والمرض ، والحب والمرض ، وكلّ ذلك والمدينة والزمان في ازدواجية لم تفارقه في معظم أشعاره([11]).
وأختم هذا المبحث بقول للسياب نفسه في مقدمة مجموعته (أساطير) يقول فيها :
" أنا من المؤمنين بأن على الفنان ديناً يجب أن يؤديه لهذا المجتمع البائس الذي يعيش فيه ، ولكنني لا أرتضي أن نجعل الفنان - وبخاصة الشاعر - عبداً لهذه النظرية . والشاعر إذا كان صادقاً في التعبير عن الحياة في كلّ نواحيها ، فلا بدّ أن يعبر عن آلام المجتمع وآماله ، دون أن يدفعه أحد إلى هذا ، كما أنه من الناحية الأخرى يعبر عن آلامه هو وأحاسيسه الخاصة التي هي في أعمق أغوارها أحاسيس الأكثرية من أفراد هذا المجتمع "([12]).
([1]) بدر شاكر السياب ، ولد عام (1926م) في بلدة تُدعى (جيكور) ، تلقّى تعليمه الابتدائي في مدرسة (بابا سليمان) القريبة من جيكور ، رعته جدته لأبيه بعد موت والدته في الثالثة والعشرين من عمرها .. تلقّى تعليمه الثانوي في البصرة ، وتخرّج من دار المعلمين العليا ببغداد عام (1948م) ، اتّجه اتجاهاً قومياً عربياً من غير أن تفارقه المفاهيم الاشتراكية التي سجن من أجلها ، توفّي عام (1964م) على أثر داء عضال لازمَهُ بضع سنوات في أواخر حياته ، أشهر آثاره : (أزهار وأساطير) ، (العبد الغريق) ، (منزل الأقنان) ، (أنشودة المطر) ، (شناشيل ابنة الجلبي) .. وقد جمعت كلها في ديوان واحد نشرته دار العودة في بيروت عام (1971م) .
([2]) الاغتراب في شعر بدر شاكر السياب ، أحمد عودة الشقيرات ، ص70 .
([3]) الأسطورة في شعر السياب ، عبد الرضا علي ، ص154 .
([4]) الاغتراب في الشعر العراقي ، محمد راضي جعفر ، ص150 .
([5]) الأسطورة في شعر السياب ، ص166 ، وانظر إن شئت : قصيدته (الرؤيا) .
([6]) الاغتراب في شعر بدر السياب ، ص113 ، وانظر إن شئت قصيدته (وداع) و (غريب على الخليج) .
([7]) الاغتراب في شعر السياب ، ص116 ، 123 .
([8]) المرجع السابق ، ص111 .
([9]) بدر شاكر السياب ، دراسة في حياته وشعره ، إحسان عباس ، ص308 .
([10]) المرجع السابق ، ص303 .
([11]) الاغتراب في شعر السياب ، ص154 .
([12]) المرجع السابق ، ص73 .
المفضلات